وهو مرجع فلسفته الأكبر بين مراجعه الأخرى، ومنها شذرات لم تستوعب موضوعها؛ لأنها أكبر من أن يضطلع بها جهد رجل واحد في ذلك الزمان، الذي يصعب فيه التعاون العلمي الميسور في عصرنا الحديث، فقضى عليه أن يفارق «البناء الأعظم» وهو ناقص الشرفات والطباق، ولكنه على هذا كامل الدعائم والأركان.
وقد مات في ميدان العلم وهو يحمل سلاحه، ولا يبالي الحيطة التي تفرضها عليه بنيته الهزيلة في مثل سنه، فخرج في الشتاء؛ ليجرب وقاية الثلج للأجسام الحيوانية من العفونة في جسم دجاجة مذبوحة لساعتها، فسرت إليه قشعريرة لم تمهله غير أيام، ومات ميتة العالم وإن لم يعش عيشته على الدوام.
هذه النشأة - نشأة العالم - هي التي يكتب من أجلها عن فرنسيس باكون، ويغتفر من أجلها عيب الرجل في نشأته الأخرى: نشأة المطامع والمناصب والألقاب.
وحق له أن يودع الدنيا «وهو يترك اسمه وذكراه للألسنة الخيرة، وللأمم الغريبة وللأجيال القادمة».
وللألسنة الخيرة ولا جدال مقال طيب في ذكراه جدير أن يقال.
أخلاقه
يندر جدا أن يشتهر رجل أو يرتقي سلم المناصب الرفيعة، ثم لا يكون للعصر أثر في أخلاقه إن لم تكن أخلاقه كلها مشابهة لأخلاق عصره؛ لأن الشهرة أو ارتقاء المناصب تجاوب بين الرجل وأهل زمانه، وقلما يتأتى هذا التجاوب بغير مماثلة أو مقابلة بين الشيئين المتجاوبين.
وأثر العصر في أخلاق باكون واضح كل الوضوح؛ لأنه لم ينفرد فيه بداهة بحب الظهور، ولا بالتهافت على المال والحطام، ولم يعرف عنه شيء من ذلك إلا وقد عرف مثله عن قرنائه ونظرائه، ومن هم فوقه ومن هم دونه.
وحسبنا أن الثورة التي نشبت بعد زمانه بأقل من قرن واحد إنما نشبت لأن الملوك كانوا يفرطون في طلب المال، ويرهقون الرعية بالضرائب والإتاوات ... فلم يكن إذن في ذلك العصر من يتعفف عن جمع المال والمجازفة بالعواقب في هذا السبيل، سيان في ذلك من رزقوه أو لم يرزقوه، وسيان في ذلك صاحب المكان الأول، وصاحب المكان الأخير.
وليس باكون بدعا في هذه الخليقة، وإن جنت عليه الشهرة فحفظت نقائصه، ولم تحفظ نقائص المئات ممن يماثلونه في الأقدار والأخطار.
Shafi da ba'a sani ba