Foundations of the Sunnah and Jurisprudence - Acts of Worship in Islam
الأساس في السنة وفقهها - العبادات في الإسلام
Mai Buga Littafi
دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
Lambar Fassara
الأولى
Shekarar Bugawa
١٤١٤ هـ - ١٩٩٤ م
Nau'ikan
المقدمة
هذا القسم هو القسم الثالث من كتاب الأساس في السنة، وهو في العبادات الرئيسية في الإسلام، وقد جاء بعد قسم العقائد، لأن العقيدة الصحيحة هي أساس العبادة الصحيحة، كما جاء قبل قسم الحياتيات والأخلاقيات والسلوكيات، لأن مناهج الحياة في الإسلام إنما يُستقام عليها عندما توجد عبادة وعقيدة، وكان القسم الأول في السيرة، لتتعرف أولًا على الرسول ﷺ الذي جاءنا بالإسلام من عند الله عقيدة وعبادة وشريعة وشعيرة ومنهاج حياة.
* * *
لقد خلق الله الإنس والجن لعبادته:
قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (١).
وأرسل الرسل للعبادة:
قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (٢).
﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ (٣).
وقال نوح ﵇: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ﴾ (٤).
* * *
وأصل العبودية في اللغة: الخضوع والتذلل، قال الراغبفلا افى في المفردات: "العبودية إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال ولهذا قال تعالى: ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ (٥).
_________
(١) الذاريات: ٥٦.
(٢) الأنبياء: ٢٥.
(٣) العنكبوت: ٣٦.
(٤) نوح: ٣.
(٥) الإسراء: ٢٣.
1 / 7
فالعبادة تعني الطاعة والخضوع لغةً.
والعبادة في الشريعة تأتي بمعنى عام وتأتي بمعنى خاص:
أما هي بمعناها العام فتأتي: ويراد بها فعل الطاعات واجتناب المعاصي والإخلاص لله في ذلك، ويدخل في العبادة بهذا المعنى: فعل المباح إذا قصد به وجه الله تعالى فالنيات تجعل العادات عبادات، وبعضهم أطلق على العبادة بمعناها العام اصطلاح العبودية، فالعبودية أوسع في الاصطلاح من العبادة بمعناها الخاص، وعُرفت: بأنها أعمال العبد الإرادية الموافقة لما أمر الله به.
فالعبادة بالمعنى العام تشمل جميع أعمال المرء الإرادية قلبية كانت أو سلوكية، فإذا وافقت ما أمر الله به فهي طاعة، وإن خالفته فهي معصية. قال ابن تيمية:
"العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف النهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك: من العبادة ... ".
ثم يقول:
"وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله .. " أ. هـ.
أما العبادة بمعناها الخاص: فتطلق على أعمال من الإسلام بعينها، كُلِّف العباد بالقيام بها لتكون تربية عملية على الخضوع الكامل فقد اتفق العلماء على اعتبار الصلاة وما يحيط بها، والزكوات، والصدقات، والأوقاف، والصوم، والاعتكاف، وصدقة الفطر، والحج، والعمرة، والأضاحي أنها من العبادات بمعناها الخاص، واتفقوا على أن الأذكار والدعوات وتلاوة القرآن وحفظه من العبادات بمعناها الخاص، وأن العلم والتعليم الشرعيين وما يستتبع
1 / 8
ذلك من أمر بمعروف ونهي عن منكر ونصيحة من العبادات بمعناها الخاص، وأن الجهاد في سبيل الله كذلك، فالعبادة بمعناها الخاص ذكرُ وشكرُ وإقامة شعائر، وهذا الذي ذكرناه كله فيه ذكر وشكر وإقامة شعائر، أو أنه يوصل إلى ذلك أو أنه لابد منه لإقامة ذلك كله، ثم إن ما ذكرناه كله فيه معنى التوجه المباشر لله تعالى في فعلٍ أمَرَ به وحضَّ عليه، ومن ههنا جعلنا هذه الموضوعات كلها في هذا القسم، وإنما أسميناه قسم العبادات الرئيسية في الإسلام، ملاحظين معنى العبادة في الاصطلاح العام التي تدخل فيها هذه الأشياء وزيادة.
* * *
١ - * روى البخاري عن رسولنا ﵇ قوله: طولكن أفضل الجهاد حج مبرور".
فإذا كان الحج عبادة بيقين، فالجهد إذن عبادة بيقين، والذكر والتسبيح والدعاء والركوع والسجود ومعرفة الله، كل ذلك من عبادات الملائكة: ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ (١)، ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ (٢)، ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾ (٣)، (٤)، ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ (٥)، ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ (٦) عندما نتأمل هذه المعاني لا شك أن الأذكار والدعوات وتلاوة القرآن والعلم، كل ذلك من العبادات الرئيسية، وإنما نذكر هذا حتى لا يستغرب القارئ جمعنا موضوعات هذا القسم تحت عنوان العبادات الرئيسية.
وقد قال الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ (٧) فالحكمة من تشريع الصلاة هي ذكر الله تعالى وارتبط بالصلاة لإقامة الذكر - أذكار بعينها وتلاوة قرآن وما يستتبع ذلك من
_________
١ - البخاري (٣/ ٣٨١) ٢٥ - كتاب الحج، ٤ - باب فضل الحج المبرور.
(١) الأنبياء: ٢٠.
(٢) غافر: ٧.
(٣) الصافات: ١٦٥.
(٤) الصافات: ١٦٦.
(٥) البقرة: ٣٠.
(٦) آل عمران:
(٧) طه: ١٤.
1 / 9
فكر- ولذلك أتبعنا جزء الصلاة ببحث الأذكار والدعوات وببحث تلاوة القرآن لأنهما ألصق بالصلاة، وإنما جرت عادة المؤلفين في الفقه أن يذكروا الزكاة بعد الصلاة لأنهم يتحدثون في العادة عن الأحكام، وإنما انصب كلامنا في هذا القسم على العبادات الرئيسية، فكان الأليق - في اجتهادنا - أن يكون محل الأذكار وتلاوة القرآن عقب الصلاة مباشرة، لأن هذه المعاني تتكامل مع بعضها في تعميق معاني العقيدة، وتصفية القلب، وهي المنط الرئيسي للسير إلى الله وتحقيق العبودية له ﷻ.
ويكمل عمل الزكاة في الإسلام الصدقات، والأوقاف ولذلك جعلنا هذه المعاني في جزء واحد، ولأن بين الصوم والاعتكاف وصدقة الفطر ارتباطًا ما، فقد جعلناها في جزء واحد، ولأن بين الحج والعمرة والهدي والأضاحي صلات فقد جعلناها في جزء واحد، ولأن بين العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صلات فقد جعلناها في جزء واحد.
* * *
ولقد ابتدأنا هذا القسم بذكر العلم والأمر بالمعروف والنهيّ عن المنكر وختمناه بذكر الجهاد للإشعار بان العبادة محاطة بهاتين الفريضتين، وأن استمرار العبادة في الأرض منوط بهاتين الفريضتين، وهما فريضتان أصبحتا محل غفلة من الكثيرين، وذلك من جملة الحِكَم التي دعتنا لجعل هذين الجزأين في هذا القسم.
ملاحظات:
إن القارئ يلحظ في هذا الكتاب أننا قد نعدّد الروايات ومعناها واحد وذلك للتوثيق من ناحية، ومن ناحية أخرى لأن من بعض أهدافنا من هذا الكتاب إبراز اهتمامات الصحابة رضوان الله عليهم وإبراز السياسات النبوية، فمن خلال كثرة الروايات ندرك أنَّ القضية التي كثرت الروايات فيها كانت محل اهتمام ومحلّ تركيز، فلينتبه المربّون لذلك.
إن الأقسام الثلاثة الآتية: قسم العبادات، قسم الحياتيات والعاديات، وقسم الحكم وحقوق الإنسان، فيها أنواع من الأبحاث، أبحاث فقهية، وأبحاث لا تدخل عادة في أبواب الفقه، وإذا كنا نستهدف في هذا الكتاب عرض السنة وفقهها مع الاختصار في الفقهيات
1 / 10
فقد كان علينا أن نرجع إلى كتب الفقه الجامعه، ككتاب الفقه على المذاهب الأربعة، وكتاب بداية المجتهد، كما رجعنا إلى كتب الفقه المذهبية والكتب التي تشرح أحاديث الأحكام، كنبل الأوطار فاعتبرنا أمثال هذه الكتب مراجع لنا.
وقد ظهر- ونحن نعمل في الكتاب - كتاب الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي فاعتبرناه مرجعًا رئيسيًا من مراجعنا.
وقد تحرينا في كتابنا ألا نذكر إلا أمّهات المسائل في الاجتهادات الفقهية وما تمسّ الحاجة إليه إلى جانب العرض الإجمالي - مع التبرير لأئمة الاجتهاد فيما اختلفوا فيه- مراعين أن يفتح آفاق الإنسان وما يمكن أن يترخص به الإنسان في حالة الضرورة من آراء الأئمة معتمدين على الفكرة التي أكدناها كثيرًا: إنه لابد لكل مسلم أن يتفقه على مذهب إمام ليعرف دقائق الأحكام ومن لم يفعل ذلك فإنه لني كون فقيهًا أبدًا، إلا أفرادًا عندهم من الفراغ وتوقد الذهن ما يستطيعون أن يصلوا إلى ما لا يصل إليه غيرهم.
وبعد فهذا أوان الشروع في عرض أجزاء الكتاب.
1 / 11
تمهيد في:
العِبَادات في الإسلام
1 / 12
تمهيد:
في العبادات في الإسلام
إن أصل معنى العبادة لغةً: - التذلل والخضوع والانقياد والطاعة.
وشرعًا: الخضوع والانقياد الكامل لله مع الرضا، والتسليم واليقين والمحبة، والإخلاص لله تعالى.
ولذلا قالوا العبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل، والخضوع فمن خضع وهو مبغض لا يكون عابدًا ومن أحب ولم يخضع لا يكون عابدًا وأضاف بعضهم عنصر الخوف لتكون العبادة على الكمال.
فلابد من مجموع عناصر لتحقق العبادة التي قصد الشارع إليها:
- القيام بالفعل والالتزام بما شرع الله.
- الميل النفسي والحب لله.
- استحضار الخوف والرجاء.
- أن تكون العبادة إرادية مقصودة.
ولا تُقبل العبادة إلا إذا كانت صحيحة صوابًا وخالصة لله. أي أن تكون على الوجه المشروع، وأن تكون خالصة لله تعالى، فإذا كان العمل خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كانت العبادة صوابًا ولم تكن خالصة لا تُقبل، والخالص أن يكون لله، والصواب أن تكون مع السنة وكما شرع الله ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ (١).
وللنية الدور الفاصل في العبادة، فالعادة بالنية الصالحة؛ تصبح عبادة والعبادة بلا نية غير معتبرةُ فالنية تُعطي الفعل قيمته الحقيقية، وتفرق بين العبادة والعادة وعليها يتوقف
_________
(١) الكهف: ١١٠.
1 / 13
قبُول العمل عند الله ﷿.
يقول المناوي: شرعت النية تمييزًا للعبادة عن العادة ولتمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض. أ. هـ.
ويفترض في العبادة الحقّة أن تُحدث الأثَر الذي من أجله شرعها الله ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ (١)، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (٢).
فلا يكفي أن تكون العبادة صورًا وحركات تؤدي على انه ينبغي أن ننبه إلى أنه لا يجوز لأحد أن يتذرع لترك العبادة أنها لم تحدث الأثر الذي نص عليه في الكتاب والسنة، بل عليه أن يؤديها، ويحاول أن يرتقي، حتى تحدث الأثر المطلوب وبعض الناس ينفرون من كلمة العبودية إذ يشعرون أنها تعني تقييد حرية الإنسان والحد من كرامته فنقول: إن العبادة هي الحرية الحقيقية إذ يتحرر الإنسان بالعبادة من شهواته وأهوائه ونزوات نفسه كما أن العبادة لله والانقياد له تعني أن تكون هناك حرية لكن حرية مسؤولة ضمن شرع الله والضوابط التي تكفل السعادة والحياة السليمة ثم إن الفطرة بطبعها تميل للخضوع للغير فمن لم يخضع لله خضع لهواه أو لصنم بشري أو شيطاني آخر. إن الضوابط الخُلُقية والقوانين الاجتماعية لاتنفي الحرية وإنما هي أشبه بعلامات لتنظيم المرور وتحقيق العدل في إفساح المجال للحرية أمام الناس بالتساوي، والعبادة تكريم وتشريف، لذا نجد أن الحكمة الأساسية التي ذكرها القرآن لخلق الناس كانت العبادة ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (٣)، وغاية الرسل جميعًا كانت تحقيق العبودية لله تعالى.
وعندما وصف الله رسوله وهو في أعلى مقاماته وصفه بالعبودية ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ (٤)، ومدح الله عبادة المؤمنين بقوله: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ (٥).
_________
(١) العنكبوت: ٤٥.
(٢) البقرة: ١٨٣.
(٣) الذاريات: ٥٦.
(٤) الإسراء: ١.
(٥) الفرقان: ٦٣.
1 / 14
وأشرنا إلى أن العبادة تأتي بمعنى عام ومعنى خاص وأنها بالمعنى الخاص تعني مجموع الشعائر والطاعات المحددة التي شرعت بقصد العبادة المحضة لإظهار الخضوع والتقرب إلى الله.
وأنها بالمعنى العام كل ما يصدر عن المسلم من عمل أو قول بنية صالحة يبتغي بها وجه الله إذا وافقت شرعه.
ولذا فإن التصور الإسلامي الشمولي للعبادة يجعل من سائر أنشطة المسلم الاعتقادية والفكرية والعقلية والنفسية والبدنية والمالية قربات وطاعات، ينال بها الأجر من الله إذا ابتغى بها مرضاة الله.
والحقيقة فإن العبادة بمعناها الخاص غرضها تهيئة المسلم للعبادة الكبرى الشاملة التي تجعل من المسلم في كل حركة وسكتة عبدًا خالصًا لله تعالى.
ومن خلال المفهوم الشامل للعبادة تتحقق غاية الوجود الإنساني ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (١).
ويكون الإنسان دائم الصلة بربه والمراقبة له فيجعل من دنياه وسيلة لآخرته ويخرج الإنسان من دائرة الغفلة والانغماس في الملذات والشهوات.
وتعدد أنواع العبادات يمنع الإنسان من السآمة والملل؛ فلا يستغرق في عبادة واحدة بل في أنواع كثيرة حتى في عمله الدنيوي إذا نوى به نية صالحة .. وشمول العبادة يصبغ حياة المسلم بالصبغة الربانية ويجعله مشدودًا لله تعالى.
ومن هنا يتبين خطأ من يحصر العبادة في الصلاة والزكاة والحج والصوم.
وننوّه إلى أن للعبادة بمعناها الخاص خصائص ومميزات في الإسلام، فمن خصائصها الإخلاص لله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (٢). وكذلك فإن العبادة صلة مباشرة بني العبد وربه فلا واسطة ولا وسيلة: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي
_________
(١) الذاريات: ٥٦.
(٢) البينة: ٥.
1 / 15
قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ (١).
والعبادات بمعناها الخاص أمور توقيفية تؤدي كما وردت فعدد ركعات الفرض وأوقات الفروض محددٌ ونصاب الزكاة وشروطها محددة، ووقت الصيام محدد وأعمال الحج محددة وهكذا.
لكن يجب أن نعلم أن من العبادات ما هو خير موضوع، للمسلم أن يتوسع فيه ما يشاء، فله أن يصلي من النوافل ما يشاء، وله أن يتصدق ما يشاء، ويصوم متى شاء، بعد الفريضة، مما لم يرد فيه نهي، والعبادات في الإسلام مبنية على اليسر ورفع الحرج.
فهي يسيرة في مقاديرها وشروطها، وما شرع من رخص في الظروف الاستثنائية مظهر من مظاهر التيسير.
وللعبادات في الإسلام آثار تشمل نواحي كثيرة في حياة المسلم، فهي تحمي العقيدة وتقويها وتقوي الجانب الروحي في الإنسان، وتجعله ثابتًا في معارك الحياة وذلك أن الصبر هو الوسيلة الأولى لمواجهة الحياة ولا شيء كالعبادة يعلمنا الصبر فالصوم صبر، وتحمل مشاق الحج صبر، ... كما أن العبادة تنمي شعور المراقبة لله تعالى وهي وسيلة شكر واعتراف بعميم فضله تعالى.
كما أن العبادة تجعل من المسلم شخصية إنسانية متكاملة متوازنة عندما تحقق فيه الكمال البشري وتطهر ذاته وتنمي روح الإرادة فيه وتجعله يشعر بالعزة والاستعلاء والتميّز وتحمي الفرد والمجتمع من القلق والشقاء والأمراض النفسية وكيف يقلق من كان دائم الصلة بربه يلتجئ إليه يستمد العون منه يخضع له لا لغيره؟!.
والعبادة طريق إلى الفضيلة والخلق وإصلاح النفس وتزكيتها.
وهي ترسخ مبادئ الإسلام الهامة في حياة المسلم، كاحترام النظام، والوقت، وصيانة قيم الحياة، والمساواة والتعاون والتوحيد وإيجاد مجتمع متحاب غير متباغض ولا متنازع كما
_________
(١) البقرة: ١٨٦.
1 / 16
أن للعبادات آثارًا طيبة على جسم الإنسان وصحته، ففي الغسل والوضوء والصوم الشيء الكثير.
ولأهم من كل ما مضى، محو الذنوب، وتكفير السيئات، واستحقاق الثواب والفوز برضوان الله.
هذه لمحة واضحة سريعة حول العبادة في الإسلام، أردنا أن يدخل القاريء قسم العبادات ولديه مفهوم واضح حول العبادة في الإسلام مما يضيء له الدرب ويساعده على العبادة على وجه أكمل (١).
_________
(١) من مراجعنا في هذا التمهيد: كتاب نظام الإسلام - العبادة والعقوبة للدكتور محمد عقلة. ونظام الإسلام/ العبادة/ للأستاذ محمد المبارك، والعبادة في الإسلام للدكتور يوسف القرضاوي وروح الدين الإسلامي للشيخ عفيف طبارة.
1 / 17
الجزء الأول
في العلم والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر والدعوة إلى الخير والنصيحة
وفيه مقدمة وبابان:
الباب الأول
في العلم
الباب الثاني
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وفي النصيحة والدعوة إلى الخير
1 / 19
المقدمة
في: الجامع بين موضوعات هذا الجزء
بين الأمر بالمعروف والدعوة إلى الخير والنصيحة علاقة جامعة، إنها كلها نصح وإرادة خير للآخرين، وكلها تعليم وزيادة، كما أنها اثر عن العلم ومن ههنا كان بينها وبين العلم ارتباط، والأثر المباشر للعلم هو التعليم، والتعليم أمر عملي بالخير ونهي عملي عن المنكر، ونصيحة علمية لخلق الله ولذلك كان بين هذه الموضوعات كلها علاقة.
وقد جعلنا هذا الجزء في العبادات الرئيسية لأن العلم عبادة: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (١) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير عبادة لأنها طريق الفلاح، وطرق الفلاح كلها عبادة، قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (٢)، ولقد جعل الله التواصي بالحق والصبر ركنًا من أركان الفلاح بقوله: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ (٣).
٢ - *وفيما روى أحمد عن رسول الله ﷺ "الدين النصيحة".
فالنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير والعلم والتعليم كلها عبادات، بل هي من أرقى العبادات، ولذلك جمعناها في هذا الجزء وقدمناها في الذكر لأن العلم هو الطريق للمعرفة التي تسبق العمل، ولأن إشاعة الخير تعين السالكين على السير.
* * *
_________
(١) فاطر: ٢٨.
(٢) آل عمران: ١٠٤.
(٣) العصر: من ١: ٣.
٢ - رواه أحمد (١/ ٣٥١) في المسند. قال في مجمع الزوائد: "مقتضى رواية أحمد الانقطاع بين عمرو وابن عباس". مسلم (١/ ٧٤) ١ - كتاب الإيمان، ٢٣ - باب: بيان أن الدين النصيحة. أبو داود (٤/ ٢٦٨) كتاب الأدب، باب النصيحة. النسائي (٧/ ١٥٦) ٣٩ - كتاب البيعة، ٣١ - النصيحة للإمام.
1 / 21
الباب الأول
في العلم
وفيه مقدمة وفصول
* المقدمة
1 / 23
المقدمة
قال تعالى آمرًا رسوله ﷺ: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (١) دل ذلك على أن العلم ينبغي الاستزادة منه. وقال تعالى ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (٢)، دل ذلك على فضل العلم وأهله، كما أن الآية حددت نوعًا من أنواع العلوم التي ينبغي الاستزادة منها وطلب الزيادة وهو العلم بالله وصفاته ووحيه وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (٣). دل ذلك على فضل العلم وأهله كما دل على نوع العلم الذي تطلب الاستزادة منه وطلب الزيادة وهو العلم الذي تعقبه الخشية من الله تعالى وأول ذلك العلم بالكتاب والسنة، فهما العلم الذي جاءنا عن الله وعن رسوله ﷺ ففسروا المراد بالعلم الذي يعقب خشيةً من الله وقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ (٤)، دل ذلك على أن أهل العلم هم الذين يفضلون الآخرة على الدنيا، ويقومون بواجب النصيحة للخلق.
وقال تعالى: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ (٥)، ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ (٦).
دل ذلك أن العالم هو الذي رأى أن القرآن هو الحق وأنه يهدي إلى صراط الله، وأنه هو الذي يرى بقلبه أن القرآن معجزات واضحات.
وقال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (٧) أي ويرفع الذين أوتوا العلم درجات على غيرهم، فدل ذلك على فضل العلم، وقال تعالى:
_________
(١) طه: ١١٤.
(٢) آل عمران: ١٨.
(٣) فاطر: ٢٨.
(٤) القصص: ٨٠.
(٥) سبأ: ٦.
(٦) العنكبوت: ٤٩.
(٧) المجادلة: ١١.
1 / 25
﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (١). دل ذلك على أن طلب العلم وتعليم العلم جهاد.
وقال تعالى: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ (٢) أطلق الدراسة وقيد التعليم للإشعار بأن دراسة الرباني متعددة وأن محل تركيزه في التعليم ينبغي أن يكون على القرآن.
* * *
إن علوم الدنيا يشترك فيها البر والفاجر، وقد يزيد الرجل العادي في علوم الدنيا على أهل العلوم الربانية.
٣ - * روى مسلم عن النبي ﷺ "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، فالعلم الذي يتمحض للدنيا من مثل معرفة قوانين الكون المادية، ومن مثل الخبرة بالصناعة والتجارة والزراعة والسياسة الدنيوية المحضة والحياة الاقتصادية المحضة يشترك فيه البر والفاجر وهو مطلوب من المسلمين كفروض كفائية وقد يتقن الكافر في هذه الشؤون ما لا يتقنه المسلم.
وقد أثبت الله للكافرين في هذه الشؤون علمًا فقال: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ (٣) ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾ (٤).
دل ذلك على أن العلم الذي حضَّ عليه الإسلام بشكل أولي هو العلم الشرعي ومع أن العلوم الدنيوية فروض كفائية لكن المسلم يأخذها غير غافل عن الآخرة، وغير مهمل للعلوم الشرعية.
_________
(١) التوبة: ١٢٢.
(٢) آل عمران: ٧٩.
٣ - رواه مسلم في صحيحه، ٤٣ - كتاب الفضائل (٤/ ١٨٣٦) ٣٨ - باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا، دون ما ذكره من معايش الدنيا.
(٣) الروم: ٧.
(٤) النجم: ٢٩: ٣٠.
1 / 26
نقول هذا ليُعلم أن الإسلام فيه حضٌّ على العلوم الدنيوية المرتبطة بالآخرة، ولكن عامة نصوصه تحضُّ على العلوم الشرعية لأنها هي الجانب الذي هو محل الغفلة من الناس وهي الجانب الذي هو محل التكليف العيني في حق كل إنسان، ومع أن بعض العلوم الشرعية من باب فروض الكفايات ولكن هذه الفروض تختلف عن غيرها من فروض الكفايات الدنيوية بأنها لابد منها لإقامة الدين وإيصال فروض العين لكل مسلم.
* * *
قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ (١).
إنه لا يقوم الإنسان بحمل الأمانة التي تَحمّلها وحُمِّلها، وهي القيام بالتكليف الإلهي إلا بالخروج من الجهل والظلم، وذلك لا يكون إلا بالعلم والعدل، وإنما بُعث الرسل عليهم الصلاة والسلام ليعلموا الإنسان وليزكوه فيتحقق بالعلم وبالعدل.
﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (٢).
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (٣).
فكما أنه بالميزان يقوم الناس بالقسط، فكذلك يقوم بالقرآن القسط، وهكذا فالطريق للعدل هو العلم، وبذلك يخرج الإنسان من الظلم والجهل، والعلم الذي يخرج به الإنسان من الظلم والجهل هو العلم الذي بُعث به الأنبياء ويتمثل في الرسالة الخاتمة: بالكتاب والسنة وما ينبثق عنهما وما يخدمهما ويدخل في ذلك علوم اللغة العربية وأصول الفقه وعلوم القرآن وعلوم السنة والفقه والعقائد والأخلاق.
_________
(١) الأحزاب: ٧٢.
(٢) البقرة: ١٥١.
(٣) الحديد: ٢٥.
1 / 27
والعلم في الإسلام على ستة أحوال:
فريضة وواجب وسنة ومندوب ومكروه وحرام.
والفريضة نوعان عينية وكفائية، ومن الفروض العينية معرفة الإسلام إجمالًا ومعرفة ما يجب على الإنسان تطبيقه منه تفصيلًا وما يستلزم ذلكن ومن الفروض الكفائية كل العلوم التي تحتاجها إقامة الدين والدنيا، والواجب من العلوم هو ما كان دون الفريضة وفوق السنة، كحفظ شيء من القرآن زائد على ما هو فرض، والمسنون من العلوم هو علم الكتاب والسنة حفظًا وفهمًا، والمندوب هو التبحر في كل علم مفروض كفاية أو عينًا، والمكروه من العلوم ما أدى إلى مكروه، ويدخل في ذلك كل ما يعتبر من اللغو الذي لا فائدة منه، والحرام من العلوم هو ما كان حرامًا بعينه، كالسحر أو ما أدى إلى حرام.
والعَالِم الكامل هو من وَرِثَ عن رسول الله ﷺ العلم والعمل والحال والصفة والهيئة وقام بتعليم الكتاب والسنة وتزكية الأنفس.
والعلم الشرعي الأخروي هو علم الكتاب، وعلم السنة التي هي شارحة الكتاب، فالله ﷿ وصف كتابه بقوله: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ﴾ (١) فهناك من أرجع الضمير في (إنه) على القرآن، فالقرآن هو علم الساعة، ومن ههنا كان علم الكتاب والسنة هو العلم الشرعي المطلوب وكذلك كل ما انبثق عنهما مما يحقق مقاصدهما ثم أحاط بذلك مما يخدمهما أو يفصّل في شيء عن مقاصدهما فهذا أشرف العلم عند أهل الآخرة، وأهله أفضل الناس وأشرفهم بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
٤ - * روى أحمد عن رسول الله ﷺ: "وإن العلماء ورثة الأنبياء ... ".
ولقد انعكس الأمر حتى عند بعض المتدينين لانتكاس القلوب والعياذ بالله.
_________
(١) الزخرف: ٦١.
٤ - أحمد في المسند (٥/ ١٩٦).
الترمذي (٥/ ٤٩) ٤٢ - كتاب العلم، ١٩ - باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، وهو حديث حسن.
1 / 28
والعلم مطلقًا هو معرفة كل شيء، فهو المقدمة لإقامة الدين أو لإعمار الدنيا وسياستها، وقد مر معنا أن في الإسلام علومًا مفروضة فرض عين على كل مسلم، وهي العلوم التي يطالب بها المسلم للقيام بحق التكليف الرباني عليه، وتختلف من شخص لشخص على حسب الطاقة والمسؤولية. والظروف التي يواجهها، وهناك علوم مفروضة فرض كفاية وهي كل علم اختصاصي مفيد تحتاجه إقامة الدين أو إعمار الدنيا على ضوء الدين، وهذا النوع من العلوم المفروضة فرض كفايةن تُطالب بها الأمة بمجموعها، بمعنى أن على الأمة أن تخرج من أبنائها مَنْ يغطون احتياجاتها في كل علم من العلوم المفروضة فرض كفاية وما أكثر ذلك، وإذا تعين مسلم للقيام بفرض من فروض الكفاية فقد أصبح هذا الفرض في حقه فرض عين فهو آثم إن لم يتعلمه، وأي علم فرطت فيه الأمة فإن الأمة بمجموعها تكون آثمة بسبب ذلك، ويسقط الإثم عمن يبذل استطاعته، ويتأكد الإثم في حق الذي يستطيع ولا يفعل أو لا يبذل جهدًا في ذلك، ولعل أهم ما يجب أن ينصب عليه التخطيط للأمة الإسلامية هو أن نُحْصي فروض الكفاية في حق كل بلد وقرية، وفي حق كل قطر أو مجموعة أقطار وفي حق العالم الإسلامي، وفي حق الأمة الإسلامية جميعًا والمسلمين حيث كانوا، ويسار في سياسة تعليمهم لإقامة فروض العين وفروض الكفاية، نقول هذا للتأكيد على أن الإسلام قد حضَّ على العلوم الدينية والعلوم الدنيوية وطالب أهل ذلك أن يخلصوا في كل العلوم لله ﷿، وعندئذ تصبح العلوم كلها أخروية.
* * *
ولكن من طبيعة العلوم الدنيوية أن ترى الناس مندفعين إليها وعاكفين عليها.
ثم إن العلوم الدنيوية ذات نفع محسوس وبالتالي فنها تغري وتخدع وتغر، ومن ثم انصبت النصوص على الحضِّ على العلوم الدينية حتى لا يظن الظان أن العلوم الدنيوية هي الأفضل، بل العلوم الدينية هي الأفضل، لأنه إذا قام الدين قامت الدنيا، وإذا لم يقم فلا دين ولا دنيا، فالدين الصحيح هو الذي تقوم به الدنيا قيامًا سليمًا لأنه هو الذي يحدد الفرائض وهو الذي يعلّم الناس أن يضعوا الأمور في مواضعها ويعرِّف الناس على صيغ العدل الكاملة وبدون ذلك لا تقوم دنيا.
1 / 29
- الشريعة الإسلامية هي التي تعلّ العدل الاجتماعي ولذلك فرضت الزكاة، وهي التي تقيم العدل القضائي ولذلك فرض القصاص، وهي التي تعاقب على أي اعتداء على المجتمع ولذلك شرعت الحدود.
والشريعة هي التي تقيم العدل في العلاقات الاقتصادية المتوازنة، ولذلك أجازت البيع وحرمت الربا، وهي التي تقيم العدل على مستوى الأسرة والمجتمع والحكم، وهي التي تقيم العدل في باطن الإنسان وظاهره، ومن تأمل الشريعة عرف أنها كلها عدل وأنه لا مطمع بإقامة عدل كامل إلا بها، والعدل مطلب يتطلع إليه كل سويّ.
والشريعة الإسلامية هي التي تحدد الفرائض المطلوبة من كل فرد على حدة، ومن الأمة بمجموعها ومن الإنسان والناس، والفرائض كثيرة منها الفرائض نحو الله ومنها الفرائض نحو الناس، ومنها فروض العين وفروض الكفاية، ومنها فروض يطالب بها ظاهر الإنسان ومنها فروض يطالب بها باطنه، وكل ذلك مرتبط بعضه ببعض.
والشريعة الإسلامية هي التي تعرّفك كيف تضع الأمور مواضعها فيتحقق الفرد بصفة الحكمة ويتحقق المجموع بهذ الصفة، فهي التي تعرّفك كيف تتعامل مع الآباء، وهي التي تعرّفك كيف تضع الأمور في مواضعها في قضايا الحكم والسياسة وقضايا العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وعلاقة الناس ببعضهم، ثم هي التي تعرّف قلبك كيف يكون على مقتضى الحكمة، وأخلاقك كيف ينبغي أن تكون، لذلك قلنا إنه إذا لم يقم الدين الحق فإن الدنيا نفسها تكون في حالة شقاء ومصداق ذلك في كتاب الله: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ (١) ولذلك ولغيره كانت العلوم الدينية أشرف من العلوم الدنيوية، لأنه بها يقوم الدين والدنيا وهذا من حكمة الحضّ على التفقه في دين الله.
* * *
إن الدنيا بالنسبة للآخرة لا تساوي شيئًا، وإذا كانت الدنيا بالنسبة للآخرة هذا شأنها
_________
(١) طه: ١٢٣، ١٢٤.
1 / 30