قصة الفردوس
الأديب يدخل الجنة
الأديب يركب زورقا في الجنة
مأدبة جامعة في قصر الشيخ محمد عبده بالجنة
قصة الفردوس
الأديب يدخل الجنة
الأديب يركب زورقا في الجنة
مأدبة جامعة في قصر الشيخ محمد عبده بالجنة
الفردوس
الفردوس
تأليف
عبد الرحمن البرقوقي
قصة الفردوس
بسم الله الرحمن الرحيم، ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتيسير.
أما بعد؛ فهذه نظرات وفكر، آمل أن تكون موفقة بعيدة الأثر، و«ثمرات أوراق» يانعات،
1
أرجو أن تكون حبيبة إلى القلوب سائغات، وشطحات أشتات
2
بين حق وما يشبه الباطل، وجد وما يشاكل الهزل الهازل، ومناقلات أبكار،
3
وضعتها على ألسنة أعلام بررة أخيار، ومثاقفات عذراوات عزوتها إلى أديب أولع بالأدب العربي القديم، وآثاره العبقريات الأوابد
4
من نثير ونظيم. •••
حوال سنة 1906م دعاني إليه، المأسوف عليه، إمام اللغة و«البيان» في عصره، الشيخ إبراهيم اليازجي، وكان قد «نظمني وإياه ود قديم، ولف هواي بهواه عهد كريم»، حتى إذا أجبته ناولني دفترا مخطوطا، وقال: هذه رسالة الغفران للمعري، كلفني الوراق الناشر المشهور «أمين هنديه» أن أصححها وأضبطها بالشكل الكامل كي يخرجها بالطبع على هذا الوضع، فنصحت له بأن تقوم أنت بهذه المهمة التي أراها
5
شاقة مضنية، ولكنك - إن شاء الله - بمثلها زعيم
6 ...
فقرأت الرسالة، ثم توفرت على ضبطها بعد أن اقترحت على الناشر شرحها، فأبى إلا طبعها مجردة من الشرح، فكان، وكان أن سحرت بهذه رسالة الغفران، وكان من أثر هذا السحر أن فكرت في عمل أنحو فيه هذا المنحى، من جهة المظهر والمبنى، لا من جهة المخبر والمعنى، وأحتذي فيه على هذا الحذو البديع، وإن لم يدرك الظالع شأو الضليع.
7
فاستخرت الله تعالى فخار لي، وصممت على ارتسام ما رسمت، وأخذت في هذا العمل على النحو الذي ترى ... وأسميته «الفردوس أو سياحة في الآخرة»، وكتبت آنئذ طائفة من الكلام تنتهي بوصول الأديب إلى قصر شيخنا الأستاذ الإمام «محمد عبده» في الجنة، ثم صرفتني عنه تصاريف الأيام، وخطر الدهر من خطراته،
8
وتصرمت السنون، وتجرمت الدهور،
9
حتى إذا كانت سنة 1927 زارني أحد أصدقائي من كتاب إحدى المجلات الأسبوعية، وسألني شيئا ينشره لي، فعرضت عليه أشياء من بينها هذه القطعة من «الفردوس»، فأخذ في إذاعتها، فحفزني ذلك إلى إتمامها، فخطوت فيها خطوات رغيبات
10 ...
وأخيرا، وفي هذه الأيام، اقترح علي أخ لي كريم أن أبادر بطبع هذا «الفردوس» منجما على أسفار، على الرغم من غلاء الأسعار، فامتثلت وأنا أقدم رجلا وأؤخر أخرى، لا لشيء سوى أنني أخشى ألا يروق مثل هذا الأسلوب طائفة من مثقفي هذا الجيل، لما يغلب على بعض مواضعه من الغريب والصناعة البيانية، من تشبيه واستعارة وسجع وازدواج وتضمين واقتباس ووصف مسهب، وما إلى ذلك مما قد ينبو به ذوق فئام
11
من أدباء هذه الأيام ... بيد أني أظن أن هناك على هذا جمهرة متوافرة من عشاق البيان، ولغة الضاد والفرقان، قد يقع منهم مثل هذا العمل موقعا تراح له نفوسهم،
12
وتصبو إليه أفئدتهم، لا من جهة عرضه هذا العرض المستطرف - وأستغفر الله - فحسب، ولكن لهذا، ولما تضمنه من فكر وآراء هي نتاج التجاريب، وثمار الاطلاع والبحث والتنقيب، يظاهر ذلك حق صراح، وصدق صادق محض براح
13 ...
على أن ما قد يلاحظ من ضروب الصناعة إنما يكثر في صدر «الفردوس» لا في سائره، وفي أوائل عرضه لا في أوساطه وأواخره، إذ وشي هذا القسم أيام الشباب، وجنون الغرام بالأدب المزور اللباب،
14
أما ما يفرط من القلم أحيانا مما هو بالهزل والمجون أشبه، فإنما الهدف فيه، بعد الإحماض والتفكيه،
15
هو الاستعانة على ما وراء ذلك، من دقيق الأغراض وخفي المسالك، ورحم الله من قال: إني لأستجم نفسي بالشيء من اللهو والباطل؛ ليكون ذلك أعون لها على الحق ... أو كما قال. «وأما بعد» فإن هذا «الفردوس» إنما هو - كما ترى - وصلة إلى عرض أنماط مختلفة من الكلام، وألوان شتى من القول، في كل ما عسى أن يفكر فيه المفكرون، من ضروب العلم والعرفان، وأفانين الثقافة والبيان، وسيطول هذا «الفردوس» ويستوسع، حتى لقد يستوعب عدة أسفار، وحتى ليصح أن يعد هذا السفر غيضا من فيض ، بالإضافة إلى سائر الكتاب.
والله سبحانه هو الموفق إلى إتمام هذا العمل، وأن يجعل القبول حليفه، ورضا الناطقين بالضاد عنه أليفه، إنه سميع الدعاء، وهو حسبي ونعم الوكيل.
عبد الرحمن البرقوقي
ربيع الآخر سنة 1359ه/مايو سنة 1940م •••
حدث أديب ثبت
16
ثقة قال:
إني لفي بيتي ذات ليلة من الليالي، وقد تزويت في زاوية من السرير،
17
وبالقرب مني مصباحي الإضحيان المنير،
18
ثم أخذت أنزه النفس، وأجلو صدأ الحس، في روضة من رياض الكتب والأسفار، ونزهة من نزه الأدب والآثار، أجتلي أنوارها،
19
وأجتني من كثب أثمارها،
20
وأتفيأ ظلها الوارف الظليل،
21
وأنسم روحها الندي العليل،
22
ويرتع قلبي من جنباتها في مرتع خصيب، ويكتسي لبي من أوراقها بثوب من الحكمة قشيب،
23
وأنفي الهم برحيق كوثرها عن ساحة صدري،
24
وأكرع من جداولها العذاب النطاف وهي بين سحري ونحري،
25
وأستشفي بترياقها من علل هذا الناس وأدوائه،
26
ومن بلايا هذا العالم المنكوس وأرزائه.
27
عالم أشبهوا القرود ولكن
خالفوها في خفة الأرواح •••
يحسن مرأى لبني آدم
وكلهم في الذوق لا يعذب
ما فيهم بر ولا ناسك
إلا إلى نفع له يجذب
أفضل من أفضلهم صخرة
لا تظلم الناس ولا تكذب •••
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوت إنسان فكدت أطير
وما زلت في هذه الروضة الذهنية، وهاتيك النزهة الروحية العلوية، إلى أن شمر الدجى للرحيل الذيل، وكاد النهار يصيح بجانب الليل.
28
وقد فكت الظلماء بعض قيودها
وقد قام جيش الليل للفجر واصطفا
وكان البيت لا يحتوي أحدا غيري، فكان الصدر وكنت في طيه السر المكتم، وكان الحامل العشراء وكنت الجنين غير التوأم،
29
وكان الجفن وكنت فيه السلاح،
30
وكان السحاب المركوم، وكان مصباحي البارق اللماح.
31
وإني لكذلك؛ إذ طرق باب غرفتي طرقا خفيفا، ثم قرع بعد هنية طرقا عنيفا، فانتبهت مما أنا فيه، ومشى قلبي في صدري حتى شاع الذعر في جميع نواحيه، وقلت في نفسي: ترى من بالباب؟! ومن الطارق المنتاب؟!
32
أملك كريم، أم شيطان رجيم؟ وانثالت الهواجس على قلبي انثيالا،
33
وتقاطرت الوساوس على صدري أرسالا ،
34
وإني لمرتطم في هذه الغمرة،
35
وغاشية هاتيك السكرة،
36
إذ تحرك الباب في سكون، وفتح في رفق ولين حتى لا تكاد تحس اختلاجه الظنون،
37
ثم اقتحم الغرفة شبح نوراني، مفرغ في قالب إنساني، يسطع النور حواليه، ويرفرف روح الجلال والروعة عليه:
فتى روحه روح بسيط كيانه
ومسكن ذاك الروح نور مجسد
صفى ونفى عنه القذى فكأنه
إذا ما استشفته العيون مصعد
38 •••
تنفذ العين فيه حتى تراها
أخطأته من رقة المستشف
كهواء بلا هباء مشوب
بضياء أرقق بذاك وأصف
فلا تسل بعد ذلك عما دهاني، فقد قبعت كالقنفذ في مكاني، وبراني الرعب حتى لتقتحمني العين ولا تكاد تراني، وتقلصت من الفم الشفتان، وكادت تنقطع نياط الجنان
39
ونال مني الخوف حتى أحالني عرضا،
40
بعد أن أوسعني حرضا،
41
وفغر الموت فاه،
42
وكادت تطير من جسمي الحياة، ولم يبق في إلا نفس خافت، وعين إنسانها باهت:
43
روح تردد في مثل الخلال إذا
أطارت الريح عنه الثوب لم يبن
وجملة القول أني استحلت إلى حال:
يكاد وجيب قلوب الرجال
من خوف مكروهها يسمع
44 •••
لقد خفت حتى خلت أن ليس ناظر
إلى أحد غيري فكدت أطير
وليس فم إلا بسري محدث
وليس يد إلا إلي تشير
ثم لمحت الخيال وقد أخذ يتخطر في الغرفة بين جيئة وذهوب وغدو ورواح، وبعد خطوات معدودات وقف الخيال، وانتصب أمامي انتصاب التمثال، واستقبلني كما يستقبل المصلي الإمام، أو بيت الله الحرام، ثم حدقني مبرقا بعينيه، وأتأر إلي - ساهم الوجه - ناظريه،
45
ولحظته وكأنه أشفق علي وخاف إن هو مضى في صمته هذا أن أفيظ،
46
وألفظ النفس الأخير، فأخذ يليح بيديه إلاحة يريد أن يفرخ روعي،
47
ويميت خيفتي، ثم رأيته يترمرم،
48
وأذنت من ناحيته صوتا خفيتا رفيقا كأنه خفق النسيم في السحر:
49
لا عليك يا أخي لا عليك، وليس إلا الخير صرفا ساقه الله إليك، وليهنئك ما أنت قادم عليه
50 ... فأنا يا أخي نبي الله الخضر ... وقد أمرت أن أستصحبك وأصعد بك اليوم إلى المحل الأرفع والملكوت الأعلى، إلى حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ... فقم يا أخي، قم ولا تن وخل الهوينا
51
للضعيف، واتبعني حيثما سرت، ولست أطلب إليك إلا أن تلزم الصمت، ولا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ... •••
وما كاد نبي الله الخضر يتم هذه الكلمات حتى قرت العين، وانكشف الرين، وذهب الأين، وكأنما أنشطت من عقال،
52
فلا وربك: ما البرء بعد السقم، والخصب بعد الجدب، والغنى بعد الفقر، وما طاعة المحبوب، وفرج المكروب، والوصال الدائم، والشباب الناعم، بأحلى وأروح من هذه المنهاة، التي انتهت بها هذه المأساة:
53
ما زلت في غمرات الموت مطرحا
يضيق عني وسيع الرأي من حيلي
فلم تزل دائبا تسعى بلطفك لي
حتى اختلست حياتي من يدي أجلي
وبعد ذلك أحسست أنا الآخر كأنني استحلت إلى جسم نوراني شفاف، وأن مادة جثماني آضت إلى معنى روحاني، وما هو إلا كلا ولا، أو كحسو الطائر الماء وقد خاف الملا،
54
حتى زويت لنا الأرض،
55
ورأيتني ونبي الله في صحراء دوية براح قذف خلاء،
56
مطوقة أطرافها بآفاق السماء، واسعة الجوانب، مجهولة المذاهب، تغتال الخطى،
57
ويحار فيها القطا:
58
تجري الرياح بها حسرى مولهة
حيرى تلوذ بأطراف الجلاميد
في فسحة الظنون، بيد أنه تكبو دون غاياتها الخواطر وتخسأ الأبصار،
59
في روعة الخلود، وهل للخلود روعة أروع من ذا أو انبهار!
فضاء يرد العين حسرى
يقص جناح الفكر وهو محلق
ومفازة هائلة لا تسمع فيها لواطئ همسا، ولا لنابح جرسا،
60
وجو ساج سجسج،
61
وسحر طلق روح أبلج.
62
نسيمه كالراح لو يحتوى
والروح لو يعقد منحله •••
من نسيم كأن مسراه في الأر
واح مسرى الأرواح في الأجساد
وسماء زرقاء صافية، ونجوم كأنها في لجة هذا البحر دراري طافية،
63
أو أزاهر طلها الندى فهي ترف رفيفا،
64
أو قلوب لذعها الحب فهي لا تني خفوقا ووجيفا، أو هي مسامير أبواب الجنة تبص وتلتمع،
65
أو هي عيون الأبدية ترنو إلينا رنوات تهيب بنا أن نستحي ونرتدع،
66
أو هي ثقوب تخترق طباق السماوات العلى، فتشع منها أنوار الإله جل وعلا، والبدر منتصب بين هاتيك الكواكب، كأنه ملك بين أجناده والمواكب، وكوكب الزهرة تأتلق في روعة لمعته، فلولا التقى لقلت جلت قدرته، والجوزاء كفأرة تسبح، أو غادة ترقص في مسرح، والحوت يسبح في السماء كما يسبح بحذق في الماء.
وبنات نعش يشتددن كأنها
بقرات رمل خلفهن جآذر •••
ورنا إلي الفرقدان كما رنت
زرقاء تنظر من نقاب أسود •••
ولاحت لساريها الثريا كأنها
على الجانب الغربي قرط مسلسل •••
وسهيل كوجنة الحب في اللو
ن وقلب المحب في الخفقان
مستبدا كأنه الفارس المع
لم يبدو معارض الفرسان
يسرع اللمح في احمرار كما
تسرع في اللمح مقلة الغضبان
67 •••
وقد لاح فجر يغمر الجو نوره
كما انفجرت بالماء عين على الأرض
حتى إذا قوضت خيام الظلام، وفرت أسراب النجوم من حدق الأنام، لمحت على قيد خطوة
68
منا براقين، أبيضين يققين،
69
خيل إلي أنهما في انتظارنا، معدان لركوبنا، وكذلك كانا؛ فقد تدلف
70
إليهما نبي الله الخضر فامتطى أحدهما، ثم أشار إلي أن أمتطي الآخر، وما كدت أمتطي براقي حتى رأيت منه عفرية نفرية مرحا أرنا صلتان، كأنه كما قيل شيطان في أشطان،
71
يكاد مما يزدهيه صلفه يطير،
72
فكأنما لسعته الزنابير،
73
أو كأن الترب الذي يلامسه حسك السعدان
74
أو كأنما خالطت هامته الخندريس فهو معربد سكران،
75
أما البراق فهو الطرف نعم الطرف
76
وهو لعبقريته يكاد يستغرق الوصف، وحسبه أنه ركوبة الأنبياء، لا يعرج بهم غيره إلى السماء، وأنت فإذا نظرت منعما
77
إليه، خلت الثريا طالعة بين عينيه، وتوهمت الجوزاء في رسغيه،
78
وحسبت الضياء قد هريق
79
عليه.
فكأنما لطم الصباح جبينه
فاقتص منه فخاض في أحشائه
أما عيناه فسوداوان، ولكن سوادهما كله نور، يريان الشيء البعيد في حلك الديجور.
80
يرى طامح العينين يرنو كأنه
مؤانس ذعر فهو بالأذن خائل
81
وأما أذناه فمؤللتان مرهفتان، كأنهما يراعتان محرفتان،
82
فكأنه مصغ لسماع الإذن بالسرى، من سائس لهما لا يرى، وأما متنه فلين الأعطاف، وطيء الأكناف، فإذا أنت امتطيته أصبت ليانا في ليان، فكأن ثمة نسبا بين عظامه والخيزران، وأما ذنبه فذيل العروس، وجناح الطاووس ، وأما حافره فالفيروزج زرقه، وهو على ذلك كله كالهواء رقه.
طرف تبين للبصير وغيره
فيه النجابة جاريا ومقودا •••
هذب في جنسه ونال المدى
بنفسه فهو وحده جنس
وهو إذا ما ناجاه فارسه
يفهم عنه ما تفهم الإنس •••
ملك العيون فإن بدا أعطيته
نظر المحب إلى الحبيب المقبل
وبعد أن امتطينا البراقين، طارا بنا في الجو طيرانا لست أدري ولا إخالني ماذا عسى أن يقال في وصفه، وهو معنى من المعاني ليس في وسع اللغة العبارة عن مثله، وإلا فهل يكفي أن تقول: باز هوى في إثر صيد من مرقب،
83
أو رجم انقض في إثر شيطان من كوكب،
84
أو كأن قد صار له من كل جارحة جناح، أو إذا جرى البرق خلفه كبا البرق وأخطأه النجاح،
85
أو دعوة المظلوم لا تكاد تخرج من فم الداعي حتى تصعد إلى الله ثم تحيق بالظلوم.
86
تفتح أبواب السماء لوفدها
إذا قرع الأبواب منهن قارع
أو هو ما يغزوه ابن هانئ بقوله يصف الخيل، وكأنه رأى البراق بظهر الغيب:
87
وأجل علم البرق فيها أنها
مرت بجانحتيه وهي ظنون
كلا، وكيف وما هو إلا رجع الطرف حتى رأيتني ونبي الله الخضر في عالم الأرواح، واقفين بباب الفردوس ودار الأفراح ... الله أكبر، ماذا أرى وأنظر، وفي يقظة أنا أم في منام، وهاتيك حقائق أم هي رؤى وأحلام؟ الحمد لله على سبوغ نعمته، وضفو نيله وعطيته، الحمد لله لقد أجزل لي في العطاء، ومنحني ما لم يمنحه غير الأنبياء، وسواء أكان ذلك في عالم الخيال أم في عالم الحقائق، وفي عالم اليقظة أم في عالم الرؤى الصوادق، فقد أتيح لي دخول الجنة قبل الممات، ورأيت كل ما فيها حقا، وهيهات ذلك لسواي هيهات. •••
حدث الأديب الثقة قال:
والآن، وقد آن لي أن أقص عليك سياحتي في جنات الفردوس، وأن أصفها لك وأصف كل ما رأيت فيها على حقه، فهل تترقب مني أكثر مما كان من ذلك الأعرابي الذي طرأ من البادية على حاضرة قد فهقت حضارة،
88
واستبحرت رفاهية وعمارة، وزخرت نعيما وترفا، واكتظت بدائع وطرفا، ثم حضر عرسا فيها لأحد السروات، فرأى شيئا لم تقع العين على مثله في الحواضر، بله البوادي البلاقع المقفرات،
89
ثم أريد على أن يصف ما رأى، فوصف ولكنه أضحك وما عدا،
90
وأين أنا على ذلك من الأعرابي الذي أذاب الفصاحة وأذابته، وأين عرسه من الجنان وما حوته؟ كلا، لا أين، ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر مدادا للكلام عن الجنة لنفد البحر قبل أن ينفد الكلام.
يفنى الكلام ولا يحيط بوصفها
أيحيط ما يفنى بما لا ينفد
وبودي كان، أن يكون ذلك في الإمكان، وأن يؤاتيني كما أشتهي وصف الجنان، فأجلو على أهل الدنيا معنى لو هو برز لهم لتزخرف له ما بين خوافق السماوات والأرض، ولاستحال جمالا غير الجمال ما بين طولهما والعرض، ولانجابت حلكة هذه الخاسرة، وحل محلها نور إلهي أبدي من نور الآخرة، كما ينجاب الشر بالخير، والضلال بالهدى، والمرض بالعافية، والنقمة بالنعمة الباقية، نعم، ولو أتيح لي أن أصف لك الجنة وأنا فيها، راتع بين أهليها، لأتيت لك بكلام علوي فردوسي ملائكي ككلام أهل الجنة إن لم يكن منطبقا كل الانطباق، فعسى أن يكون مقاربا، ولكني وا أسفاه! أحدثك بعد خروجي من الجنة، وتمرغي في أعطاف دنياكم هذه وهويي إلى هذا الحضيض الأوهد ... على أنه إن لم يكن صداء فماء،
91
وإن لم يكن خمر فخل، وإن لم يصبها وابل فطل،
92
ومن لم يجد ماء تيمما ...
رضوان
رضوان، وما أدراك من رضوان، ثم ما أدراك من هو؟
هو أحد الملائكة المقربين، وحسبه أنه سيد خزنة الجنة التي أعدت للمتقين، وهو نور في نور، يكاد سنا برقه يأخذ بالأبصار، ولو هو صاح في جانبي الديجور،
93
لانمحت آية الليل ولم يبق إلا النهار، وماذا عسى أن يكون القول في ملك هو ابتسام فم الآخرة ... وإذا كان يوم الفصل فهو فيه قطب الرحى ومركز الدائرة، ولا غرو، فمن ذا الذي يدخل دار السلام إلا بإذنه ورضاه، ومن ذا الذي لا يجعل الازدلاف إليه لذلك وكده وهجيراه،
94
أما أنا فقد أراحني نبي الله الخضر وكفاني مؤنة بذل أي مجهود في سبيل دخول الجنة؛ إذ لم تكد عين رضوان تأخذ الخضر - عليه السلام - حتى فتح لنا باب الفردوس، وفي هذه اللحظة فرطت مني بادرة كادت تطيح بي في مهواة اليأس من دخولي الجنة
95
إذ أدركتني حرفة الأدب - لها الله - وجال في صدري أن أنظم أبياتا أمتدح بها رضوان وأزدلف بها إليه، شنشنتي في الدنيا وشنشنة كل أديب،
96
فاتسق لي ذلك واستقام، وفتح الله علي بقصيد بارع موف على الغاية، أطريت فيه رضوان ولا إطراء النصارى المسيح ابن مريم،
97
ثم اقتربت من خازن الجنة لأنشده هذا القصيد، وكأن نبي الله الخضر أحس ذلك مني، فنظر إلي نظرة مروعة استطير لها قلبي وماث من الخوف كما ينماث الملح في الماء ... فأمسكت وسقط في يدي،
98
واعتذرت إلى الخضر عن هذه الهفوة ونشدته الله أن لا ترهقني من أمري عسرا، فإن ربة الشعر هي التي أوحت إلي وأغرتني بهذا الأمر؛ إذ سحرني جمال رضوان وملك علي مشاعري وأنساني ما تشارطنا عليه ... ويا لله ما أشأم الأدب على من امتحن به حتى في الآخرة! ... وما لرضوان الذي خلقه الله من طينة الصدق، وفي مهده درج وفي آفاقه يطير، وما للشعر الذي أحسنه كما قيل أكذبه!
هوامش
الأديب يدخل الجنة
ولما فتح باب الفردوس أخذت عيناي شجرة شجراء،
1
أصلها ثابت وفرعها في السماء،
2
ومن سنخ
3
هذه الشجرة ينبع عينان ثرتان نضاختان،
4
ينساب منهما نهران يجريان، وحوال هذه الشجرة سرب من الملائكة وقد اصطفوا صفا صفا، فحياهم نبي الله الخضر، فحيوا بأحسن من تحيته، ثم غمزني نبي الله بعينيه، وأشار إلي بأن أنغمس في إحدى هاتين العينين، فسألته جلية الأمر، فقال: وهذه واحدة ... ألم أقل لك لا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا. فقلت له: لا تؤاخذني بما نسيت ولن أعود إلى مثلها، وائتمرت بأمره، ونضوت عني ثيابي،
5
وغطست في ماء العين ، فأحسست إثر ذلك كأن شيئا من أدران الإنسانية كان لا يزال يلتاط بي
6
ثم زال، وأبدلت من ثم بحالي الأولى أحسن حال، فقد كنت في الدنيا وقد رقت عظامي ونيفت على الستين،
7
فأصبحت في الأخرى ابن ثلاث وثلاثين، وقد كنت فيها جهما دميما جافي الطلعة مقبوح الخلقة،
8
فقد كان لي وجه كز أشوه كرشوم شنعنع،
9
يشق منظره على الحدق.
يفزع الصبية الصغار به
إذا بكى بعضهم فلم ينم
وكان لي مخطم أنافي كوجار الضب،
10
يا عجبا كيف احتملته في العاجلة، ما يربى على الستين سنة، وشفتان غليظتان هدلاوان كأنهما مشفرا بعير، أو طرا من فيل،
11
وثالثة الأثافي
12
أني كنت وقد مشت رواحلي وأجهد القتير في واشتعل الرأس شيبا،
13
وكفى بالشيب وحده عيبا.
يا من لشيخ قد تخدد لحمه
أفنى ثلاث عمائم ألوانا
سوداء حالكة وسحق مفوف
وأجد لونا بعد ذاك هجانا
14
آه، آهة الرجل الحزين من الشيب، ويا حسرتا على الشباب ... الشباب! وهل الدنيا غيره؟! هل الحياة بمطايبها ومناعمها تستطاب، إلا في أيام الشباب؟! وما متاع الدنيا إذا ولى المقبلان: الشباب والصغر؟! وما المجد والمال إذا أقبل المدبران، الشيب والكبر؟
لا تكذبن فما الدنيا بأجمعها
من الشباب بيوم واحد بدل
لا تلح من يبكي شبيبته
15
إلا إذا لم يبكها بدم
لسنا نراها حق رؤيتها
إلا زمان الشيب والهرم
كالشمس لا تبدو فضيلتها
حتى تغشى الأرض بالظلم
ولرب شيء لا يبينه
وجدانه إلا مع العدم
والبيض الحسان، وهن الروح والريحان،
16
وقرة العين،
17
والسكن لذي الأين،
18
وغايات الأمل، ومنسيات الأجل، هل تظفر منهن بالود والهوى ما لم تخطر بينهن برداء الصبا؟ وبأي شفيع تخطب أيها الشيخ ود الغانيات، وقد سود ما بينك وبينهن بياض تلك الشعرات:
فإن تسألوني بالنساء فإنني
خبير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله
فليس له في ودهن نصيب
يردن ثراء المال حيث علمنه
وشرخ الشباب عندهن عجيب
19 •••
أعر طرفك المرآة وانظر فإن نبا
20
بعينك عنك الشيب فالبيض أعذر
إذا شنأت عين الفتى شيب نفسه
فعين سواه بالشناءة أجدر
21
يقولون: في الشيب والوقار، والعفة والحلم والأدب له تبع،
22
وتلك - عمرك الله - حجة لاجئ إليها العاجزون؛ ففي الموت الوقار الأكبر، وفي الشيب وقار؛ لأنه الموت الأصغر، وهل ما يزعمونه عفة إلا لأن عريت أفراس الصبا ورواحله،
23
وطارت دواعي المراح ووسائله.
ليت الحوادث باعتني الذي أخذت
مني بحلمي الذي أعطت وتجريبي
24
فما الحداثة من حلم بمانعة
قد يوجد الحلم في الشبان والشيب •••
شعلة في المفارق استودعتني
في صميم الفؤاد ثكلا صميما
دقة في الحياة تدعى جلالا
مثل ما سمي اللديغ سليما
25
حلمتني زعمتم وأراني
قبل هذا التحليم كنت حليما
ويقولون: إنما الرأي للشيخ؛ لأن التجاريب قد حنكته، وتصاريف الأدهار قد سبكته،
26
وآض وقد ضرب آباط الأمور ومغابنها،
27
واستشف ضمائرها وبواطنها، فهلا قالوا: إن الأيام نحتت أثلته،
28
وأخمدت وقدته، وأبردت عظامه، وفلت حسامه،
29
وأساء عليه أثر السن، فأخذت الأيام من لبه كما أخذت من سنه ... وإنما الشيخ لدى النصفة والمعدلة كالزند الذي قد انثلم، ورأي الشبان كالزند الصحيح الذي يري بأيسر اقتداح
30 ... ولله در الفاروق - رضوان الله عليه - إذ كان كلما حزبه أمر،
31
ونزل به معضل، دعا الفتيان واستشارهم، ويقول: هم أحد قلوبا ... على أن من شيم الشيوخ - كما يقول الحكيم - أن يستبدوا دائما بآرائهم ويجمدوا أبدا على أفكارهم:
والشيخ لا يترك أخلاقه
حتى يوارى في ثرى رمسه
32
ومن ثم اعتاد سكان جزر فيجي أن يذبحوا آباءهم متى كبروا وحطمتهم السن العالية، وبهذا يعبدون سبيل التطور ويذللون لأنفسهم طريق الرقي والتدرج ... قال الحكيم: ونحن فإنا نتقدم إلى الورا، ونسير القهقرى،
33
بإلقائنا تقاليد أمورنا إلى شيوخنا ... أما أنا فلما رأيتني وقد رددت إلى أرذل العمر،
34
وأصبحت هامة اليوم أو غد،
35
وأخذت سفينة الشيب تقترب بي من ساحل الموت، وقد فاتني الشباب وما يستتبعه من متع الحياة كل الفوت، وكنت بغريزتي أمقت ما يسمونه الجد والحشمة والوقار، وكنت مذ جن الصبا مفراحا ممراحا لعوبا متوقدا كأنني خلقت من مارج من نار،
36
فزعت في الكبر إلى ابنة العنب أحتسيها،
37
ووجدت عزائي كله فيها،
38
ومن أحق من الشيخ بالرحيق،
39
وما الذي يبل منه الريق، ويصير ماءه جاريا جديدا، بعد أن كان راكدا آسنا بليدا،
40
ويضيء سراجه بعد أن طفئ وخبا،
41
ويورق غصنه بعد أن ذبل وذوى، ويحيي منه ميت النفس، بعد أن ظللته ظلال الرمس، غير الشراب؟!
لاح شيبي فرحت أمرح فيه
مرح الطرف في العذار المحلى
وتولى الشباب فازددت ركضا
في ميادين باطلي إذ تولى
إن من ساءه الزمان بشيء
لأحق امرئ بأن يتسلى
42 •••
اشرب على موق الزمان ولا تمت
أسفا عليه دائم الحسرات
43 •••
لا تنم واغتنم مسرة يوم
إن تحت التراب نوما طويلا
وبعد، فيرحم الله حبيب بن أوس إذ يقول:
لو رأى الله أن في الشيب خيرا
جاورته الأبرار في الخلد شيبا
44
وكذلك أبدلني الله إثر دخولي الجنة بشيبي شبابا، وبقبحي حسنا لبابا،
45
فاستحلت - بحمد الله - إلى شاب غض بض،
46
أهيف القد،
47
أدعج العين،
48
مقرون الحاجبين، أسيل الخدين،
49
رقيق الخصر، حلو الشمائل، قيد النواظر،
50
أما الوجه فقد صار بعد هذا القبح كأنه البدر ليلة التمام،
51
وأما الأنف الأنافي فقد حال إلى قصبة در وحد حسام، والفم فقد آض إلى حلقة خاتم، أما العين فعين أحور من جآذر جاسم:
52
فإذا بدا اقتادت محاسنه
قسرا إليه أعنة الحدق
لا شيء إلا وفيه أحسنه
فالعين منه إليه تنتقل
فوائد العين فيه طارفة
53
كأنما أخرياته أول
هوامش
الأديب يركب زورقا في الجنة
حدث الأديب الثقة قال:
ثم أجلت بصري حوالي فوجدت في أقرب النهرين إلينا زورقا جميلا ألاقا يتلألأ تلألؤ النجم الساطع، والكوكب اللامع، وقد قام على جاليه الولدان المخلدون،
1
وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون،
2
فسمت نبي الله الخضر سمته، فتبعته، ثم نزل فنزلت، فتلقانا الولدان باشين بنا هاشين، فرحين مستبشرين، وما كدنا نضع أقدامنا في الزورق حتى أقلع وتقاذف بنا في النهر وانساب انسياب الحباب، ومضى مضي العقاب، وصار يطوي النهر طي السجل للكتاب:
3
ترى الحركات منه بلا سكون
فتحسبها «لسرعته» سكونا
كسير «الأرض» ليس بمستقر
وليس بممكن أن يستبينا
أما الزورق فمن الذهب الوهاج الضحيان،
4
المسمر بالماس والياقوت والمرجان، أما شراعه فمن الخز الأدكن،
5
وحبالها من الدمقس المفتل،
6
وأما دوقله فمن اللجين،
7
وسكانه فمن الذهب العين،
8
وما أجمل المردي في يد النوتي،
9
وقد فرش الزورق بزرابي مبثوثة من إستبرق، ونمارق مصفوفة من سندس أخضر وديباج أزرق.
10
بسط أجاد الرسم صانعها
وزها عليها النقش والشكل
فيكاد يقطف من أزاهرها
ويكاد يسقط فوقها النحل
وأنت فإذا أنعمت فيه النظر، وهو يشق طائرا عباب النهر، وحواليه زوارق أخرى تسابقه، ولكنها لا تكاد تلحقه، حسبت طواويس أبرزت رقابها، ونشرت أجنحتها وأذنابها، وكأنها إذا جدت في اللحاق، وتنافست في السباق نوافر نعام، أو حوافل أنعام، وويلي من الولدان وهم يجدفون بمجاديف من الجمان، رءوسها من العقيان،
11
كأنها طير تنفض خوافيها،
12
أو حبائب تعانق حبائب بأيديها، في ماء جاش آذيه
13
وهو أصفى من البلور، وأبيض من الفضة، وأحلى من الشهد:
هو الجو من رقة غير أن
مكان الطيور يطير السمك
طينه المسك الأذفر،
14
ورضراضه الدر الأبيض والياقوت الأحمر،
15
وحفافاه قباب اللؤلؤ المجوف المقمر،
16
تطل عليه القصور المشيدة المبنية من صنوف الجوهر، تحفها الرياض الضواحك التي تستوقف فيها حدق الأزاهر، حدق النواظر:
الأنف والطرف فيها يسرحان معا
في مبسم أرج أو منظر قشب •••
والماء يفصل بين زهر الرو
ض في الشطين فصلا
كبساط وشي جردت
أيدي القيان عليه نصلا
وأفانين الطير بالنهر محدقة، وغرائبها بالغصون معلقة، متغايرة الألوان والصفات، متنوعة الأصوات واللغات:
ورق تغنى على خضر مهدلة
تسمو بها وتمس الأرض أحيانا
تخال طائرها نشوان من طرب
والغصن من هزه عطفيه نشوانا
وتنظر فترى أسراب الإوز والبط، منثورة في الماء والشط:
وكأن الطيور إذ وردته
من صفاء به تزق فراخا
17
وأقاطيع الظباء والبقر، تطفو وترتع على حفافي النهر:
ما إن يزال عليه ظبي كارع
كتطلع الحسناء في المرآة
والسمك يعوم بعضه في الماء، وبعضه ينزو
18
في الفضاء:
يعمن فيه بأوساط مجنحة
كالطير تنفض في جو خوافيها
وما زلت في هذه النزهة الفردوسية التي يقصر عنها وصف الواصف حتى رسا بنا الزورق على قصر منيف بهيج، في روض مغن ضاحك عبق الأريج، يختال حسنا ونضارة، ويزهى رواء وغضارة:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا
من الحسن حتى كاد أن يتكلما
فنظر إلي نبي الله الخضر باسما، وقال: أتدري لمن هذا القصر؟ هذا قصر أحب الناس إليك، هذا قصر أستاذك في الدنيا «الشيخ محمد عبده»، وإني آنس منك التوق إلى لقائه، فهلم وسأفارقك إلى حين. •••
حدث الأديب الثقة قال:
وما كدت أزايل الزورق وأضع قدمي في الشاطئ حتى تلقاني الولدان المخلدون، يترقرق في وجوههم ماء النعيم النضر، وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، يختلن في ثياب من سندس خضر، ثم أطافوا بي كما يطيف ولدان أهل الدنيا بالحميم يقدم من غيبته، ثم مشوا بي على رود ومهل
19
في بستان مشرق مونق تزدهر أزهاره، وتشتجر أشجاره، وتستأسد نجومه،
20
ويجن جميمه،
21
وتغرد أطياره، وتجري أنهاره، ثم استشرفت فآنست - على غلوة سهم منا وفي بهرة البستان
22 - خيمة من اللؤلؤ المجوف أطنابها من الزبرجد، وأوتادها من الياقوت الأحمر، حتى إذا وصل الولدان إلى الخيمة أشاروا إلي بالدخول، فرميت ببصري فرأيت ثلة من خيرة المصريين
23
جالسين كجماع الثريا على سرر متقابلين:
24
بيض الوجوه كريمة أحسابهم
شم الأنوف من الطراز الأول
وممن عرفت منهم: الشيخ محمد عبده، والشيخ حسن الطويل، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، وقاسم أمين، وأحمد فتحي زغلول، ومحمود سامي البارودي، وإسماعيل صبري، وإبراهيم المويلحي، وحفني ناصف، وحسن جلال، وحمزة فتح الله، وملك ناصف (باحثة البادية)، وعبده الحامولي، وسلامة حجازي، وإمام العبد، فسلمت فردوا علي السلام، وكأني بهم وقد عرفوني، فأقبلوا علي يصافحونني ويعانقونني أحر عناق، وأشرقت وجوههم على إشراقها أيما إشراق، ونظرت فرأيت الملائكة يدخلون عليهم من كل باب: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون ...
وبعد أن اطمأن بنا المجلس دخل علينا سرب من الحور العين، يحمل بعضهن أطباقا من الذهب فيها من فاكهة الجنة ألوان، وبعض يحملن الورود والرياحين، وأخريات يشتلن ألوانا من الكئوس والأباريق والدنان.
25
وشرابا ألذ من نظر المع
شوق في وجه العاشق بابتسام
لا غليظا تنبو الطبيعة عنه
نبوة السمع عن شنيع الكلام •••
من سلاف كأنها كل شيء
يتمنى مخير أن يكونا
أكل الدهر ما تجسم منها
وتبقى لبابها المكنونا
فإذا ما لمستها فهباء
تمنع اللمس ما تبيح العيونا
في كئوس كأنهن نجوم
جاريات بروجها أيدينا •••
تعاطيكها كف كأن بنانها
إذا اعترضتها العين كف مدار •••
حوراء إن نظرت إلي
ك سقتك بالعينين خمرا •••
في مجلس ضحك السرر به
عن ناجذيه وحلت الخمر
فتفكهنا جميعا بفاكهة الجنة، وتشممنا الورود والأزاهر والرياحين، ثم طيف علينا بالراح، وأديرت بيننا الكئوس وكلنا عرض عليه الشراب، وكلنا شرب ما عدا إمام العبد، فانتهزت فرصة تشاغل الإخوان بالتفكه والشراب، وحرمان إمام من العقار،
26
فاختلست الحديث إليه اختلاس النسيم لنفحة الأزهار، واستلبته استلاب الشمس لرضاب طل الأسحار،
27
وألقمته أذني فصب فيها حديثا لم نشعر معه بوقت؛ إذ كان أوحى
28
من ومضة برق، وقد مر دون أن يلتفت إليه الإخوان؛ إذ كل شيء في دار السلام غيره في دار الأحزان، قلت له بصوت خافت أريد مداعبته: لعل السبب يا إمام، من حرمانك المدام، أنك كنت في الدنيا من السودان، لا من البيضان، وهل يستوي الليل والنهار، أم هل تستوي الظلمات والأنوار؟! فافتر إمام وأومض
29
حتى تبدت نواجذه، ثم ضحك ضحكته العالية، المعروفة عنه في الدار الفانية، وكانت وحدها لتفجير ينابيع الضحك في صدور جلاسه كافية، ثم قال: لقد أدمنت يا أخي شرب الخمر في الحياة الدنيا، وما زلت أعاقرها حتى صرعتني وأثأرت مني، فهل تشرئب أطماعي إلى أن أحظى بها في الآجلة، بعد أن نلت منها هذا النيل في العاجلة؟ أما يكفيني أني دخلت الجنة التي أعدت للمتقين، وأني أستمتع الآن بمائة حوراء؛ لأن سوادي في الدنيا حال بيني وبين كل بيضاء، وأنا القائل لذلك فيها:
أنا ليل وكل حسناء شمس
فاجتماعي بها من المستحيل
والقائل:
وسوداء كالليل البهيم عشقتها
لأجمع بين الحظ والليل في عيني
إذا ضمنا ليل تبسم ثغرها
فلولا سناها بت في جنح ليلين
30
قلت له: وبماذا دخلت الجنة يا إمام؟ قال: بإضحاكي في الدنيا الأنام. قلت: وهل الضحك يدخل صاحبه جنة النعيم؟! قال: وهل الضحك إلا آية حسن الظن بالله الغفور الرحيم، ولقد غفر الله لأبي نواس - وهو من تعلم - إذ أحسن ظنه بربه، فقال:
تبسطنا على الآثام لما
رأينا العفو من ثمر الذنوب
ويقول:
تكثر ما استطعت من الخطايا
فإنك بالغ ربا غفورا
ستبصر إن وردت عليه عفوا
وتلقى سيدا ملكا كبيرا
تعض ندامة كفيك مما
تركت مخافة النار السرورا
ثم قال إمام: ولقد كنت أنا الآخر حسن الظن بالله؛ إذ كنت في الدنيا كما تعلم رجلا مفلوكا محدودا محارفا جدب المعيشة مقترا علي في الرزق،
31
أرمق العيش على برض، حتى لكأني كنت أستقطره من أخرات الإبر،
32
وكأن القضاء أحرق سفائني دون الغنى والثراء، ولقد قلت وأنا في دار الهموم:
خلقت بين أناس لا خلاق لهم
فباعني الدين للدنيا بلا ثمن
لولا بقية دين أمسكت قلمي
لقلت إن إله الخلق لم يرني
33
وأنت تعلم:
أن الثراء هو الخلود وأن
المرء يكرب يومه العدم
ولكني على ذلك كنت عند قول شاعر الدنيا شوقي:
فإن السعادة غير الظهور
وغير الثراء وغير الترف
ولكنها في نواحي الضمير
إذا هو باللؤم لم يكتنف
وكنت لا أهلع ولا أستوهل
34
لأي مكروه دعاني الله به ونزل بساحتي، وكنت كلما مسني الضر وهر علي الزمان
35
ازددت تيها على الدهر، وسخرا من الأيام، فكان لسان حالي ما يقول ابن دريد:
لا تحسبن يا دهر أني ضارع
لنكبة تعرقني عرق المدى
36
مارست من لو هوت الأفلاك من
جوانب الجو عليه ما شكا
هذا إلى أني نظرت فرأيت أنه ما من إنسان، في دار الأحزان، إلا وهو آخذ من لأوائها بنصيب،
37
فكل من فيها لذلك بحاجة، أي حاجة، إلى من يروح عنه ويهون عليه ... وكأن الأقدار الرحيمة التي أبت لحكمة بالغة إلا أن تجعل بجانب الخير شرا، والنفع ضرا، والحلو مرا، أنشأت أمثالي ليقوموا بمداواة النفوس، وتخفيف ما يئودها من هم وبوس،
38
ولا دواء إلا الدعابة والمجون والضحك.
إنما للناس منا
حسن خلق ومزاح
ولنا ما كان فينا
من فساد وصلاح
قال إمام: على أن في الضحك معنى غريبا من غير هذه البابة
39
وقفت في الدنيا على مستسرة،
40
ذلك أن الضحك سر من الأسرار الكبار، التي تبعث على الإجلال والإكبار، فقد كنت في الدنيا متى أحسست من أناس شموخا وكبرياء وإزراء بي وإعراضا عني، فانبعثت ضاحكا كأنني أنكرهم ولا أكترث لهم ولا أعبأ بهم، كأن لم يكونوا شيئا، لا يلبثون أن تستقيم أخادعهم،
41
ويطأطئوا من كبريائهم ... وكنت كلما استغربت في الضحك واستغرقت - على شريطة أن أكون صادقا لا يرى علي أدنى تعمل - تحاقرت إليهم نفوسهم، وامتلأت بي عيونهم، وانبسطوا إلي، وأقبلوا بنشاطهم علي، وهلم حتى أطولهم وأركب يافوخهم وأستولي على الأمد ... فعليك في دار النفاق بالضحك؛ فإنه أمضى سلاح تنتضيه كلما أنست ممن حولك شيئا من الزهو والعجرفة ... ولذلك سبب: هو أن الضحك عنوان الهناءة والسعادة، فإذا ضحكت بكل قلبك كان هذا الضحك منبهة للناس على جليل خطرك ورفعة شأنك، فتراهم بعد أن كانوا يرحمونك، يحسدونك، وبعد أن كانوا يحقرونك، يكبرونك:
إذا شئت أن تلقى الأنام معظما
فلا تلقهم إلا وأنت سعيد
وسبب آخر: هو أن الضحك دليل الثقة بالنفس والاعتداد بها والإدلال بقيمتها، فإذا ضحكت فإنما ذلك لأنك بنفسك وثقت، ولا شيء يبعث على تعظيم قدرك مثل ثقتك بنفسك، وعلى العكس من ذلك كله: الإطراق والاكتئاب.
قال الأديب: وكذلك كان إمام، فقد كان دائما طلق المحيا، ضاحك السن، ظريف المحاضرة، بديع النادرة، فكه الأخلاق، خفة روح الزمان، تراح له القلوب، ويمازج الأرواح، وتشربه الضمائر. وإذا صح أن للضحك أمة، فقد كان إمام نبي أمة الضحك، وكانت معجزته أنه ما من إنسان، كان ما كان، من الخشونة والوقار، والعبوس والاكفهرار، والإطراق والانقباض، والحزن والارتماض، ثم رأى إماما، قبل أن يتدفق كلاما، إلا سرى عنه الهم، وتبسم قلبه قبل الفم، ناهيك بعد ذلك بمجونه وطرفه، ونوادره وملحه، التي كانت تفعل بسامعيها فعل الراح بشاربيها، وإنها لنعمة من نعم الله الكبرى أن وجد في عصرنا مثل إمام ...
أبو علي أخلاقه زهر
غب سماء وروحه قدس
يشتاقه من جماله غده
ويكثر الوجد نحوه الأمس
أيامنا في ظلاله أبدا
فصل ربيع ودهرنا عرس
لا كأناس قد أصبحوا صدأ ال
عيش كأن الدهر بهم حبس
ثم قال إمام: أما السواد الذي حسبته عابا، وساء مآبا، فأين أنت من قول الله جل شأنه:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، ومما ورد في الأثر: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم»، وبديع ما قال ابن عمي سحيم:
إن كنت عبدا فنفسي حرة كرما
أو أسود اللون إني أبيض الخلق
وأبو الطيب إذ يقول:
إنما الجلد ملبس وابيضاض الخل
ق خير من ابيضاض القباء
وأظنك لا تجهل قصيدة رياح بن سنيح الزنجي، مولى بني ناجية التي ذكر فيها أكثر من ولدته الزنج من أشراف العرب، يجيب بها جريرا حين قال جرير:
لا تطلبن خئولة في تغلب
فالزنج أكرم منهم أخوالا
فتحرك رياح وقال هذه القصيدة، وفيها يقول:
والزنج لو لاقيتهم في صفهم
لاقيت ثم جحاجحا أبطالا
42
ولقد أشاد الشعراء في الدنيا بالسواد، وشببوا القصائد بالسوداوات، حتى فضلوهن على البيضاوات، وحسبك ما يقول ابن قلاقس السكندري:
رب سوداء وهي بيضاء معنى
نافس المسك عندها الكافور
مثل حب العيون يحسبه النا
س سوادا وإنما هو نور
وصردر إذ يقول:
علقتها سوداء مصقولة
سواد قلبي صفة فيها
ما انكسف البدر على تمه
ونوره إلا ليحكيها
لأجلها الأزمان أوقاتها
مؤرخات بلياليها
ولقد أتى ابن الرومي في هذا الباب بالعجب العجاب، فكان كما قيل: جرى الوادي فطم على القرى
43 ... قال من أبيات يصف جارية سوداء لعبد الملك بن صالح:
سوداء لم تنتسب إلى برص الشق
ر ولا كلفة ولا بهق
44
ليست من العبس الأكف ولا الفل
ح الشفاه الخبائث العرق
45
في لين سمورة تخيرها الفرا
ء أو لين جيد الدلق
46
تذكرك المسك والغوالي والس
ك ذوات النسيم والعبق
47
أكسبها الحب أنها صبغت
صبغة حب القلوب والحدق
فانصرفت نحوها الضمائر والأبص
ار يعنقن أيما عنق
48
يفتر ذاك السواد عن يقق
من ثغرها كاللآلئ النسق
49
كأنها والمزاح يضحكها
ليل تفرى دجاه عن فلق
50
وبعض ما فضل السواد به
والحق ذو سلم وذو نفق
ألا يعيب السواد حلكته
وقد يعاب البياض بالبهق
51
قلت له: إني يا إمام أعابثك كما كنت أعابثك في العاجلة؛ إذ كنت أحاول بذلك استثارة دفائنك، واستخراج كنوزك ونوادرك، وإذ كنت أحبك كل الحب هناك، فهل كنت تحبني كما كنت أحبك يا إمام؟ قال إمام: وهل تظن كما يظن العامة، وكثير من الخاصة، أن من أحب إنسانا أحبه المحبوب، وتشابكت القلوب والقلوب؟! وأين أنت إذن من قول ذلك الشاعر الجاهلي، وقد أصاب مقطع الحق:
جننا على ليلى وجنت بغيرنا
وأخرى بنا مجنونة لا نريدها
وكيف يود القلب من لا يوده
بلى قد تريد النفس من لا يريدها
فضحكت وضحك إمام ... ثم قلت له: وأين نزلك يا إمام؟ قال: في مكان قصي حيث ينزل أشعب وجحا والجماز والغاضري وأبو دلامة وأبو الشمقمق والشيخ علي الليثي، وكثير من أعيان المجان في الإسلام، وكلما تاقت نفسي إلى رؤية معاصري في الدنيا من أهل مصر جئت إلى حيث هؤلاء الأئمة الأعلام، ولعلك زائري بعد هذه الزورة، حيث تلاقي كل مسرة.
حدث الأديب الثقة قال:
وإني لفي حوار مع إمام؛ إذ أقبل علي الإخوان جميعا يستنبئونني عن حال مصر، ويستطلعون طلعها، كل من الجانب الذي كان يعنيه في العاجلة: أما الشيخ محمد عبده فكان تسآله عن الدين وما ألم به، والأزهر وما نزل بساحته، وكان سؤال الشيخ حسن الطويل عن العلم والفلسفة، وقاسم أمين وملك ناصف فكان سؤالهما عن المرأة المصرية، وفتحي زغلول عن الحالة الأخلاقية والاجتماعية، ومصطفى كامل ومحمد فريد فكانا سئولين عن الحالة السياسية، وكان سؤال البارودي وإسماعيل صبري عن الشعر، والمويلحي وحفني ناصف عن الكتابة والأدب ، وحمزة فتح الله عن اللغة، وحسن جلال عن القضاء، وعبده الحامولي عن الغناء والموسيقى، والشيخ سلامة عن التمثيل ... فوقعت في حيص بيص،
52
وحاولت التملص والانفلات، والإقالة من هذه العثرات ... قلت: وما تسآلكم عن أشياء إن تبد لكم عسى أن تسوءكم، ولقد أراحكم الله من الخاسرة وأباطيلها، وأم دفر وأفاعيلها،
53
وأصاركم إلى ما أنتم فيه من نضرة النعيم والترفيه! على أن أكثر ما سألتموني عنه لست من ليله ولا سمره،
54
فلقد كنت في العاجلة أمقت السياسة كل المقت وأجتوي الاشتغال بها وبأهلها، وكنت أراها ضربا من التبطل واللهو
55
وعمل من لا عمل له ... ولقد كان الجدل - وبخاصة في السياسة والدين - من أبغض الأشياء إلي وأبعدها في رأيي عن اليقين:
لذوي الجدال إذا غدوا لجدالهم
حجج تضل عن الهدى وتجور
وهن كآنية الزجاج تصادمت
فهوت وكل كاسر مكسور
وكنت في الحياة الدنيا لا أدريا،
56
وكنت أرى أن كل شيء ثمة فيه عنصر من الحق وعنصر من الباطل، وجانب من الخير وجانب من الشر، ومسحة من جمال الصدق وشية من قبح الكذب،
57
ورأيت العالم شرقا بالشرور جياشا بالآثام
58
مذ هبط أبونا آدم من الجنة، وقتل قابيل هابيل، إلى هذا الحين، ولم تصلح على مر الزمان حاله، وربما زاد فسادا وجن ضلاله، ولم يفلح فيه إرشاد الأنبياء ولا حكمة الحكماء ولا وعظ الواعظين ولا نصح الناصحين:
كم وعظ الواعظون منا
وقام في الأرض أنبياء
فانصرفوا والبلاء باق
ولم يزل داؤنا العياء
59
حكم جرى للمليك فينا
ونحن في الأصل أغبياء •••
إذا كان علم الناس ليس بنافع
ولا دافع فالخسر للعلماء
قضى الله فينا بالذي هو كائن
فتم وضاعت حكمة الحكماء
ومن جراء ذلك كله كانت خطتي في العاجلة إنما هو غدو لمعاد، أو إصلاح لمعاش، أو فكر أقف به على ما يصلحني مما يفسدني، أو لذة أستعين بها على الحالات الثلاث، وكنت أشبه بما وصف به ابن المعتز نفسه، إذ يقول:
قليل هموم القلب إلا للذة
ينعم نفسا آذنت بالتنقل
فإن تطلبه تقتنصه بحانة
وإلا ببستان وكرم مظلل
ولست تراه سائلا عن خليفة
ولا قائلا: من يعزلون ومن يلي
ولا صائحا كالعير
60
في يوم لذة
يناظر في تفضيل عثمان أو علي
ولكنه فيما عناه وسره
وعن غير ما يعنيه فهو بمعزل
ثم قلت: ولكني سائلكم بادئ ذي بدء
61
عن هذا الوئام، الذي أرى بين مصطفى كامل والأستاذ الإمام، بعد أن يبس الثرى بينهما في دار المحنة،
62
قال الأستاذ الإمام: ألا تعلم أنه متى يدخل أهل الجنة الجنة يمسح الله ما بهم بعضهم من بعض، فلا يبقى في صدر أحد حسيكة على أحد ولا ضغن ولا إحن،
63
ويعود ما بينهم مشرقا مثريا مونقا، وهل نسيت قول الله جل شأنه يصف أهل الجنة:
ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين * لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين ؟ قلت - والشيء يذكر بالشيء - ولماذا مني العالم في العاجلة بالخلاف والشقاق، وعلام كل هاتيكم الأحقاد والحزازات، والشرور والإساءات، والمصائب والآفات. قال الأستاذ:
ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
قال عبده الحامولي: ولم لا يكون الاختلاف في الحياة الدنيا بين الأفراد والجماعات إنما يقصد به إلى معنى نبيل حلو جميل، ما منه بد! ألسنا قد نشئنا كأنغام الموسيقى، هي وإن اختلفت غير أن مجموعها يؤلف من هذا الاختلاف نغما موسيقيا منسجما بديعا يطرب السمع ويملك على المرء مشاعره؟ قال الشيخ حسن الطويل: هذا الخلاف يرجع إلى الحكمة البالغة في إيجاد الخير والشر. قال أحمد فتحي زغلول: ويرجع إلى طبيعة البشر. قال محمود سامي البارودي: تلك الطبيعة التي خلقها الله من صلصال من حمأ مسنون،
64
ولله علي بن العباس إذ يقول:
اعلم بأن الناس من طينة
يصدق في الثلب لها الثالب
65
لولا علاج الناس أخلافهم
إذن لفاح الحمأ اللازب
66
وقال إبراهيم المويلحي: أما مرجع كل المصائب والآلام التي يعانيها العالم في الدنيا فهو تلك الفعلة البارحة
67
التي فعل أبونا آدم في الجنة بعد أن خدعه إبليس خدعة الصبي عن اللبن، وهنا قال إمام العبد وهو يضحك كما كان في الدنيا: كله من أكلة التين!
68
فيا لك أكلة ما زال منها
علينا نقمة وعليه عار
69
واستمر المويلحي في حديثه قال: فكأن ما يكابده الناس في دار الهموم والأحزان تكفير لتلك الفعلة، وكأن الدنيا لذلك بيمارستان مجرمين
70 ... قال الأستاذ الإمام: وماذا كانت تكون الحياة لو أن كل شيء فيها كان طيبا وكانت خالصة لا يشوبها شوب من الأكدار! إنها تكون في هذه الحالة أشبه بحلبة السباق والمتسابقون واحد ليس معه من يسابقه، وإنها لحكمة بالغة تلك الشدائد والأهوال التي يلاقيها الناس في الخاسرة، إذ لولاها لما كان للحياة معنى، وكما أنه لولا ضغط الهواء على جسم الإنسان لانصدع وتمزق، كذلك الحال لو يعرى الناس من الشدائد، ويصبحون موفقين في كل ما يعالجون، لا جرم أنهم يصيرون إلى الخرق والطيش والحماقة، وقد يعروهم الخبال والجنون، وحالهم في ذلك تشبه سفينة تسير في خضم عجاج، مغتلم الأمواج دون أن يكون بها صابورة،
71
أو ما يغني غناءها، لا غرو أن يجن جنونها خفة وطيشا ... قال حفني ناصف: وبضدها تتميز الأشياء، فلو لم يكن ثمة ألم وترح، لما طعم بنو الدنيا اللذاذة والفرح:
والحادثات وإن أصابك بؤسها
فهو الذي أنباك كيف نعيمها
على أن للأحزان أثرا صالحا محسا في صقل النفوس وجلاء صدائها، وإشباع العقول ورجحانها، وتهذيب الأخلاق واتزانها، مثلها في ذلك مثل بوتقة الصائغ وكيره، يبقيان على الذهب المحض، وينفيان الخبث والرنق،
72
وألم تر إلى الفحم متى ضغط صار ماسا، وإلى الصفر المجهود كيف يئول ذهبا زلالا بعد إذ كان نحاسا:
73
لقد هذبتك الحادثات وربما
صفا الذهب الإبريز قبلك بالسبك
على أن ثمة من الفضائل ما لا يثير دفائنه، ويظهر مضمره، وينثر كنائنه، سوى النوازل والآلام، كالنار يوريها القدح، والطيب يذيعه السحق، ومن هنا كانت هذه الآية العبقرية الحكيمة الخالدة: إن الله لا يحب الفرحين، ومثلها توأمتها كلمة السيد المسيح: طوبى للمحزونين.
حدث الأديب الثقة قال:
وهنا أمكنتني الفرصة، فما كذبت أن اهتبلتها،
74
فقلت: أما والأمر كما تقولون، والشر والخصام لا مندوحة عنهما في الخاسرة، والخير والسلام لا يكونان إلا في الآخرة، فقد تركت الخلاف السياسي بين المصريين
75
وقد بلغ أشده، وجاوز حده، فقد تفرقت كلمة القوم بعد أن نزغ الشيطان بينهم،
76
وتمشت فيهم حميا الضغائن والإحن،
77
وذهب الخلف بينهم كل مذهب، حتى كادت ريحهم تذهب،
78
فتهانف بهم الغاصب،
79
واتخذهم سخريا، وفغر فاه طماعية فيهم، ونشر أذنيه بعد أن ضرب على أيديهم،
80
والقوم ماضون على غلوائهم،
81
متدفقون في طغيانهم، وأنت تعلم أن الإحن،
82
تجر المحن، ومن ثم رفع البلد، في كبد،
83
وديس برلمانه، وسلخ منه سودانه، وعطلت المرافق، واعوجت الخلائق، والتأث
84
على القوم الأمر، وانتشر الرأي وابذعر، وبقيت الأمة في داهية إده،
85
ولقيت من هذا الأمر كل شدة، وبالحرى التوت الحال وتصعبت، بعد أن لانت وتسهلت، وبعد أن ذللت غصونها، وتدانت قطوفها، ولما
86
وكأن قد ... بفضل تلك الثورة المباركة والاتحاد المقدس، الذي تم بين رجالات مصر ...
87
أولئك الزعماء الذين حفت بهم ملائكة الخير، وطردت من ساحات صدورهم شياطين الشر، واصطلمت من أحشائهم جراثيم الشقاق،
88
فأصبحت سوحهم فراديس تغص بالملائكة، لا يصدر عنها إلا كل ما هو خير، وكل ما هو جميل:
صوت الشعوب من الزئير مجمعا
فإذا تفرق كان صوت نباح
ولما انتهيت إلى هذا الموضع، قال مصطفى كامل: هلا فصلت ما أجملت! فما كان مني إلا أن فصلت وأكملت، وشرحت أطوار المسألة المصرية، وموقف المصريين حيالها في ثماني سنوات تبتدئ من سنة 1919 وتنتهي سنة 1927 لميلاد السيد المسيح صلوات الله عليه، فدهش الجماعة أيما دهش، وأطرقوا أسفا واكتئابا يشبه اكتئاب أهل الدنيا وليس به، والوصف يقصر عنه:
لحاها الله أنباء توالت
على سمع الولي بما يشق
تكاد لروعة الأحداث فيها
تخال من الخرافة وهي صدق
وألا دريت أن من استأثر الله بهم، وانتقلوا إلى جوار ربهم، يسرون ويساءون بكل ما يعمل أهل الدنيا ممن يمت إليهم بسبب واصل؟ فإذا كان لك صديق، أو شقيق ، أو أب شفيق ، أو أم رءوم، أو ابن بار، أو مواطن تثنيه عليك عاطفة الجوار، ثم سبقوك إلى الباقية، وأنت لا تزال ترتع في الفانية، فلتعلمن أن سيرتك تؤثر فيهم، وسلوكك يرد عليهم: إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فلا تخزوا أيها الناس موتاكم، بقبح ما يأتيهم من مأتاكم ...
قال الأديب: وبعد أن سكت الجماعة شيئا، سكوت سخط، لا سكوت رضا، قال الشيخ محمد عبده: أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل حرف يلفظ من كلمة السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل في السياسة، ومن ساس ويسوس، وسائس ومسوس.
مصطفى كامل: وأعوذ بالله من الرئاسة، وحب الرئاسة، فهي أصل البلاء، في عالم الفناء:
بلاء الناس مذ كانوا
إلى أن تنهض الساعه
طلاب الأمر والنهي
وحب السمع والطاعه
محمد فريد: نعم، وكل ما تلقاه الشعوب، من الآلاقي
89
والكروب، فمأتاته
90
ذوو الرئاسة والسلطان ومن لف لفهم،
91
وبخاصة في الشرق وبالأخص في مصر، فهم - كما يرى - يغمطون الشعوب،
92
ويستهزئون بها، ولا يقدرونها حق قدرها، برغم أنهم ليسوا إلا خدامها، أقامتهم لإنفاذ مشيئتها، والقومة على مصالحها وخفارتها، فإذا هم قصروا وانحرفوا عن الجادة كانوا غير أهل لما أسند إليهم، وبالتالي استحقوا الطرد والتنكيل بهم والتمرد عليهم. على أن الشعوب قد تملي للظلمة من حكامها، وترخي لهم الطول،
93
ولكنها إذا قالت رددت قالها الأقدار، وإذا استغضبت كان غضبها الحديد والنار:
إن ملكت النفوس فابغ رضاها
فلها ثورة وفيها مضاء
يسكن الوحش للوثوب من الأس
ر فكيف الخلائق العقلاء •••
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
وعدوا مصالحها وهم أجراؤها •••
تخذتكم درعا وترسا لتدفعوا
نبال العدا عني فكنتم نصالها •••
كمتق لفح نار يستعد له
بالجهل درعين من قار وكبريت
إبراهيم المويلحي: إن الرياسة في الأعم الأغلب، تحيل طباع الناس، وإنها لمفسدة للأخلاق أي مفسدة، فبينا ترى الرجل قبل الرياسة نبيل النفس، سري الأخلاق، محمود الشمائل، عفيف الإزار، خفيفا من الأوزار،
94
مؤدما مبشرا إدام قومه،
95
قد تتسعر جوانبه حماسة وطنية، وتطير برأسه نعرة قومية،
96
إذا به بعد أن تأتيه الرئاسة وقد انقلب سوء منقلب، فنضا عنه ثوب التقى ولبس لقومه جلد النمر، وقلب لهم - كما يقولون - ظهر المجن،
97
وأجدب قلبه،
98
وصلدت أخلاقه،
99
وبلد إحساسه،
100
وبردت عواطفه، ولبس أذنيه،
101
وأخذ يعثر في سيره عثرات يدمى منها الأظل،
102
ويدحض دحضات تخرجه إلى سبيل من ضل،
103
فكأن الرئاسة «معمودية» إبليس،
104
من عمد بها فصار رئيسا، انقلب شيطانا نجيسا، وآض صلا في مسلاخ إنسان،
105
وحرباء ذا أشكال وألوان.
106
كأبي براقش كل لو
ن لونه يتخيل
107
كان عبد الملك بن مروان يسمى حمامة المسجد، للزومه المسجد الحرام، فلما أتاه الخبر بخلافته كان المصحف في حجره فوضعه، وقال: «هذا فراق بيني وبينك.» وقد قال يوما: «إني كنت أتحرج أن أطأ أنملة، والآن يكتب الحجاج إلي في قتل فئام
108
من الناس فما أحفل بذلك.» وقال له الزهري يوما: بلغني أنك شربت الطلاء،
109
فقال: إي - والله - والدماء. ومما يؤثر عنه قوله: عجبت للسلطان كيف يحسن، وإذا أساء وجد من يزكيه ويمدحه! ... وإن في ذلك لعبرة لمن اعتبر.
أحمد فتحي زغلول: ومما ابتليت به مصر على الخصوص في رؤسائها أن أكثرهم ليس بينهم وبين المصريين آصرة وطن، فجلهم دخيل ينمي إلى أصل غير مصري، فمنهم عبيثة من الأقوام ولويثة، ما يعرف لهم مضرب عسلة،
110
ومنهم من قد ضربت فيهم نساؤهم بعرق ذي أشب،
111
فإذا هم تولوا أمر مصر تداركتهم أعراق سوء، ونزت قلوبهم إلى إيذائها وكانوا حربا للمصريين
112
وعونا للغاصب عليهم. ولقد خالطت في العاجلة كل جالة من الجالات
113
في مصر على تنوعهم وتعددهم فوجدتهم جميعا، حتى المسلمين منهم، حتى أحط الطوائف - إلا من طاب غرسه، وكرمت نفسه - يحملون الحقد والاحتقار معا للمصريين، برغم أنهم يتقلبون في نعمائهم، وهذا من غريب طبائع البشر؛ إذ لست أدري لذلك سببا سوى كرم المصريين، وأن الكرام مشاغل السفهاء:
وأني شقي باللئام ولا ترى
شقيا بهم إلا كريم الشمائل
حفني ناصف: نعم، ومساكين هم الأخيار، وويل لهم من الأشرار، فالأشرار لا يعجبون إلا بالأشرار ولا يحفلون بالأخيار، بلى! وتراهم مع ذلك مولعين بهم وبإيذائهم، والأصل في هذا أن حال الأخيار الكرام أهل الوفاء والمروءة والشهامة ناصعة نيرة واضحة وضوح النهار المستطير في رونق الضحى، أما الأشرار اللئام فشأنهم الغموض واللبسة
114
والإبهام، شأن الليل ذي الظلم والدجى، والمجهول أبدا مخوف مهوب مرهوب، ومن ثم نرى الناس لا يخافون إلا من كان هذا شأنه، فضلا أنهم يكبرونه ويبقون على وده، ولا جرم أن الشر لا يدفعه إلا الشر، والحديد بالحديد يفلح،
115
والشهرة بالملاينة والخير شر من الاشتهار بالغلظة والشر؛ لأن من عرف بأخي الشر اجترأ عليه الناس، ومن عرف بأخي الخير هابه الناس وتجنبوه،
116
ورحمة الله على الفاروق إذ قيل له: فلان لا يعرف الشر ... فقال: ذاك أوقع له فيه ... أو ما هذا معناه، وبعد: فإن أكثر هذا الناس لئيم قد طبع على ضرائب من اللؤم، ومن ثم كان جديرا بالمرء يهمه الاحتفاظ بنفسه وبعرضه
117
ودينه وماله وبلاده أن يمزج كرمه باللؤم، وخيره بالشر، وعقله بالجهل، ويضع كل شيء موضعه، ويقر الأمور في نصابها، وإلا استأسد عليه الناس وتذاءبوا، وطمعوا فيه وتكالبوا:
من ظلم الناس تحاموا ظلمه
وعز عنهم جانباه واحتمى
وهم لمن لان لهم جانبه
أظلم من حيات أنباث السفا
118
قال الأديب: فقلت: ومن العجب العجاب أن الكلمة الآن هي كلمة الشعوب، فقد أصبحت حكومات العالم كلها أو جلها شورى، وصار لها مجالس نيابية بيدها الحل والعقد والهيمنة على الملوك والحاكمين، وجاء دور مصر بأخرة فأصبح لها «برلمان» لم يظفر به المصريون إلا بعد أن خضبت أيديهم بالدماء، وبذلوا في سبيله حر المال والذماء،
119
وعلى الرغم من ذلك ومن أن المصريين، وهم في الروابي من الشعوب
120
وأعرقهم في الحضارة وأسبقهم إلى المجد والسؤدد، وأرسخهم قدما في العلم والعرفان، ودينهم دين الحرية الصريحة، والمدنية الصحيحة:
قومي استولوا على الدهر فتى
ومشوا فوق رؤس الحقب
عمموا بالشمس هاماتهمو
وبنوا أبياتهم بالشهب
قد قبسنا الملك عن خير أب
وقبسنا الدين عن خير نبي
فكانوا لذلك أحق من غيرهم بالبرلمانات، وبما هو أكثر من البرلمانات، ولكن على الرغم من ذلك كله، ومن أن برلمانهم لم يترعرع بعد، ولم يشب عن الطوق، مال عليه هؤلاء الرؤساء، أو هؤلاء الأعداء، وعبثوا به عبث النكباء بالعود،
121
وتمادوا في طغيانهم يعمهون، فانعكست بذلك الآية، وأسلمتنا البداءة للنهاية، وانقلب المهيمن مهيمنا عليه، وكأن البرلمان لعبة يلعب بها لا حكم يحتكم إليه، ولا ذنب للبرلمان في هذا سوى أنه أوشك أن يقوم بمهمته خير قيام، وأن يحاسب الحساب العسير هؤلاء الحكام:
إذا محاسني اللائي أدل بها
كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر؟
إبراهيم المويلحي: إذن لا بد من أن الغاصب يعضد هؤلاء الرؤساء، ويحوطهم ويغريهم بهذه الأمة السيئة الحظ:
وكيف يخشى صولة الذئب من
قد جعل السبع له عدة
محمد فريد: بيد أن هؤلاء الرؤساء لو كانوا من الطراز الأول ذوي الشرف والنبل والإباء، والعزة القعساء،
122
والعيص الأشب، والفعال الموروث والمكتسب،
123
لا تلين قناتهم لغامز،
124
ولا تتهضم نفوسهم لظالم،
125
ولا تتعاظمهم جبورة محتل،
126
أو كانوا على الأقل ممن يكرمون أنفسهم ويتجافون بها عن مواطن الهوان، أو كانوا مخلصين لهذه الأمة آبهين لها، لما بالوا - وربك - بالغاصب، ولمضوا قدما فيما فيه صلاح بلادهم مهما لاقوا في هذا السبيل، ولو أن كل رئيس كان هكذا لرجع الغاصب أدراجه، وتأخر أخرا في سبيل طماعيته، ولكن أكثر الرؤساء في مصر - إلا من هدى ربك - سواسية كأسنان الحمار، أو كحماري العبادي، وقد قيل له: أي حماريك شر؟ فقال: هذا ثم هذا:
127
خلق إذا حدثت عن أخلاقها
فكأنما كشفت عن سوآتها
متراهنين على الدنية أحرزوا
غاياتها وتناهبوا حلباتها
ورثت نفوسهم خبائث أصلها
لؤما وزادت دقة من ذاتها
وملثمين على النفاق بأوجه
صم يصيح اللؤم في جنباتها
ومن هنا كان طمع الغاصب في هذه الأمة، وتهالكه عليها. •••
قال الأديب: وهنا قال الشيخ محمد عبده: وثمة شيء آخر يكشف لك سرا من أسرار فشل هذه الأمة وذهاب ريحها؛ إذ تنزو إلى الخلاف والنزاع والشقاق، ذلك أن جمهرة الشرقيين وخصيصى المسلمين منهم، حديدو العواطف مشبوبو المشاعر، فإذا ما أحبوا أغرقوا في الحب حتى يبلغوا النهاية، وإذا ما أبغضوا أوفوا في البغض على الغاية، لا يلوذون في تصاريفهم إلى ركن من الحجا ركين، ولا يعتصمون لدى الحفيظة بعاصم من الخلق والدين، ليسوا إذا عد الدهاة في العير ولا في النفير،
128
فكأن حلومهم نفخت فيها الأعاصير، يعوزهم ضبط النفس إذا صرح الشر، وترك الهوى إذا أمكن الأمر، بينما الأغيار وخصيه الشعوب الآرية، ولا سيما القادة وذوو الرئاسة وأولو الأمر منهم والمتصدون لسياسة الأمم، يحكمون عقولهم على قلوبهم، ويؤثرون مرافقهم على أهوائهم، ذوو رأي وتدبير وبصر بأعقاب الأمور، وأناة لا يطير الجهل في جنباتها، ولا ينزل الطيش بساحة من ساحاتها، وبذا بذوا الشرقيين، وأضحى هؤلاء لهم مسودين، ولو شاء الشرقيون أن يداركوا أمورهم، لداووا بكل الأشافي ألبابهم:
لولا العقول لكان أدنى ضيغم
أدنى إلى شرف من الإنسان •••
وإذا الرياسة لم تعن بسياسة
عقلية خطئ الصواب السائس
ثم قال الشيخ محمد عبده: وهذا على الرغم من أن الإسلام الذي يدينون به، ويزعمون أنهم مستمسكون بأدبه، كثيرا ما نهى عن اتباع الهوى، وحض على الاستمساك بالعقل والنهى، فقد اكتظ كتاب الله وأحاديث المصطفى - صلوات الله عليه - وما أثر عن السلف الصالح، من التنويه بالعقل والإشادة بذكره، والحض على اللجوء إليه، والاعتماد في سائر الأمور عليه، والكياسة، وحسن السياسة، والاعتصام بالتقوى، بما لا يعد ولا يحصى، وحسبهم قول الله جل شأنه:
ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ، والهوى كل ما تهواه النفس وتصبو إليه مما لا يتفق والعقل والنهى ... وقال - ولله المثل الأعلى - يعير قوما ويشنع عليهم ويسفههم ويصغي إناءهم:
129
إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس
ويقول سبحانه في مواضع من كتابه الكريم:
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم
وقال:
لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ،
ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ،
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين . إلى كثير من هذه الآيات الكريمة التي يزخر بها كتاب الله ... وكان المصطفى - صلوات الله عليه - إذا بلغه عن إنسان عبادة قال: كيف عقله؟ فإن قالوا عاقل، قال: ما أخلقه أن يبلغ، وإن قالوا: ليس بعاقل قال: ما أخلقه أن لا يبلغ. وقال: من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه كان حتفه في أغلب خصال الخير عليه ... وقال: اعص هواك والنساء وأطع من شئت. وقال عليه السلام: ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجالس يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا،
130
الذين يألفون ويؤلفون، ألا أخبركم بأبغضكم إلي وأبعدكم مني مجالس يوم القيامة: الثرثارون المتفيهقون ... وقال في معنى القصد في الأمر، وأن لا يغلو المرء في الحب والبغض: أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما.
ولم لا يقول هذا والكثير الكثير من أمثاله من أدبه ربه فأحسن تأديبه؟ ويقول له وهو أصدق القائلين:
وإنك لعلى خلق عظيم .
ولو أن المسلمين تدارسوا سيرة الرسول ووقفوا على شمائله الكريمة وأخذوا إخذه، وحذوا حذوه، واهتدوا بهدايته، وفطنوا إلى مرامي سياسته، لكان منهم أكبر ساسة، ولسادوا العالم وناسه، كما كان من خريجيه وتلاميذه الصديق والفاروق وذي النورين وأبي تراب، وابن أبي سفيان
131
وسائر صحابته، وتابعيهم من المستنين بسنته، أولئك الذين أنعم الله عليهم، ونشئوا في حضانة صفيه وخيرته من خلقه، رضوان الله عليهم أجمعين. •••
قال الأديب الثقة: ولقد أنبهتك غير مرة إلى أن لغة أهل الجنة، غير لغة دار المحنة، ومن ثم كان كل ما أعزوه في هذا الحديث من القول إلى قائليه من أهل دار السلام أشبه بالمنقول من لغة إلى لغة، ولكن لا كالحسناء وخيالها في المرآة، لا، ولا من قبيل المترجم من لغة إلى لغة تضارعها أو تقاربها رفعة وسناء، أو أن المترجم يداني القائل الأصلي بلاغة وأداء، ولكن إذا كان لا بد من التشبيه فأشبه شيء بذلك - وللجنة ومن فيها المثل الأعلى - أن تعمد إلى رجل من العامة صلد الذهن، أغلف القلب، ران عليه الغباء
132
فتسمعه إحدى أوابد شوقي
133
وتقفه على مراميها، ثم تستعيده ما سمع وانظر ما أنت سامع ... ولقد أذكرني هذا التشبيه ما كان بين المعتمد بن عباد، أحد ملوك الطوائف بالأندلس، وبين يوسف بن تاشفين البربري ملك مراكش، وذلك أن ابن عباد أرسل إلى ابن تاشفين رسالة تمثل فيها ببيتي ابن زيدون:
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا
شوقا إليكم ولا جفت مآقينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت
سودا وكانت بكم بيضا ليالينا
فلما قرئ عليه هذان البيتان قال للقارئ: يطلب منا جواري سودا وبيضا! قال القارئ: لا يا مولاي، ما أراد إلا أن ليله كان بقرب أمير المسلمين نهارا؛ لأن ليالي السرور بيض، فعاد نهاره ببعده ليلا؛ لأن ليالي الحزن ليال سودة ... فقال: والله جيد، اكتب له في جوابه: إن دموعنا تجري عليه ورءوسنا توجعنا من بعده ... وكذلك شأني في وصف الجنة وكلام أهليها، بعد هبوطي إلى الدنيا وتمرغي فيها، وما حيلتي وقد كانت مرآة ذهني وأنا في الجنة، أسمع كلام أولئك الجلة، كأنها الوذيلة المستوية صفاء وصدقا وبلاغا،
134
فلما غادرتها وظننت أني سأقص لذلك عليك أحسن القصص، وأروي لك ما سمعت كما هو دون أن أخرم منه حرفا، أو أن أحيف عليه حيفا،
135
رأيت هذه المرآة وقد آضت مقعرة حدباء، فأنى لك بعد هذا إلا أن تسمع هذه الأحاديث محرفة شوهاء، ولا غرو فليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء، أما المسميات فبينها من التفاوت ما بين الأرض والسماء! بيد أنه - كما قلنا - إن لم يكن صداء
136
فماء، وإن لم يكن خمر فخل، وإن لم يصبها وابل فطل، ومن لم يجد ماء تيمما، فتفطن دائما لذلك ولا تخله قط من بالك.
هوامش
مأدبة جامعة في قصر الشيخ محمد عبده بالجنة
حدث الأديب الثقة قال:
وتعلم - علمت الخير - أن أهل الجنة يتزاورون ويدعو بعضهم بعضا، كأهل العاجلة؛ توفيرا لأنسهم، وتتميما لمسراتهم، قال جل وعز:
وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون * قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين * فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم * إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم ،
فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون * قال قائل منهم إني كان لي قرين * يقول أئنك لمن المصدقين * أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون * قال هل أنتم مطلعون * فاطلع فرآه في سواء الجحيم * قال تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين .
قال الأديب: فلما انتهينا إلى هذا الموضع من الحديث، وقبل أن ننتقل إلى موضوع آخر مما رغب الإخوان أن يستطلعوا طلعه، ويقفوا عليه شئون مصر والمصريين، طلع علينا في الخيمة سرب من الحور العين، بجانبه فوج من الولدان المخلدين، وأخذوا يدعوننا واحدا واحدا إلى مأدبة كبرى أمر بصنعها الشيخ محمد عبده، وأدب إليها كثيرا من أعيان الإسلام، وأئمته الأعلام، من فقهاء ووعاظ وعلماء، وفلاسفة وأدباء، وكتاب وشعراء، ولغويين وأطباء، ومغنين وملوك ومن إليهم، فملت إلى الشيخ حمزة فتح الله وقلت له: هل هذه الدعوة دعوة الجفلى أو دعوة النقرى؟
1
فقال: إن هذه الدعوة وإن كانت دعوة النقرى، إلا أنها من قبيل غير القبيل الذي يبرأ منه طرفة بن العبد وينزه نفسه وقومه عنه، إذ يقول:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى
لا ترى الآدب فينا ينتقر
2
إذ إن للشيخ محمد عبده غرضا ساميا نبيلا يترامى إليه بهذه الدعوة ستعلم نبأه بعد حين.
قال الأديب: أما أنا فما كاد نبأ المأدبة يصافح أذني حتى كدت أذوب فرحا، وأطير مرحا، وأخذت أهرول أنا وإمام العبد، وانطلقت كالمهر الأرن في ميعة حضره،
3
ولم لا يطير بنا الفرح، ولم لا يستخفنا الطرب، وهناك مأدبة فاخرة، وأفواه فاغرة، وجماعة من صفوة هذه الأمة الطاهرة؟ آه يا أخي آهة الرجل الحزين، إن نفسي تساقط حسرات على أثر ما قد فاتها من نعيم الفردوس، وعندي أنه لو لم يكن للآجلة على العاجلة من مزية سوى أن أهليها لا يضيرهم الطعام والشراب، فلا يصيبهم بشم وتخمة، وكظة وبردة، وغصص وشرق، ونزيف وصداع، وأذى وخمار ،
4
مهما طعموا وشربوا، لرجحت الأولى بالثانية، وشالت في الميزان كفة الفانية:
5
ولكن تأبت الأقدار لحكمة بالغة إلا أن يشاب كل شيء في دار البلاء، بما يكدر صفوه، ويخبث عفوه،
6
حتى الطعام والشراب:
طبعت على كدر وأنت تريدها
صفوا من الأقذاء والأقذار
ومكلف الأيام ضد طباعها
متطلب في الماء جذوة نار
وإلا فهل هناك لذة تعدل لذة الشراب والطعام، ولا سيما لصحاح الأجسام، وإنها للذة على هذا متجددة تعاد في اليوم الواحد مرات، وتتكرر وجبات،
7
وهي على تكرارها لا تمل، وعلى تردادها تحلو ولا تمر:
كريقة المرء لا تنفك في فمه
وما يمل لها طعما لإبان
8
من عذيري أيها الناس
9
من لحوم الطير وسائر الحيوان البري منه والبحري، والإنسي والوحشي، ومن لي بالفواكه على وفرة صنوفها، والخضر على تنوع أنواعها وضروبها، وما أحيلى الحلواء والفطائر، وسائر ألوان هذه الأشباه والنظائر، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله، قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ...
وألم يغر ربك آدم بالخلود في الجنة بأن قال له:
إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى .
10
فبدأ باشتراط الشبع. ولله عبد الله بن عباس إذ يقول: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأك إسراف ومخيلة،
11
وإذا كان هناك - عمرك الله
12
ووقاك - من هو جدير بالرحمة والرثاء، فليس أحق بذلك من الممعود، والممنو بأدواء البطون،
13
وإنه ليعجبني الرجل قد أوتي حمة القرم وبالغ اللقم،
14
فتراه يحط في الطعام
15
ويعصف فيه عصف الريح، حتى لكأنه تمساح من التماسيح، ويضرب فيه كما يضرب الولي السوء في مال اليتيم، ويتملأ منه حتى ينطفئ نهمه، وتنتأ رمانته،
16
لا ذلك المتنوق المترف الأزوم
17
الذي أخذه الإباء فتراه يخط في الطعام خطا
18 ... وإذا جاز لي أن أحسد أحدا على ما أتاه الله من فضله فلست أحسد إلا ذلك النهم الحطمة المبطان
19
الذي أوتي معدة شيطانها رجيم، على شريطة أن تسعده الحال، ولا يؤذيه الأكال:
20
لو أكلت فيلين لم تخش البشم
ومن لي بذلك النبوغ الكرشي، وتلك العبقرية المعوية التي أوتيها معاوية والحجاج وسليمان بن عبد الملك،
21
وعبيد الله بن زياد ومن على شاكلتهم من نوابغ الآكلين، لقد أوتوا من دواعي اللذة الحظ العظيم! وهل هناك - أنار الله بصيرتك - أسخف من جماعة النباتيين، وإن لي مع شيخهم شيخ المعرة لحديثا سيمر بك بعد حين، وكيف لا يعذر المعتر
22
المحروم إذا تهالك على لذيذ المطعوم، وما أظرف ذلك الأعرابي الذي لا عهد له إلا بالشيح والقيصوم،
23
ولسان حاله يقول:
الأبيضان أبردا عظامي
الماء والفت بلا إدام
وقد حضر طعام أحد الأمراء وأكل معه، فلما أحضر الفالوذج
24
قال له الأمير: إن أكلت هذا حززت رأسك، فأطرق مليا، ثم مد يده إليه وقال: أوصيك أيهذا الأمير بصبيتي خيرا ... ومثله الأعرابي الذي آكل يوما معاوية، فأخذ شيئا من بين يديه، فقال له معاوية: لقد انتجعت، فقال الأعرابي: من أجدب انتجع!
25
ثم أحضر جدي حنيذ،
26
فأخذ الأعرابي يمزقه ويمعن في أكله، فقال معاوية: يا هذا، أتطالب هذا البائس بذحل
27
هل نطحتك أمه؟ قال: وأبيك إنك لشفيق عليه! هل أرضعتك أمه! وكان لزياد بن عبد الله الحارثي جدي لا يمسه أحد، فعشى في شهر رمضان قوما منهم أشعب، فعرض أشعب يوما للجدي من بين القوم، فقال زياد حين رفعت المائدة: أما لأهل السجن إمام يصلي بهم؟ قالوا: لا، قال: فليصل بهم أشعب، فقال أشعب: أوغير ذلك أيها الأمير؟ قال: وما هو؟ قال: لا آكل لحم جدي أبدا ... وهل يعيب التطفيل وينتقص المتطفلين إلا كل أحمق مأفون ... إن التطفيل ثورة معوية حارة تلظى على المترفين ... ولكنها ثورة سلمية سائغة مقبولة متواضعة، كل سلاحها وجه وقاح وشيء من إراقة ماء الوجه ... على أنه لا يدعو هذا السلاح «إراقة ماء وجه» إلا أنا وأنت، أما رجال الفن ... أما من تدعوهم متطفلين، فلا يغدو ذلك في رأيهم أن يكون «تقاضي حق» من أناس قد أمعنوا في ترفهم، ولم يرضخوا للمحزومين بلماظة من حقوقهم:
28
يبيتون في المشتى ملاء بطونهم
وجاراتهم سغب يبتن خمائصا
29
ولحا الله أبا عمرة،
30
ولا أبعد غيره، إنه شر ما يمنى به المرء في دنياه، وما أفظع الإنسان إذا نقنقت ضفادع بطنه، وعض الصفر على شراسيفه بنابه وسنه.
31
أطعموا الجائعين أيها الناس، واتقوا صولة الإنسان إذا نال منه سعار الجوع، وإلا ثار ثائره عاصفا بكم بعد طول هجوع ...
هوامش
Shafi da ba'a sani ba