Fitina Kubra Ali da 'Ya'yansa
الفتنة الكبرى (الجزء الثاني): علي وبنوه
Nau'ikan
ولم يكن لين الحسن وشدة الحسين هما وحدهما مصدر ما أصاب الشيعة في العراق من يسر وعسر، وإنما أعان ولاة معاوية في العراق على الأمرين جميعا، فأما البصرة فكانت عثمانية، وقد رأيت من أمرها ما رأيت، وعرفت أنها لم تستقم لعلي إلا كارهة، وأما الكوفة فكانت موطن الشيعة ومستقر دعوتهم.
وقد ولي أمر هذين المصرين - بعد أن استقام الأمر لمعاوية - رجلان لم يحبا العنف ولم يذهبا إليه، ولي البصرة عبد الله بن عامر فاستأنف فيها سيرته أيام كان عاملا لعثمان، نظر إلى نفسه ولم ينظر إلى الناس، فجمع من المال ما استطاع أن يجمع، وأرسل للناس أعنتهم يخبون في الشر ويوضعون، وكانت الفتن قد غيرت من أخلاقهم، وطرأ عليها كثير من الأغراب، وكثر فيها الموالي، ونشأ فيها جيل جديد مختلط، ففشا فيهم الفسق، وفسد أمر السلطان، وسقطت هيبة الوالي في نفوسهم؛ لأنه كان مشغولا عنهم بنفسه، ولأنه كان - فيما زعم - يتألف الناس ويكره أن يقطع يد سارق، ثم يرى أخاه أو أباه بعد ذلك، وأقام على هذه السياسة حتى عصي السلطان جهرة، وفزع أهل المصر إلى معاوية فعزله عنهم، في قصة طويلة.
وولى على البصرة عاملا آخر لم يقم فيها إلا شهرا ثم عزله، وولى زيادا كما سترى، فحارب الشر بالشر، وأزال نكرا ليضع مكانه نكرا آخر.
وكان عامل معاوية على الكوفة رجلا آخر داهية من دواهي العرب هو المغيرة بن شعبة، وأمر المغيرة بن شعبة غريب كله، اختلط فيه الخير بالشر حتى أصبح مشكلة من المشكلات، غدر في شبابه بجماعة من أهل الطائف، قتلهم جميعا بعد أن سقاهم حتى ذهبت الخمر بعقولهم وناموا لا يعقلون، فوثب عليهم فقتلهم، وكانوا اثني عشر أو ثلاثة عشر رجلا، ولم يستطع أن يعود إلى وطنه في الطائف، فاستاق مالا كثيرا كان هؤلاء الناس قد قدموا به من مصر، فمضى به حتى أتى المدينة فأسلم وعرض ما ساق من المال على النبي فأبى أن يقبله؛ لأنه نتيجة الغدر وليس في الغدر خير، وسأله المغيرة عن مصيره، وقد أسلم بعد أن فعل فعلته تلك، فقال له النبي: «إن الإسلام يجب ما قبله.» وقد نصح للنبي بعد ذلك وتعرض لأخطار كثيرة في حرب الردة وفي فتح الشام، حتى فقد إحدى عينيه في وقعة اليرموك، ثم شارك في فتح فارس فأبلى أحسن البلاء، وقد أمره عمر على البصرة، وكأن إسلامه لم يكن عميق الأثر في نفسه، فقد شهد عليه نفر بالزنى عند عمر، وأوشك عمر أن يقيم عليه الحد، لولا أن لجلج أحد الشهود وهو زياد، فأقيم حد القذف على الشهود الآخرين وعزل المغيرة عن البصرة، ولكن عمر ولاه الكوفة بعد ذلك، أقام عاملا عليها حتى قتل عمر، واستبقاه عثمان على عمله وقتا قصيرا ثم عزله، وقد اعتزل الفتنة، أو قل: اعتزل أول الفتنة، فلم يشارك في الثورة بعثمان ولم يبايع عليا ولم يشهد الجمل ولا صفين، ولكنه شهد اجتماع الحكمين، وعسى أن يكون قد لعب في هذا الاجتماع بعض اللعب، فلما تفرق الحكمان استبان له أن الدنيا قد أدبرت عن علي، فأظهر الاعتزال فيما كان يرى من سيرته، ولكنه مال إلى معاوية ميلا واضحا، فلما قتل علي كان من أسرع الناس إلى معاوية، وأقبل معه من الشام حتى دخل الكوفة، فشهد فيها صلح الحسن وبيعة الناس لمعاوية، واختطف ولاية الكوفة اختطافا، فيما يقول المؤرخون، فقد روي أن معاوية هم أن يولي على الكوفة عبد الله بن عمرو بن العاص، أو يولي على الكوفة عمرا ويجعل ابنه على مصر، فقال له المغيرة بن شعبة: وتقيم أنت بين فكي الأسد، هذا في العراق وهذا في مصر؟! فعدل معاوية عن رأيه وجعل المغيرة واليا على الكوفة.
وزعم الرواة أن عمرا عرف كيد المغيرة فجزاه بمثله، قال لمعاوية: تجعل المغيرة على الخراج؟! هلا وليت رجلا آخر عليه يكون أقدر على جمع الخراج وضبطه؟! وعرض له بأن في المغيرة ضعفا للمال، فاكتفى معاوية بتولية المغيرة على الحرب والصلاة وجعل الخراج على غيره، ولقي عمرو المغيرة، فقال له: هذه بتلك.
وكانت سياسة المغيرة للكوفة كسياسة عبد الله بن عامر للبصرة، نظر فيها المغيرة إلى نفسه أكثر مما نظر إلى غيره، فرفق بالناس وأسمح لهم، وترك لمعارضي بني أمية من أنصار علي ومن الخوارج قدرا حسنا من الحرية.
وكان معاوية قد تقدم إليه في أن يتعقب أنصار علي ويشدد عليهم، فكان يلائم بين ما أراد معاوية وبين ما كان هو يحب من العافية، وأمره وأمر عبد الله بن عامر أيسر مما ظن المؤرخون، كلاهما ولي الأمصار للخلفاء السابقين، فتعود في سياسة الناس سيرة من الرفق والدعة والأناة، لم يكن من اليسير عليه أن يخالف عنها.
ومعاوية بعد ذلك رجل من أصحاب النبي، فكان من الطبيعي أن تكون سياسته وسياسة ولاته على الأمصار للناس في حياتهم اليومية شبيهة إلى حد بعيد بسياسة الخلفاء والولاة من قبلهم، وقد كانت كذلك في مصر أيام عمرو بن العاص وابنه عبد الله، وكانت كذلك في مصري العراق، إلا أن الناس أحدثوا أحداثا لم تكن، كما قال زياد، فأحدث معاوية وولاته لهذه الأشياء سياسة تلائمها، ولم تتغير سيرة المغيرة في الخوارج من أهل الكوفة، وإنما سار فيهم سيرة علي، تركهم أحرارا يلقى بعضهم بعضا ويجتمعون ويتذاكرون أمرهم، وأبى أن يعرض لهم إلا أن يحدثوا شرا، أو يبادوه بعداوة.
وكان المغيرة أشد احتياطا من علي، فكان له من يعلمه علم الخوارج، وكان يحاول أن يمنع خروجهم قبل وقوعه، وربما دفعه ذلك إلى أخذهم أثناء اجتماعاتهم وإلقائهم في السجن، فإذا خرجت منهم خارجة ونصبت له الحرب، أو أفسدت في الأرض، أرسل إليها من أهل الكوفة من يقاتلها حتى يكفيه شرها.
وكانت سيرته في الشيعة أيسر من ذلك وأسمح، لم يعرض لهم بمكروه وربما بادوه بالكلام القاسي الغليظ فنصح لهم ورفق بهم، وحبب إليهم العافية، وخوفهم بطش السلطان، ثم لم يؤذهم بعد ذلك في أنفسهم ولم يرزأهم من أموالهم شيئا.
Shafi da ba'a sani ba