وفيه ملكة العالم، ولكنه كما قدمنا لم يكشف قانونا من قوانين العلم، ولم يحاول فيه محاولات العلماء المطبوعين من أمثال باستور وفراداي، وقصارى ما عنده من الملكة العلمية أنه علم المشتغلين بالعلوم كيف يبحثون فيها عن طريقته، وقد يتركون طريقته مع هذا ويبحثون ويوفقون.
وهو مؤرخ أو كاتب في التاريخ والسير، ولكنه لا يدرك في هذا الباب شأو جيبون أو بلوتارك، ولا يزال تاريخه ضربا من التعليقات الفكرية، التي تحيط بكل موضوع من موضوعات الحاضر والماضي على السواء.
وهو فقيه من فقهاء زمانه المقدمين، ولعله في هذا الباب أقرب ما يكون إلى التمام والاستقلال بالقياس إلى فقه ذلك الزمان، ولكنه هو نفسه لم يكن معتدا بمكانته من الفقه، ولم يحفل بنشر قضاياه أو بحوثه القانونية في حياته.
وهو خطيب فصيح اللهجة حسن البيان لا يمل سامعوه الإصغاء إليه وإن أطال، ولكنه لو لم يصنع شيئا غير الخطابة لما بقي له ذكر بين رسل المعرفة والبيان؛ لأن خطبه جميعا طويت قبل موته، ولم تعلق بها ذاكرة أحد من سامعيه في مجلس النواب أو ساحة القضاء.
وهو أديب ولا سيما في باب الكتابة النثرية، وعنده في هذا الباب من الشهرة المستقلة ما يغنيه في تاريخ الآداب، ولكنه مع هذا أكبر من قدرته الأدبية، وأعظم ممن يضارعونه في أصالة المعنى وبلاغة الأسلوب.
فهو «شيء جديد»؛ لأنه يشترك في جميع هذه الأشياء، ولا يستوعب كله في واحد منها، ولا ينتظم مرة واحدة تحت عنوان واحد من هذه العناوين.
مثله في ذلك مثل النخبة القيمة من الجواهر فيها اللؤلؤ والياقوت والزمرد والمرجان وغيرها من معادن الجوهر النفيس، ولكنها لا تلبس جميعا في عقد واحد، وليس في مفرداتها من صنف واحد ما ينضد في حلية معروفة بين الصاغة، وهي مع ذلك قيمة بين الصيارف ما في قيمتها جدال. •••
قلت في تذكار جيتي: «من العبقريين من تعرف مداه بكتاب واحد أو قصيدة واحدة؛ لأنه يرتقى إلى أوجه في بعض أعماله فيأتي بخير ما عنده أو بكل ما عنده، وتصرفه حق عرفانه فلا تحتاج إلى تجربة له بعدها، ولا تصيب في التجربة الجديدة إلا تكرارا لا جديد فيه.» «ومنهم من يعطيك جزءا من عبقريته في كل جزء من كتاباته، فبعضها لا يدل على مداها كلها، وتكرار القراءة فيها ينتهي بك كل يوم إلى جديد، فلا غنى لك عن التجربة لسبر غورها والإحاطة بمداها، والحكم عليها في جميع أحوالها.» «وجيتي من هؤلاء العبقريين الذين لا ينبئ قليلهم عن كثيرهم؛ لأنه لم يجمع نفسه في قطعة واحدة ولا موضوع واحد، فهو كثير الجوانب كثير التجزئة: الموضوع الواحد عنده لا يدل على كل موضوعاته، والجزء الصغير لا يدل على جملة الموضوع، فكل فكرة له هي أصغر من الرجل في جميع أفكاره، كما أن اليوم الواحد في غمار أيامه هو أصغر لا محالة من سنيه الثمانين.»
والذي يصدق على جيتي يصدق على باكون مع اختلاف العبقريتين في المعدن والمحصول، بل هو يصدق على باكون قبل أن يصدق على جيتي لكثرة الأجزاء التي لم تتم في كتبه الكبيرة، ولغلبة المتفرقات على آثاره الأدبية والعلمية والفكاهية، كأنما هي كلها من باب الفصول والشذرات.
أما ذكراه الأدبية اليوم فهي قائمة على المقالات قبل غيرها كما ذكرنا في غير هذا الفصل من الكتاب، وله عدا المقالات كتابان يقرآن ويستعادان للبحث، أو لمتعة المطالعة في بعض الأحيان، وهما الكتابان اللذان عارض بأحدهما أرسطو وعارض بالآخر أفلاطون، وهما القسطاس الجديد أو القانون الجديد
Shafi da ba'a sani ba