Function of the Mosque in Society
وظيفة المسجد في المجتمع
Mai Buga Littafi
وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
Lambar Fassara
الأولى
Shekarar Bugawa
١٤١٩هـ
Inda aka buga
المملكة العربية السعودية
Nau'ikan
[مقدمة]
وظيفة المسجد في المجتمع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الهادي الأمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
فيسرني كل السرور ويشرفني أن تلقيت دعوة كريمة من صاحب المعالي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي للاشتراك في الملتقى الذي ستقيمه الوزارة في المدة من ١٤ إلى ١٨ / ١٠ / ١٤١٤ هـ، فتلبية لهذه الرغبة كتبت ما أسند إلي بحثه ألا وهو:
" وظيفة المسجد في المجتمع مع إضافة بعض أحكام المسجد ". وإن كان بحثا متواضعا، قصيرا لقلة المدة التي حددت لي، فأمل أن يكون البحث مناسبا وصالحا لما أعد له. وفق الله العاملين بهذه الوزارة وسدد خطاهم وكلل مساعيهم بالنجاح والتوفيق، وأن يكون هذا الملتقى بداية خير وهداية وبركة.
والله يوفق الجميع.
أ. د. صالح بن ناصر الخزيم
كلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم
٢٩ - / ٨ / ١٤١٤ هـ
1 / 3
[شرح مفردات العنوان]
شرح مفردات العنوان الوظيفة: المنصب والخدمة المعينة، والوظيفة: ما يقدر من عمل أو طعام أو رزق، وغير ذلك في زمن معين، والعهد والشرط، ج وظف ووظائف، ويقال: فيها وظائف ووظف: أي نوب ودول (١) .
المسجد لغة: هو مفعل بالكسر اسم لمكان السجود، وبالفتح اسم للمصدر، قال أبو زكريا الفراء: كل ما كان على فَعَل يَفْعُل كَدخَل يَدْخُل كَالْمَفْعَل منه بالفتح اسما كان أو مصدرا، ولا يقع فيه الفرق. مثل دخل مدخلا.
ومن الأسماء ما ألزموها كسر العين، منها: المسجِد، والمطِلع، والمغرِب والمشرِق وغيرها، فجعلوا الكسر علامة للاسم، وربما فتحه بعض العرب، وقد روى: المسجِد والمسجَد والمطِلع والمطَلع، قال: والفتح في كله جائز، وإن لم نسمعه.
قال في الصحاح: والمسجَد بالفتح: جبهة الرجل حيث يصيبه السجود، ويقال: مسيد بفتح الميم حكاه غير واحد (٢) .
_________
(١) المعجم الوسيط ٢ / ١٠٥٤.
(٢) أعلام الساجد بأحكام المساجد ص / ٢٦ / والقاموس ١ / ٣٠٠ / مادة (سجد) والصحاح ٢ / ٤٨٣ - ٤٨٥، وتاج العروس ٢ / ٣٧١- ٣٧٢ / مادة (سجد) .
1 / 4
أما المسجد شرعا فكل موضع من الأرض لقوله ﷺ: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» (١) وهذا من خصائص هذه الأمة، قال القاضي عياض: لأن من كان قبلنا كانوا لا يصلون إلا في موضع يتيقنون طهارته، ونحن خصصنا بجواز الصلاة في جميع الأرض إلا ما تيقنا نجاسته.
ولما كان السجود أشرف أفعال الصلاة لقرب العبد من ربه اشتق اسم المكان منه فقيل: مسجد، ولم يقولوا: مركع، ثم إن العرف خصص المسجد بالمكان المهيأ للصلوات الخمس حتى يخرج المصلى المجتمع فيه للأعياد ونحوها فلا يعطى حكمه (٢) .
المجتمع: موضع الاجتماع، والجماعة من الناس. (محدثة) (٣) .
_________
(١) البخاري في صحيحه في التيمم ١ / ٨٦ ومسلم في صحيحه في كتاب المساجد وموضع الصلاة ١ / ٣٧١ بلفظ: وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا.
(٢) أعلام الساجد بأحكام المساجد ص ٢٧- ٢٨ ومرقاة المفاتيح بشرح مشكاة المصابيح ١ / ٤٤١.
(٣) المعجم الوسيط ١ / ١٣٦.
1 / 5
[فضل المساجد]
(فضل المساجد) المساجد أفضل بقاع الأرض وأفضلها المسجد الحرام بمكة ثم مسجد المدينة، ثم المسجد الأقصى، هذا عند الشافعي وأبي حنيفة (١) أما المالكية فعندهم مسجد المدينة ثم المسجد الحرام ثم المسجد الأقصى (٢) .
وعن ابن عباس: قال: «المساجد بيوت الله في الأرض تضيء لأهل السماء كما تضيء نجوم السماء لأهل الأرض» . رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون (٣) . وعن عبد الله بن عمر: «أن رجلا سأل النبي ﷺ أي البقاع خير، وأي البقاع شر؟ قال: خير البقاع المساجد، وشر البقاع الأسواق» (٤) وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «المسجد بيت كل تقي، وتكفل الله لمن
_________
(١) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم ٤ / ٨٥ / والفروع ٣ / ٤٨٩.
(٢) القوانين الفقهية ص / ٣٧.
(٣) مجمع الزوائد ٢ / ٧، والطبراني في الكبير ١٠ / ٣١٩.
(٤) رواه الطبراني في الكبير، كما في مجمع الزوائد ٢ / ٦ / وقال: فيه عطاء بن السائب وهو ثقة ولكنه اختلط في آخر عمره وبقية رجاله موثقون.
1 / 6
كان المسجد بيته بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله، إلى الجنة» (١) .
وعن عبد الله بن عمرو عن رسول الله ﷺ قال: «ستة مجالس: المؤمن ضامن على الله تعالى ما كان في شيء منها: في مسجد جماعة، وعند مريض، أو في جنازة أو في بيته أو عند إمام مقسط يعزره ويوقره» (٢) .
وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله ليضيء للذين يتخللون إلى المساجد في الظلم بنور ساطع يوم القيامة» (٣) .
وعن سلمان عن النبي ﷺ قال: «من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر الله، وحق على المزور أن يكرم الزائر» (٤) .
_________
(١) رواه الطبراني في الكبير والأوسط، والبزار، وقال: إسناده حسن كما في مجمع الزوائد ٢ / ٢٢ وقال: قال: ورجال البزار كلهم رجال الصحيح.
(٢) رواه الطبراني في الكبير والبزار بنحوه كما في مجمع الزوائد ٢ / ٢٣ وقال رجاله موثقون.
(٣) رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن كما في مجمع الزوائد ٢ ٣٠.
(٤) رواه الطبراني في الكبير وأحد إسناديه رجاله رجال الصحيح. كما في مجمع الزوائد ١ / ٣١.
1 / 7
وعن أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: «من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح»، متفق عليه (١) .
وعن أبي موسى ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصليها ثم ينام» . متفق عليه (٢) .
وعن بريدة ﵁ عن النبي ﷺ: «بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة» . رواه أبو داود والترمذي (٣) .
_________
(١) البخاري في صحيحه: باب فضل من غدا إلى مسجد ومن راح ١ / ١٦١ بنحوه، ومسلم في صحيحه في كتاب المساجد ومواضع الصلاة: باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات ١ / ٤٦٣ والنزل: ما يهيأ للضيف عند قدومه كما في هامش صحيح مسلم.
(٢) البخاري في صحيحه: باب فضل صلاة الفجر في جماعة ١ / ١٥٩. ومسلم في صحيحه في كتاب المساجد ومواضع الصلاة: باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد ١ / ٤٦٠.
(٣) أبو داود في سننه في الصلاة: باب ما جاء في المشي إلى الصلاة في الظلام ١ / ٣٧٩. والترمذي في جامعه في أبواب الصلاة: باب ما جاء في فضل العشاء والفجر في الجماعة ١ / ٤٣٥، وقال: حديث غريب.
1 / 8
وعن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها» (١) .
وفيه أيضا في حديث: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فقال: ورجل قلبه معلق بالمساجد» (٢) .
قال النووي: معناه شديد الحب لها والملازمة للجماعة فيها (٣) .
وعن عثمان ﵁ أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة» (٤) .
المساجد بيوت أذن الله جل وعلا أن ترفع ويذكر فيها اسمه وتطهر من الأنجاس الحسية والمعنوية كاللغو ورفث الحديث من غيبة وشتم وقيل وقال.
_________
(١) مسلم في صحيحه في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ١ / ٤٦٤ باب فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح وفضل المساجد.
(٢) البخاري في الزكاة: باب الصدقة باليمين ٢ / ١١٦، ومسلم في صحيحه، في الإمارة: باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخاله المشقة عليهم ٣ / ١٤٥٨.
(٣) أعلام الساجد لأحكام المساجد ص ٣٩ نقلا عن النووي.
(٤) عمدة القارئ ٤ / ٢١١.
1 / 9
وتعمر في الصلاة والوعظ والذكر، بيوت أراد الله أن ترفع وأن تكون خاصة لذكره جل شأنه، يسبح فيها في الغدوات والأصائل رجال متفرغون للطاعة، ومنصرفون للعبادة فلا مظاهر الدنيا البراقة تفتنهم وتلهيهم، ولا تقليب التجارة والانشغال بأرباحها الباهرة يصدهم عن ذكر الله وينسيهم الآخرة، بل يذكرون الله ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ولا ينسون نصيبهم من الدنيا، ويخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار، يوم تتردد فيه النفوس بين الخوف والرجاء فتنقلب القلوب متجهة إلى اليمين والشمال لا تدري من أين تؤخذ؟ أو من أين تؤتى كتبها؟ أمن اليمين أم من الشمال. فهم يسبحون الله ويذكرونه ويؤدون فرائضه، وينتهون عن مناهيه ويخافون يوم الحساب ليجزيهم أحسن ما عملوا الجزاء الأوفى، ويزيدهم من فضله، والله يرزق من يشاء بغير حساب وهو واسع الفضل (١) .
والمساجد دور عبادة وذكر، وتضرع وخضوع لله جل وعز شأنه، ومواضع تسبيح وابتهال وتذلل بين يدي الله ورغبة فيما عنده من الأجر الكبير. ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: ١٨] (٢) ومقام تهجد وترتيل لكتاب الله وحفظ له وغوص وراء معانيه، وتمعن لمفرداته واستنباط لأحكامه، واستخراج لمخزوناته ومكنوناته من بلاغة وبيان وإعراب وقصص وغيرها.
_________
(١) التفسير الواضح ٢ / ٧٤ - ٧٥.
(٢) سورة الجن: آية ١٨.
1 / 10
[المسجد والدعوة]
(المسجد والدعوة) والمسجد مركز دعوة ومنبر توجيه، فكم نور قلوبا وعمر أفئدة وأزال عنها أوضار جاهلية وغبش المعاصي وانتزع منها جذور الزيغ والضلال، وجعل منها بحول الله تعالى وقوته أجيالا مؤمنة تقية نقية، مجاهدة صامدة، قانتة مطيعة، عمرت الأرض بالطاعة والخير، ونشرت الإسلام في آفاق واسعة ونواحٍ عديدة من المعمورة فكانت قرآنا يمشي على الأرض ينير للناس مناهج الحق ويهديهم سبل الرشاد، وسيوفا مصلتة في رقاب المتجبرين المتكبرين النافرين عن الحق، المصرين على الكفر والطغيان، ورسل هداية تغزو القلوب بالإيمان وتغرس فيها بذور التقوى، وتقاوي الإصلاح وغراس الطاعة كلها: طاعة الله وطاعة رسوله وأولي الأمر: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: ٥٩] (١) .
_________
(١) النساء: آية ٥٩.
1 / 11
فمن المسجد الحرام انطلقت دعوة رسول الله ﷺ تهز أرجاء مكة بقوه ألفاظها وسلاسة معانيها، وقوة نفوذها في الأعماق، تعرب عن صدق وإخلاص وأمانة، وتنبع من جنان عامر بالنور، دوى بها المصطفى الحبيب عليه أزكى صلاة وأفضل تسليم قائلا بعد حمد الله والثناء عليه بما هو أهله في أول خطبة خطبها بمكة حين دعا قومه " إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحسانا، وبالسوء سوءا، وإنها لجنة أبدا أو نار أبدا " (١) .
ولما أمر ﵊ بإعلان نبوته، والجهر بدعوته، والصدع بالحق إذ نزل عليه قول الحكيم الخبير: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الحجر: ٩٤] (٢) . ارتقى المصطفى
_________
(١) الكامل في التاريخ ٢ / ٤٠ - ٤١، والرائد: من يرسله قومه في طلب الكلأ والماء كما في الصحاح ٢ / ٤٧٨ مادة: (رود) .
(٢) الحجر / آية ٩٤.
1 / 12
المختار الصفا وصاح بأعلى صوته «واصباحاه وهي صيحة يصيح بها العربي حين يحس بخطر داهم يوشك أن يحيط بقومه أو عشيرته: ثم أخذ ينادي يا بني فهر: يا بني عدي، يا بني كعب، لبطون قريش كلها حتى اجتمعوا فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. قال أبو لهب: تبا لك يا محمد ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد: ١]» (١) .
أما خطبته في أول جمعة صلاها بالمدينة فأجتزئ منها هذه العبارة: «وإن تقوى الله تبيض الوجه، وترضي الرب، وترفع الدرجة، خذوا بحظكم، ولا تفرطوا في جنب الله، قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا وليعلم الكاذبين، فأحسنوا ما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداء ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ﴾ [الحج: ٧٨] (٢) . وسماكم المسلمين.
_________
(١) البخاري في صحيحه في التفسير: سورة تبت يدا أبي لهب وتب ٦ ٩٤- ٩٥، ومسلم في صحيحه في كتاب الإيمان ١ / ١٩٣ - ١٩٤، والبداية والنهاية ٣ ٣٨، والكامل في التاريخ ٢ ٤٠.
(٢) الحج: آية / ٧٨.
1 / 13
﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: ٤٢] (١) ولا قوة إلا بالله. فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، فإنه من أصلح ما بينه وبين الله يكفه ما بينه وبين الناس. ذلك بأن الله يقضي على الناس، ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه. الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» (٢) .
ثم كانت لرسول الله- ﷺ خطب تذكر بالله وتدعو إلى حبه والتحاب فيه، والتنفير من الدنيا وبيان العلم الشرعي وفضله وبثه في الناس من جيران وغيرهم، ثم تلك الخطبة الجامعة العظيمة في حجته التي ودع فيها الناس وأعطاهم فيها دروسا عظيمة قيمة، تحمل وصايا كثيرة نافعة في البعد عن الظلم وترك الربا والإيصاء بالنساء وغيرها مما ينير للأمة الإسلامية في كل قرونها المقبلة طريقا هاديا يرضاه الله ورسوله ويفوز سالكوه بخيري الدنيا والآخرة.
وهكذا عمر خلفاؤه الراشدون الأئمة الحنفاء المهديون منابر المساجد مرشدين وموجهين ومتحسسين حاجة الأمة المسلمة إلى
_________
(١) الأنفال: آية ٤٢.
(٢) البداية والنهاية ٣ / ٢١٣.
1 / 14
ما يرقق قلوبها ويوضح لها معالم الحق ويسيرها على المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك.
وسارت على هذا النمط الأجيال المؤمنة تستخدم منابر المساجد والإرشاد والتوجيه والإنذار والتحذير وبيان الأحكام، وغرس العقيدة الصحيحة، وعلاج ما في المجتمع من أدواء وعيوب، واستئصال شأنات الحقد والحسد وكل خلق ذميم، والحث على المنهج الصحيح، والسلوك المستقيم حتى يعيش المجتمع المسلم نقيا صافيا متوادا متراحما، متكاتفا متعاطفا، يحس فرده بما يقلق جماعته، وجماعته بما يزعج فرده «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» (١) «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعت إليه سائر الأعضاء بالسهر والحمى» (٢) .
_________
(١) البخاري صحيحه في الصلاة: باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره ١ / ١٢٣، ومسلم في صحيحه في البر: باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم ٤ / ١٩٩٩، وأحمد في مسنده ٤، ٤٠٥.
(٢) البخاري في صحيحه في الأدب: باب رحمة الناس والبهائم ٧ / ٧٧ وفيه (نرى) بدل (مثل)، ومسلم في صحيحه في البر: باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم ٤ / ١٩٩٩- ٢٠٠٠، وأحمد في مسنده ٤، ٢٧٠، ٢٧٦.
1 / 15
حقا إن منابر المساجد ورحباتها المشرقة نورت عقولا مؤمنة، ومحت بؤر شرك دامسة، خرجت دعاة مخلصين، وخطباء مفوهين، يأخذون بأزمة القلوب فصاحة ولسنا، ويمتلكون الألباب بلاغة وجزالة كلمات وروعة أسلوب، وبراءة استهلال، وحسن استشهاد، وهي في عصرنا الزاهي مدعومة بخطباء مصاقع وعلماء مبرزين تخرج جلهم في المساجد والجامعات السعودية المتخصصة بهذا الشأن. ترعاها أيد أمينة بتوجيهات رشيدة سديدة من لدن خادم الحرمين الشريفين وفقه الله وسدد خطاه، أما في مجال الدعوة وتخريج الدعاة فحدث عن المساجد ولا سيما الحرمين الشريفين ولا حرج، فقد تخرج عباقرة الصحابة ونحارير التابعين ومن بعدهم من القرون، فمعاذ بن جبل ﵁ أرسل داعية إلى اليمن، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة إلى اليمن، وغيرهم من صحابة رسول الله الغر الميامين. وقال لابن عمه الخليفة الراشد علي بن أبي طالب ﵁: «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم» . فصحابة رسول الله كانوا رسله إلى الآفاق يعلمون الناس دينهم ويمحقون معالم الشرك وآثار الوثنية، ومستنقعات الفجور والمعاصي الوبيئة، وتلاهم على هذا النهج الخير والدرب النير أساتذة كبار، ومشايخ أمناء
1 / 16
في شتى العصور والأجيال فعمر بن عبد العزيز وابن حنبل والشافعي ومالك وأبو حنيفة وشيخ الإسلام ابن تيميه وابن القيم وغيرهم ممن نشروا الدعوة بألسنتهم الصريحة في الحق، وكتبهم المجدية النافعة التي ملأت مكتبات العالم وأثرتها إثراء جما ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه المؤلفات وحققت فيه كتب كثيرة في شتى العلوم في البلاد الإسلامية ولا سيما جامعات مملكتنا الحبيبة ومراكزها الثرية بالمخطوطات ومعاهدها العالمية، فقد أنتجت بحوث متقنة هامة ونقحت مخطوطات كبيرة مفيدة أثرت دور العلم ومكتباته كبراها وصغراها فصارت في متناول رواد العلم وطلاب الثقافة من باحثين ومحققين ودارسين يجدونها أوفر ما تكون علما وتوثيقا وتخريجا وتصحيحا وكشفا لغوامض، وإجلاء للعويص والمغلق، وروعة في التنسيق والترتيب والإخراج ترغب المقبل على التحصيل وتشد انتباهه، وتدفعه إلى الاستزادة من العلم بنهم وشره وقوه طلع وإنتاج.
1 / 17
[حلقات قرآن]
(حلقات قرآن) والمساجد حلقات لتعليم القرآن وتحفيظه وفهم لمكنوناته وغوص وراء خفاياه، واستنباط لحكمه وأحكامه ومعانته وبيانه، وانتفاع بعبره ومواعظه، فقد تلاه الصحابة وحفظوه أو بعضه، وكانوا ﵃ إذا حفظوا عشر آيات منه لم يتجاوزوهن حتى يعملوا بهن، ويطبقوا محتواهن، وقد أمر المصطفى ﷺ بأخذ القرآن من أربعة كما في الحديث: " خذوا القرآن من أربعة: من ابن أم عبد - فبدأ به -، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب -، وسالم مولى أبي حذيفة (١) ولعلهم أكثر ضبط لألفاظه، وأتقن لأدائه، وقد يكون غيرهم أفقه في معانيه، أو لأنهم تفرغوا لأن يؤخذ عنهم وكذلك ترجمان القرآن وحبر الأمة عبد الله بن عباس وغيره من الصحابة والتابعين كمجاهد بن جبر، وبرع في علوم القرآن نفر كثير ممن بعدهم كابن كثير وابن جرير والقرطبي والسيوطي وابن قتيبة والفراء والشاطبي وأعلام القراءات " كنافع المدني وابن كثير المكي وحمزة بن حبيب
_________
(١) مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة: باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه ﵃ ٤ / ١٩١٣.
1 / 18
الزيات، وأبي عمرو بن العلاء، وعاصم بن أبي النجود، وابن عامر الدمشقي، وابن محيصن، والكسائي، وأبي جعفر يزيد بن القعقاع، ويعقوب الحضرمي، وخلف بن هشام البزار (١) " واليزيدي، والحسن البصري، والأعمش، وغيرهم كثيرون من القراء والمفسرين ومعربي القرآن ومفسري غريبه ومتتبعي علومه بالكشف والبيان والإيضاح.
وحلقات القرآن مدارسة وإقراء وفهما واستنباطا في بيوت الله وعلى أصعدتها، أمور عظيمة مرغب فيها تتغشاها الرحمة، وتخيم عليها السكينة وتحفها الملائكة الكرام، يقول الصحابي الجليل أبو هريرة ﵁ قال رسول الله ﷺ: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه» (٢) .
_________
(١) حجة القراءات ص ٥١ - ٧٢.
(٢) مسلم في صحيحه في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار: باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر ٤ / ٢٠٥٧.
1 / 19
فبيت الله مدرسة قرآنية مثمرة منتجة أنجبت فطاحل العلماء وكبار المقرئين في كل عصور الإسلام الزاهية، ونرى آثارها بارزة وقطوفها دانية وإنتاجها ثرا في عهد خادم الحرمين الشريفين، يشاهد ذلك في الحرمين الشريفين وغيرهما من بيوت الله التي تحتضن الشباب الحي والبراعم الغضة لتجيد التلاوة ففي كل موسم نرى حفظة لكتاب الله في كل المناطق ترعاها الدولة وتسيرها جماعات القرآن الكريم بجهود مشكورة موفقة، وكذلك الجهات التعليمية المسئولة كوزارة المعارف، والرئاسة العامة لتعليم البنات، ووزارة الشئون الإسلامية وجامعة الإمام، وكلية القرآن في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وجميع أقسام القرآن وعلومه في الجامعات كلها سدد الله خطا العاملين فيها وقواهم.
[المساجد مراكز تعليم وتدريس لجميع الفنون وشتى العلوم]
المساجد مراكز تعليم وتدريس لجميع الفنون وشتى العلوم أما عن الحرمين الشريفين فلا تسل عن ضخامة إنتاجهما ونوعية خريجيهما من القوة في العلم والجودة في الأسلوب والتحقيق وسعة الأفق ووفرة الاطلاع ممن بثوا في العالم فنشروا ما تعلموه ونقلوه لأفراد المجتمعات ضبطا وإتقانا وحفظا وتبحرا ونية خالصة وحبا لبث العلم في شتى ضروبه للمتعطشين له والمقبلين عليه.
1 / 20
وامتدت تلك المراكز التعليمية إلى شتى المساجد الإسلامية فدرس الحديث وعلومه ونبغ فيها من نبغ من محدثين وشراح حديث ومصطلحيين وجهابذة فطاحل في كل فروع السنة، خرجوا الأحاديث ونقوها وبينوا صحيحها من سقيمها في المتون والأسانيد، وشرحوا الغريب وأعربوا العويص، وأثروا المكتبة الإسلامية بصنوف المؤلفات كالصحاح والسنن والمسانيد وطبقات المحدثين وكتب الغريب وغيرها، ثم دروس الفقه وأصوله وقواعده وتاريخ التشريع، أخذت حيزا كبيرا من المساجد تدريسا وحفظ متون ومناقشات مفيدة وإفتاء وتأليفا حتى اتسعت دائرة هذه المواد وتشعبت فروعها وكثر روادها ودرست على أرقى مستوى، فبرز فيها من برز، وتفوق فيها من تفوق، وجادت مراكزها بأعلام الفقهاء ونوابغ الأصوليين وشيوخ القواعد وعلماء التشريع الذين ألفوا ودرسوا وأوجدوا نتاجا علميا وفيرا غصت به المكتبات، وخرجوا أجيالا مؤمنة متعلمة تدعو إلى الخير وتصد عن الشر.
ولا ننسى اللغة العربية وعلومها الثرة فقد درس النحو والصرف وفقه اللغة والبلاغة وغيرها من مشتقات اللغة في ردهات المساجد ورحباتها المشرفة المباركة وبرز فيها علماء متخصصون وأكاديميون مدركون بذلوا الجهد المجدي في بذلها
1 / 21
لأفراد المجتمع تلقينا وحفظا واستشهادا وشعرا وإعرابا واستشفاف ما في الكلام العربي من محاسن بديعية وبيانية، وأبعدوا حواشي الكلام ومتنافره وما فيه من تعقيدات لفظية ومعنوية. واستخلصوا لشباب الأمة ألفاظها الجزلة وأمثلتها السائرة، وأساليبها الرائعة، ومعانيها المستطابة المشوقة التي تطبي الأفئدة وتستميل القلوب إلى هذه اللغة العريقة.
وما من علم تحتاجه الأمة المسلمة إلا وللمسجد فضل في تطويره ونشره ورفع مستواه وحث الناس على الاقتباس منه، والاصطياد من خرائده ولآلئه ودراريه، سواء كان علميا أو نظريا علوم دنيا أو آخرة.
فالمسجد ركن ركين للعلم ومعين قوي لا ينضب، ومرتاد لكل رائد للعلم أريب، ومنهل ينهل منه أفراد المجتمع ما يروي نهمهم، ويشبع رغباتهم، ويعطيهم قوة علمية وشحنة إيمانية تدفع عنهم الشكوك والأوهام، وتحميهم من سموم الأعداء ونفثاتهم المحمومة المسعورة التي يحاولون بها الدس والتضليل، وذر الرماد في العيون السليمة لتنعكس مرئياتها ومفاهيمها، وتعشو أبصارها فتتبلبل أفكارها، يحاولون بذلك إرضاء نزعاتهم الشريرة،
1 / 22