Fitina Kubra Ali da 'Ya'yansa
الفتنة الكبرى (الجزء الثاني): علي وبنوه
Nau'ikan
وهذا كلام لا يستقيم، فلو قد كان ابن عباس عند علي لعاد إلى البصرة مسرعا حين بلغته هذه الأنباء، ولما أقام عند علي ينتظر أن يغني عنه زياد وأعين بن ضبيعة وجارية بن قدامة.
والواقع أن ابن عباس قد ضعف عن أمر ابن عمه بعد قضية الحكمين، فهو لم ينهض معه إلى الشام حين هم بالنهوض إليها، ولم يشهد معه النهروان، وإنما أرسل إليه جندا من أهل البصرة، ثم لم يزد على ذلك، وإنما أقام حتى كان من أمره ما كان.
الفصل الثالث والثلاثون
ومع أن معاوية لم ينجح فيما قصد إليه من أخذ البصرة كما أخذ مصر، أو إثارة الفتنة فيها والكيد لعلي، ولم يزد على أن أرسل ابن الحضرمي إلى الموت المنكر، فإنه على ذلك قد أفسد من أمر البصرة شيئا كثيرا، فليس قليلا أن يثير فيها الفتنة وقتا طويلا أو قصيرا، وأن يلجئ زيادا وبيت ماله إلى حي من أحياء العرب يجيرونه من سائر الناس، صنيع العرب في جاهليتهم، وأن يترك المصر مضطربا قد اختلط فيه الأمر وانتشرت فيه الضغائن والإحن وفسد بعض أهله على بعض.
ثم هو بعد ذلك قد انتفع بالتجربة وعرف أن الحرب الظاهرة المجاهرة لعلي في العراق لم يئن أوانها بعد، فاتخذ لنفسه خطة أخرى ليست أقل من الحرب الظاهرة شرا ولا أهون منها شأنا، ولعلها أن تكون أشد ترويعا للنفوس وإشاعة للذعر ونشرا للقلق، ولعلها أن تكون أبلغ في إشعار أهل العراق بالخوف المتصل والفزع المقيم، وإقناعهم بأن سلطان علي قد بلغ من الضعف والوهن وكلال الحد أنه أصبح لا يغني عنهم شيئا، ولا يدفع عنهم شرا، ولا يرد عنهم مكروها، وإنما هم معرضون لمعاوية يصيب من أموالهم ودمائهم ما شاء ومتى شاء وكيف شاء.
فهذه القطع الخفيفة اليسيرة من الجند يؤمر عليها رجل صليب مجرب لحرب الكر والفر، ثم تكلف الغارة على هذا المكان أو ذاك من حدود العراق، وربما كلفت أن توغل في الأرض وتشيع الفساد والنكر ما وجدت إلى ذلك سبيلا، ثم تعود أدراجها بما احتوت من غنيمة، وتترك وراءها فرقا وهلعا، فهي أشبه بالإبر النافذة المسمومة التي تخز هذا الجسم المستقر في العراق وخزا سريعا خاطفا، ثم تنصرف عنه وقد تركت فيه شيئا من سم يجري فيه مع الدم، فيملؤه خورا وضعفا وتفرقا ويأسا، ويضطره إلى ذل لا عز معه، وإلى ضعة ليس بعدها ارتفاع، فهو يرسل الضحاك بن قيس في قطعة من الجند إلى هذا الطرف من بادية العراق التي تلي الشام، ويرسل سفيان بن عوف إلى طرف آخر ويأمره أن يمعن في الأرض حتى يبلغ الأنبار، فيوقع بأهلها ثم يعود موفورا، ثم يرسل النعمان بن بشير إلى طرف ثالث، وابن مسعدة الفزاري إلى طرف رابع، وأنباء هذه الغارات تبلغ عليا فتحفظه وتثيره، ولكنه يدعو فلا يستجيب له أحد، ويأمر فلا يطيعه أحد.
وقد امتلأت قلوب أهل الكوفة خوفا وذلة وانكسارا، فتخاذلوا وتواكلوا وقنعوا بالعافية في مصرهم وفيما حولهم من هذا السواد القريب، لا يطمعون في أكثر من أن يعيشوا، حتى بلغ الغيظ من علي أقصاه فخطبهم ذات يوم خطبته الرائعة التي تصور ما انتهت به المحنة إليه من هم مقيم، وغيظ ممض، ويأس من أصحابه لا يبقي على شيء من أمل، قال:
أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله الذل وسيم الخسف وديث بالصغار، وقد دعوتكم إلى حرب هؤلاء القوم ليلا ونهارا، وسرا وإعلانا، وقلت لكم: اغزوهم من قبل أن يغزوكم فوالذي نفسي بيده، ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا، فتخاذلتم وتواكلتم وثقل عليكم قولي واتخذتموه وراءكم ظهريا، حتى شنت عليكم الغارات، هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار وقتلوا حسان بن حسان ورجالا منهم كثيرا ونساء، والذي نفسي بيده لقد بلغني أنه كان يدخل على المرأة المسلمة والمعاهدة فتنتزع أحجالهما ورعثهما، ثم انصرفوا موفورين لم يكلم أحد منهم كلما، فلو أن امرأ مسلما مات من دون هذا أسفا ما كان عندي فيه ملوما، بل كان به عندي جديرا، يا عجبا كل العجب! عجب يميت القلب ويشغل الفهم ويكثر الأحزان من تظافر هؤلاء القوم على باطلهم وفشلكم عن حقكم! حتى أصبحتم غرضا ترمون ولا ترمون، ويغار عليكم ولا تغيرون، ويعصى الله فيكم وترضون، إذا قلت لكم: اغزوهم في الشتاء، قلتم: هذا أوان قر وصر، وإن قلت لكم: اغزوهم في الصيف، قلتم : هذه حمارة القيظ، أنظرنا ينصرم الحر عنا. فإذا كنتم من الحر والبرد تفرون ... فأنتم والله من السيف أفر، يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا طغام الأحلام، ويا عقول ربات الحجال، والله لقد أفسدتم علي رأيي بالعصيان، ولقد ملأتم جوفي غيظا حتى قالت قريش: ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا رأي له في الحرب. لله درهم، ومن ذا يكون أعلم بها مني أو أشد لها مراسا؟! فوالله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، ولقد نيفت اليوم على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع، لا رأي لمن لا يطاع، لا رأي لمن لا يطاع.
وكانت هذه الخطبة وأشباهها تثير الحفائظ في بعض النفوس التي كانت ما تزال تعرف للأحساب بعض أقدارها، فتنتدب منهم عصب يؤمر عليها علي بعض الرؤساء ويرسلها في آثار أولئك المغيرين، فتدركهم أحيانا ويفوتونها أحيانا أخرى، والشيء المحقق هو أن معاوية قد طمع في علي وأهل العراق، فاتخذ خطة الهجوم الخاطف المتصل، وألزم خصمه خطة الدفاع البطيء الذي لا يدفع شرا ولا يصلح فسادا.
الفصل الرابع والثلاثون
Shafi da ba'a sani ba