Fiqh Principles: Authenticity and Guidance
القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه
Nau'ikan
القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - المدخل إلى القواعد الفقهية
الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، وليس ذلك لورود نص في كل مسألة، وإنما لوجود قواعد كلية مستنبطة من الأدلة الشرعية، تدخل تحتها من الجزئيات ما لا حصر لها، وعليه يتعين على من رام الفقه أن يشمر عن ساعد الجد لضبط ودراسة هذه القواعد الفقهية؛ لأن معرفتها ستغنيه عن البحث عن كثير من الأحكام التي لم يعلمها من قبل، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
1 / 1
فضل العلم والعلماء
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخوتي الكرام! إنا نحبكم في الله، وأسأل الله جل في علاه أن يجمعنا جميعًا مع النبي ﷺ في الفردوس الأعلى، بجانب معاذ بن جبل الذي قال فيه النبي ﷺ: (أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام هو معاذ بن جبل).
وأذكر ثلاث مبشرات لطالب العلم: أولها: ما ورد في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: (ما اجتمع قوم في مجلس يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة) فهذه أولى المبشرات.
ثانيها: إن طالب العلم ينطلق من مجلس العلم إلى الجنان إن كان مخلصًا، كما قال النبي ﷺ -في السنن بسند صحيح كالشمس-: (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة، وإن العالم ليستغفر له كل من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر والنملة في جحرها تستغفر لطالب العلم، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع).
ثالثها: كفاك فخرًا بأنك ستجتمع على خط واحد مع معاذ بن جبل إمام العلماء، وتكون وريثًا للنبي ﷺ، يا للشرف! أنت أصبحت من النبي ﷺ بمكان، ليست هناك منزلة يمكن أن تداني هذه المنزلة.
يقول النبي ﷺ: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم).
وأيضًا يقول رسول الله ﷺ: (العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) وأقول: طالب العلم هو أغلى ما يكون في هذه الدنيا، الأمة بأسرها لا تحتاج إلا لطلبة علم؛ لأن شمس البدعة قد بزغت، وجبال العلم قد ماتوا، نحن في يتم الآن، الدنيا بأسرها تتخبط يمنة ويسرة لموت ثلاثة كانوا جبالًا لأهل العلم، كانوا منارات كالنجوم يهتدى بهم، فلما قضوا نحبهم ترى الدنيا تتخبط، وكل يتصدر للفتوى، والله أعلم هل هو أهل لها أم لا؟! الحاصل: أن الدنيا بأسرها تتخبط لضياع أهل العلم، ونحن نقول ما قاله علي بن أبي طالب: (موت العالم يحدث ثلمة في الإسلام، وهذه الثلمة لا تنسد إلا بوجود الخلف)، ولذلك علمنا النبي ﷺ عند موت أي أحد أن نقول: (اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرًا منها)، وأحرى بنا أن نقول ذلك عند عند فقد العلماء، فنحن بحاجة إلى من يرفعون منارات العلم ويحفظون هذا الدين، كما قال ابن القيم مستقيًا كلامه من حديث النبي ﷺ: (لا يزال الله جل في علاه يغرس لهذا الدين غرسًا).
فقال ﵀: والله ما أرى الغرس إلا أهل العلم، ولذلك أول بعض العلماء حديث: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين) كقول أحمد وغيره: لا أعرفهم إلا أن يكونوا أهل الحديث.
وقال ابن القيم: هم أهل العلم، وكفى أهل العلم فخرًا بأن الله جل وعلا جعلهم من أولي الأمر.
قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء:٨٣]، فهذه الآية تدل على أن العلماء هم من أولي الأمر، فكما أن عليك السمع والطاعة لأولي الأمر من الحكام والأمراء فأيضًا لابد من السمع والطاعة للعلماء، وهذه الآية تدل على ذلك.
فطالب العلم ينظر في الدليل فيأتي أولًا بالشاهد، ثم يرى وجه الدلالة من هذا الشاهد، حتى يرى في نفسه قوة وهو يتكلم عن مسألة علمية، ووجه الشاهد في الآية السابقة قوله تعالى: «وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ» فمن هم أولو الأمر؟ جاء الرد من الله جل في علاه مفسرًا ومبينًا في قوله: «لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» أي: أولو الأمر: الذين يستنبطون الأحكام من الأدلة التفصيلية، وهم العلماء المجتهدون.
فهذا شرف ليس بعده شرف، فالعلماء هم من أولي الأمر، والله جل في علاه جعل لهم الصدارة في الدنيا؛ لأنهم الذين يوصلون الناس إلى ربهم، ورحم الله ابن عيينة حين قال: خير الناس الواسطة بين رب الناس وبين الناس.
وعن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله ﷺ: (من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين) متفق عليه، هذا منطوقه ومفهومه: أن الله جل وعلا إن لم يرد بعبد خيرًا فلن يفقه في الدين، نعوذ بالله من الخذلان.
حتى نتعرف على أهمية طلب العلم، وكفاك أخي شرفًا وفخرًا بحديث النبي ﷺ حيث يقول: (فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي) أي شرف وأي منزلة بعد هذا! ورب السماوات والأرض لمداد العلماء أفضل من دماء الشهداء، وهذا باتفاق العلماء المحدثين والفقهاء، فالعالم له منزلة ليست كأي منزلة، وكما بينا في الحديث الذي سبق أن النبي ﷺ قال: (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب)، وشتان شتان بين القمر وبين سائر الكواكب.
أقول: فطلب العلم هو أفضل عبادة يمكن أن يتقرب بها العبد لله جل في علاه، وعلماؤنا كانوا يرون المدارسة خير من قيام الليل، فهذا ابن أبي حاتم يروي -في الجرح والتعديل- عن أبيه أنه كان يقول: مدارسة مسألة من العلم خير من قيام ليلة بأسرها.
ولذلك كان يأتيه أبو زرعة فيتدارس معه المسائل ويقول: هذا عندي أشهى من كذا وكذا، فكانوا يرون المدارسة أفضل عبادة يتقرب بها العبد إلى الله جل في علاه.
1 / 2
مكانة الإمام الشافعي
هذه قصة وإن كان في سندها كلام: جاء الشافعي إلى أحمد ليلًا فقدم له أحمد الطعام فأكل كثيرًا، ثم جلس طيلة الليل ما صلى ركعة واحدة حتى أوتر، ثم قام فصلى الفجر بنفس وضوء العشاء فجاءت بنت الإمام أحمد تقول لأبيها مستنكرة ما رأته من الشافعي الذي كان يقول أبوها فيه: إنه للناس كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن، وكان الإمام أحمد بداية يقول لأهل الكوفة والعراق: لا تسمعوا للشافعي، أي كان أحمد ينهى عن سماع الشافعي؛ لأن أحمد كان من المحدثين ورأى أن الشافعي رحل من مكة إلى العراق وسمع من أهل الرأي؛ لكن الشافعي جمع بين الحديث وبين الفقه، فكان أحمد يحسب أن الشافعي لما كان يعامل أهل الرأي أنه من أهل الرأي الذي يقدمون القياس على الأثر، فلما جالس أحمد الشافعي علم أنه بحر، فالذين كانوا يتتلمذون على أحمد ينظرون لـ أحمد وهو يمشي خلف بغلة الشافعي، فقالوا له منكرين: يا أحمد! تنهانا عن سماع الشافعي ونراك خلف بغلته، فقال أحمد: والله لو ما تكلم الشافعي وسرت خلف البغلة لا ستزدت علمًا من هذا البحر أو هذا الحبر.
ولذلك لا غرو ولا عجب أنه لما أتى إسحاق بن راهويه فقيه خراسان -وهو من المحدثين الأفذاذ ومن شيوخ البخاري - إلى مكة ولقيه الإمام أحمد فذهب به إلى مجلس الشافعي فقال: تعال سأريك رجلًا لم تر عينك مثله، يعني: الشافعي؛ وذلك لقوة حافظة الشافعي وعلمه الذي جمع فيه بين الفقه والحديث؛ لأن الانفراد بالفقه يضعف صاحبه في الحديث، فتراه يحتج كثيرًا بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، قد تراه في كتاب مغني المحتاج للشربيني، وهذا هو الذي أضعف كثيرًا من الفقهاء، ومن انشغل بالحديث دون الفقه صار فيه ضعف في فتواه، فالجمع بين العلمين فيه قوة، ولذلك قال أحمد لـ إسحاق: ائت لتسمع هذا الشيخ، فنظر إليه فوجده شابًا يافعًا، فقال: أأترك ابن عيينة وأذهب إلى هذا الحدث؟! وهذه كانت ملامة على إسحاق، وقد تندم عليها وعض عليها أنامله، ولا حين مندم، فقد ضاع منه علم الشافعي.
أنا أقولها الآن وأصرخ بها في آذان الإخوة: اعرفوا كيف تتعلمون وتطلبون العلم؛ لأن هذه هي البغية وهذا هو الهدف وأنت لن ترتقي إلا أن تكون طالبًا للعلم حقيقة، أما إذا كنت من العوام أو شبيهًا بالطالب فلن تفيد ولن تستفيد.
لا تحسبن المجد تمرًا أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر بعض الإخوة عندهم ضيق في النظر لا يعرفون أن يميزوا بين العلم وغيره، والآن الصيت أو السمعة هي التي تأتي بالناس في هذا الزمن الذي نعيش فيه، وقد بين أنس ﵁ حال الأزمنة المتأخرة بقوله: (أن ما من زمن إلا وبعده أشر منه) إننا في ضياع وفي تيه وفي تخبط؛ لأن العلم الآن يقبض بقبض العلماء.
فلابد أن نعلم أن النجاة لا تكون إلا في العلم الصحيح، الذي يوصلك بحق إلى الله جل في علاه، ولذلك فالعبرة من هذه القصة أن إسحاق تندم كل الندم في كونه لم يصاحب الشافعي وقال: أأجلس لهذا الحدث وأترك ابن عيينة؟ فقال له أحمد ناصحًا إياه إن فاتك الحديث من ابن عيينة بعلو خذه بنزول، وإن فاتك العلم من الشافعي لا تجده عند غيره.
هذه نصيحة غالية تكتب بماء الذهب على السطور.
إذًا: لا بد من محدثين فقهاء أصوليين، هذه الآلات يجب أن تشتبك لتستقبل الأمة فقيهًا محدثًا تنجو به.
وهذا يحيى بن معين جبل وجهبذ من جهابذة الإسلام، قالوا له وهو في مرض موته ما تريد؟ قال: بيت خال وإسناد عال، الإسناد العالي هو الذي يكون بينك وبين النبي ﷺ اثنان أو ثلاثة أو أربعة بالكثير، وهذه فاز بها كثير من علمائنا، وكانوا يرحلون من أجل هذا العلو.
والنزول معناه كثرة العدد، كأن يكون بينك وبين النبي ﷺ خمسة فأكثر، لكن فهم المتن وفقهه أولى من الإسناد العالي، فـ إسحاق بن راهويه لما ناظر الشافعي وعرف علمه، خرج من مكة ثم بعد ذلك انكب على كتب الشافعي، فتندم كل الندم أنه لم يصاحب الشافعي ليأخذ منه هذا العلم كما أخذ أحمد بن حنبل.
فالغرض المقصود أنهم كانوا يرحلون ويجتهدون في مدارسة العلم، وقال أحمد ﵀: أفضل عبادة يتقرب بها العبد لربه جل في علاه هو طلب العلم.
الأمة بأسرها تستبشر ببزوغ شموس العلماء والفقهاء المحدثين الذين ينقذون هذه الأمة، وما من أحد ينبغي له أن يبخس حقه أو ينزل قدره، بل يطمع في كرم الله جل في علاه، ما دامت المسألة ليست بيد أحد ولا يملكها أحد، بل المسألة من فوق العرش، فكن يأخي صاحب همة عالية، كن ذكيًا في التعامل مع من فوق العرش، إن ربك يحب منك الطمع! أنت تطمع في فضله، والله يقول: (أنا عند ظن عبدي بي)، اطمع أن تكون كشيخ الإسلام ابن تيمية، أو كـ العز بن عبد السلام أو كـ الجويني أو كـ الشافعي، فكل ذلك ممكن ومتاح، وهو تحت قدرة من؟ تحت قدرة الله جل في علاه، والله جل في علاه يقول: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ﴾ [النحل:٥٣]، ويقول: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ﴾ [النحل:٧٨].
فهذه كانت مقدمة أبين بها شرف العلم وشرف العلماء وطلبة العلم، وأن طالب العلم إذا علم قدر هذا الطريق صبر عليه وصابر من أجله حتى يسير على الدرب، ومن سار على الدرب وصل.
نحن درسنا بفضل الله ﷾ المصطلح، ودرسنا أصول الفقه، ودرسنا أثر الاختلاف في القواعد الأصولية، ثم بعد ذلك نبين القواعد الفقهية، وأيضًا نأخذ أقسام التدليس، وهذه الدروس خاصة بالرجال، وإن كانت هناك دروس خاصة بالنساء وكثير من الإخوة يحتاجونها، ونسأل الله جل في علاه أن يوفقنا وإياكم في طريق طلب العلم.
1 / 3
أهمية الفقيه المحدث
نفتتح بإذن الله دروس اليوم في القواعد الفقهية، قال رسول الله ﷺ: (من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين)، وقال شيخ الإسلام: إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده وفقه أو فهم متنه.
أقول: وفهم المتن رأس الأمر، وما عاب كثير من الفقهاء على المحدثين مثل ما عابوا عليهم عدم الانشغال بفقه المتن، فالإمام أحمد بن حنبل كان محدثًا بارعًا وكان فقيهًا، لكن ابن جرير الطبري شيخ المفسرين له كتاب حافل في التاريخ اسمه (تاريخ الأمم والملوك) فـ ابن جرير لما ترجم للإمام أحمد قال: وكان محدثًا.
وسكت ولم يكتب فقيهًا في الترجمة، فجاء الحنابلة فرموه بالحجارة حتى كادوا يقتلونه، حتى إنه انسد الباب من الحجارة التي رميت عليه وضرب بها، فلما مات عموا قبره على الناس، لكن كان رجلًا منصفًا، لما سألوه: ما تقول في أحمد؟ قال: أحمد إمام أهل السنة والجماعة، وقيل لـ يحيى بن معين: أتعرف أحمد بن حنبل؟ قال: أوتسألوني أنا عن أحمد؟! أحمد إمام الدنيا بأسرها، فـ أحمد مشهور وغني، فـ ابن جرير لما ترجم لـ أحمد في حيز المحدثين لا في حيز الفقهاء فسألوه عن ذلك فقال: لم أر له رأيًا فقهيًا، وهذا الذي أخذ على كثير من المحدثين، ولذلك يحيى بن معين وكان يتدارس مع بعض المحدثين بعض الأسانيد، فجاءت امرأة فقالت: أسألكم، فقالوا: سلي، فقالت: إني امرأة حائض وقد توفي زوجي، وقد وصى بأن أغسله، أيجوز لي ذلك؟ فتحيروا ولم يحيروا جوابًا؛ لأنهم انشغلوا بالحديث وتركوا الفقه، فلم يجب يحيى ولا من معه، فمر أبو ثور الكلبي، وكان من أصحاب الرأي ثم تفقه على مذهب الشافعية، فمر عليهم فقالوا: سلي هذا الرجل، فقال أبو ثور: نعم، أرى أنك تغسلينه؛ فقد كانت عائشة ترجل شعر النبي ﷺ وهو معتكف وهي حائض، فهنا أبو ثور استنبطها بالقياس، وهذا القياس يسمى قياس جلي أو قياس الأولى، يعني: هو رأى أن الحي لا يحتاج إلى ذلك، ومع ذلك ترجله عائشة فالميت أولى؛ لأنه لا يستطيع أن يفعل ذلك لنفسه.
فلما قاس هذا القياس الجلي نظر يحيى بن معين فقال: هذا الحديث جاءني من طريق فلان وفلان وفلان وفلان وعدد مائة وخمسين طريقًا، فالمرأة اندهشت وقالت: أين أنت لما تعدد لي الآن الطرق؟! وهذه من المآخذ التي أخذها الفقهاء على المحدثين، ولذلك كان يقول ابن رجب الناس مراتب، وأعلى هذه المراتب فقهاء المحدثين، فلذلك سندخل بإذن الله على علم الحديث مع علم الفقه.
أقول: علم الفقه هو أفضل العلوم، كما قال ابن الجوزي: العلم كثير والعمر قصير فأحرى بالإنسان أن يتعلم ما ينتفع به في حياته، يعلم ما يحل وما يحرم، وما يتقرب به إلى الله وما لا يتقرب به إليه، وهذا لا يكون إلا في الفقه، وهذا الفقه - الذي هو الفهم - طبقات وأعلى طبقات العلماء العالم الفقيه، وهذه كانت موجودة في الشيخ ابن عثيمين رحمة الله عليه، ونسأل الله أن يجعله مع النبي ﷺ فقد كان رجلًا صاحب نظرة قوية في الفقه، وهو على فراش الموت سئل: من تزكي من العلماء، قال: لكن أين العالم الفقيه؟ العالم الفقيه: هو الذي يرتكز على قاعدة قوية من الفقه والاستنباط، بحيث يستطيع أن يبني عليها الفروع، كلما أتاه فرع نقله أو رده إلى الأصل فجاءته النتيجة، وهذه أيضًا مستخلصة من كلام الفقيه الطبيب ابن رشد الحفيد في كتابه (بداية المجتهد)، وهو يقول: بائع الخفاف ليس كصانع الخفاف؛ صانع الخفاف هو المجتهد، أما بائعها: فهو الناقل وهو المقلد، وما أكثر النقلة الذين ينقلون، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: سهل أن تبين الحلال والحرام، وصعب جدًا أن كل إنسان يعرف تحرير محل النزاع، ويعرف كيف يرجح ثم يرد على المخالف، هذا هو العلم، أي: العلم بخير الخيرين وشر الشرين، فلذلك قال: العالم الفقيه: هو الذي يرتكز على القواعد والأصول التي ترتقي به ليكون عالمًا فقيهًا، ومن هذه الأصول: أصول الفقه، وأيضًا: القواعد الأصولية.
1 / 4
تعريف القاعدة الفقهية لغةً واصطلاحًا
سنأخذ اليوم الجانب الثالث الذي يقوي الفقيه حتى نستبشر بخروج الفقهاء ألا وهو القواعد الفقهية، فسنبين ما معنى القاعدة الفقهية لغة واصطلاحًا، ثم الفرق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية، ثم بعد ذلك الفرق بين القاعدة وبين الضابط.
فأقول: دائمًا يتقوى المرء في هذه القواعد، فما من فقيه تراه يستدل إلا ويقول: والقاعدة عند العلماء: اليقين لا يزال بالشك، القاعدة عند العلماء: الضرورات تبيح المحظورات، ما من مفت يستطيع أن يفتي إلا ومعه هذه الآلة، فما هي القاعدة في اللغة: هي الأساس التي يبنى عليها غيرها، يعني: هي التي يبني عليها الفقيه الفروع، فالقاعدة في اللغة هي: الأساس أو الأصل أو هي أساطين أو أعمدة البناء، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ [البقرة:١٢٧].
أما في الاصطلاح فإن لها تعاريف كثيرة، لكن أجمع هذه التعاريف تعريفان: التعريف الأول الذي وصل إليه الجرجاني حيث قال: هي قضية كلية تنطبق على جميع جزئياتها.
مثال على ذلك كما قال علماؤنا: اليقين لا يزال بالشك، فهذه قضية كلية تنطبق على جميع الجزئيات.
وعندنا في الفقه عدة أبواب، فالفقهاء قسموا أبوب العلم إلى عبادات ومعاملات وحدود، فما من كتاب من كتب الفقه إلا ويبدأ بالعبادات فيبدأ بالطهارة ثم الصلاة ثم الزكاة، إلا في الموطأ فهو يرى غير هذا الترتيب، فقد بدأ بكتاب أوقات الصلوات ثم الطهارة ثم الصلاة ثم الزكاة.
إذًا: القاعدة الفقهية هي قضية كلية تنطبق على كل الجزئيات، فالقاعدة الفقهية تدخل في العبادات وتدخل في المعاملات في العقود، وتدخل في الحدود.
فقاعدة: اليقين لا يزال بالشك، تدخل في الطهارة، مثال ذلك: رجل توضأ لصلاة الظهر، ثم ذهب إلى المسجد فصلى الظهر ثم خرج، فهذا حكمه في الوضوء أنه على يقين من الطهارة، ثم ذهب إلى أعماله فسمع المؤذن ينادي لصلاة العصر وذهب مسرعًا إلى المسجد، فبعدما أن صلى تحية المسجد، جلس وقرأ القرآن، أقام المؤذن الصلاة فقام ليصلي، وبما أن عندنا عدوًا لدودًا وهو الشيطان، فلا يريد أن تتم العبادة بحال من الأحوال، فبدأ يوسوس له ويقول: كيف تصلي بغير وضوء، فقد خرجت منك ريح! فقام الرجل يتحدث في نفسه ويقول: أخرجت ريحًا؟! لا ما أخرجت ريحًا! شممت رائحة؟! لا ما شممت رائحة! وهذا يسمى شكًا.
إذًا: هو في صلاة الظهر كان على يقين، وفي صلاة العصر في شك، نأتي إلى القاعدة الكلية: وهي اليقين لا يزال بالشك، فهو قد توضأ في الظهر وصلى وكانت الطهارة على يقين، وإنما جاءه التردد في صلاة العصر، فهذا يسمى شكًا، والقاعدة عند العلماء: اليقين لا يزال بالشك، فعليه أن يمضي في صلاته.
نأتي بمثال في الصلاة: صلى الرجل إمامًا صلاة العشاء، وصلاة العشاء أربع ركعات، فصلى ثلاث ركعات، وهو في الرابعة جاءه الشيطان فقال له: هذه الثالثة، وهو يقول: هذه الرابعة، والشيطان يقول: هذه الثالثة، فشك الرجل فلما شك وقف، والإمام لا بد أن يكون فقيهًا، إذًا: فهذا الذي هو فيه تردد وشك، فعند العلماء قاعدة تسمى: اليقين لا يزول بالشك، فينبغي أن يقول الإمام: أنا قد استيقنت في الثالثة أما في الرابعة فقد جاءني الوهم، فأطبق القاعدة: وهي اليقين لا يزال بالشك؛ وذلك بأن أجعل تلك الركعة هي الثالثة، حتى ولو كانت الرابعة، فأصلي الرابعة ويسجد سجود السهو.
إذًا: دخلت في هذه القاعدة جزئية ثانية، وهي تنطبق على كل الجزئيات، فتنطبق في الصلاة وتنطبق أيضًا في المعاملات، مثال ذلك في المعاملات: لو جلس رجل في مجلس البيع، وباع بيعًا مثلًا: جاء المشتري فقال: أنا اشتريت منك هذه السلعة بعشرين، فقال البائع: لا، ما بعتها إلا بخمس وعشرين، فنقول هنا: وقع الشك، فكيف نطبق قاعدة: اليقين لا يزال بالشك؟! فنقول: إذا دخل الشك بينهما فإن القول قول البائع؛ لأن اليقين مع البائع.
أيضًا مثال ذلك في الحدود: لو جاء رجل وشهد على رجل فقال: أنا رأيته يسرق، وقال المشهود عليه: لم أسرق، نقول: الأصل هي براءة الذمة.
وهنا قاعدة أخرى لكنها تدخل تحت قاعدة: اليقين لا يزال بالشك؛ لأنها كلها فروعات تتعلق بها، واليقين في المسلم العدل التقي الذي يصلي، أنه عدل، وأنه لا يسرق ولا يزني، فلو جاء مشككًا يشكك في عدالته، فنقول: اليقين أنه عدل، وهذا الشك لا يمكن أن يزيل اليقين.
فإذًا: هذه القاعدة تمر على كل جزئيات الفقه.
فهذا تعريف الجرجاني.
أما المحققون فقالوا في تعريف القاعدة الفقهية: إنها حكم أغلبي أكثري لا كلي، وهي منطبقة على أكثر الفرعيات أو أكثر الجزئيات، وهذا التعريف الثاني هو الصحيح والراجح.
1 / 5
الفرق بين تعريف الجرجاني للقاعدة الفقهية وتعريف غيره
الفارق بين التعريف الأخير وبين التعريف الأول أن الأول قال فيه: هي قضية كلية تنطبق على كل الجزئيات، وقال في الثاني: هي قضية أغلبية؛ لأن هناك نوادر ومستثنيات تخرج منها، وبالمثال يتضح المقال: بيع المعدوم ما حكمه؟ بيع المعدوم لا يصح، هذا حكمه والدليل ما ورد في صحيح مسلم: (نهى النبي ﷺ عن بيع الغرر)، والغرر: هو كل بيع غائب أو معدوم، فحكمه حرام.
إذًا: فالقضية الكلية أو القاعدة العامة التي نتكلم عنها الآن: هي الغرر، وحكمه التحريم.
فننظر في تعريف العلماء للقاعدة: هي قضية أكثرية أغلبية؛ لأنه يستثنى منها استثناءات، كبيع السلم، والسلم هذا بيع معدوم، والسلم كما في الصحيح أن ابن عباس ﵁ وأرضاه قال: (دخل النبي ﷺ المدينة وكانوا يسلمون -أو يسلفون- في التمر السنة والسنتين، فقال النبي ﷺ: من أسلف فليسلف في شيء معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، فضبطه ﵊ بضوابط.
والسلم معناه: أن تأتي برجل زارع ليس عنده الثمرة الآن لكن هو يصف لك هذا الثمر ويقول: هو كذا وكذا وكذا ويقول: أنا سأبيع عليك مثلًا: الوسق بخمسين أو الوسق بستين فتقول له: كم تخرج هذه المزرعة وسقًا؟ فيقول مثلًا: مائة وسق، أو ألف وسق، فيضرب لك الحساب وتعطيه الثمن.
من شروط السلم: أن تعطيه الثمن مقدمًا، ثم يأتيك هو بالسلعة بنفس الوصف الموصوف في الذمة وبنفس الوقت المحدود، وبذلك يتم البيع، فهذا السلم من بيع المعدوم، ولذلك قال العلماء: هذا مستثنى من القاعدة الكلية، وهذا الذي جعل الشافعي يقول: إن المستثنى لا يقاس عليه، أي: ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس فمثلًا: لو أن رجلًا يعمل سائقًا عند رجل فقال له: لك (٢٥%) من الربح، فقاسه على السلم، نقول: هذه إجارة ناقصة الشروط، فلا تصح، بل لا بد أن تعلن الإجارة، وهذه ترد -كما قلت- في قاعدة: ما خرج عن القياس، غيره عليه لا ينقاس، فالعلماء قالوا: السلم بيع معدوم وهو مستثنى من الأصل.
أيضًا الاستصناع، وهو طلب الصنعة، وهو مشهور عندنا في الإسكندرية، ويعني: أن تشتري الشقة التي في الهواء، قبل بناء البيت، فهذا اسمه استصناع، يعني: يستصنع لك بالرسم الهندسي ويبين لك الشقة برسم معين.
إذًا: فالتعريف الثاني هو الراجح الصحيح، وهو أن القاعدة الفقهية هي حكم أغلبي -أو حكم أكثري- ينطبق على أكثر الجزئيات.
1 / 6
الفرق بين القاعدة والضابط
كثيرًا ما نسمع من فقهائنا يقولون: وضابط المسألة كذا، والقاعدة عند العلماء كذا، فنقول: ليس هناك فرق بين الضابط والقاعدة الفقهية عند المتقدمين، لكن الصحيح أن المتأخرين ابتدءوا يفصلون المسألة، حتى تنضبط وتسهل على طلبة العلم، فقالوا: الفارق بين الضابط وبين القاعدة: أن الضابط يختص بباب واحد، والقاعدة تختص بأبواب شتى، فقول النبي ﷺ: (الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه).
هذا الحديث رواه الخمسة، وهو ضابط في باب واحد، وليس في أبواب كثيرة، أما قولنا: الضرورات تبيح المحظورات، فهذه قاعدة كلية فالفارق بين القاعدة والضابط: أن القاعدة الكلية تدخل في المياه وفي الصلاة وفي البيوع وفي النكاح وفي الحدود.
فقولنا: تدخل في المياه، مثال ذلك: رجل رأى خلخال امرأته في ضوء القمر، فأراد أن يكسب الأجر معها فجامعها، فقام ليغتسل فما استطاع؛ لأن البرد شديد، فنقول له الآن: محظور عليك أن تتيمم مع وجود الماء، لكن الرجل كان فقيهًا وقال: أنا مخير بين التيمم وبين الاغتسال، والتيمم أيسر، والمشقة تجلب التيسير، وديننا دين اليسر، والرسول ﵊ يقول: (ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه)، بل وهناك دليل آخر وهو: (أن عمرو بن العاص كان في غزوة ذات السلاسل وهو أمير الجيش، وكان البرد عليه شديدًا، فأجنب فتيمم وصلى بالناس، فتبسم ﷺ لما علم بفعله، وأقره على هذه الصلاة)، فهنا دخلت القاعدة: المشقة تجلب التيسير، أو قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات، وهذا هو الفرق بين القاعدة والضابط، أي: أن الضابط يكون في باب واحد، وأما القاعدة فتدخل في الطهارة، وفي الصلاة، وفي غير ذلك.
مثال ذلك: رجل يصلي ثم حدث له حادث ابتلاه الله به؛ ليرفع درجاته فما استطاع أن يقوم، وعندنا القيام في الصلاة واجب من الواجبات، بل عند الحنابلة ركن، والدليل ما جاء في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: (صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا)، وجه الدلالة من الحديث أنه لا يباح لك أن تصلي قاعدًا إلا إذا لم تستطع القيام، فنقول له: تدخل هنا قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات في باب الصلاة، فهنا الضرورة أباحت لك ذلك.
أيضًا في مسألة الطعام يحرم على الإنسان أن يأكل الضبع؛ لأن له نابًا، لكن هذه المسألة خلافية، فعند الشافعية يجوز أكل الضبع، لأن الشافعي يقول: ما زلت على المروة والصفا أجدهم يأكلونه في مكة، والحديث: (أن النبي ﷺ جعل فيه شاة)، أي: جعله من الصيد، وهذه دلالة على أنه يحل أكله.
أيضًا: يحرم أكل لحم الخنزير، لكن يجوز للمضطر أن يأكله؛ لأن الله قال: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة:١٩٥]، فالخنزير وإن كان محرمًا يجوز أكله عند الضرورة، والقاعدة الفقهية تقول: الضرورات تبيح المحظورات، لكن الضرورات تقدر بقدرها، فإذا كان يرى في نفسه الخفة، وأنه قد يصل إلى مكان يأكل فيه الطعام الحلال، فإنه يأكل أكلًا قليلًا حتى لا يموت ثم يذهب إلى مكان الحياة.
إذًا الفارق بين القاعدة والضابط: أن الضابط يكون في باب واحد، والقاعدة تكون في أبواب شتى، وبينهما عموم وخصوم، فالقاعدة أعم من الضابط.
1 / 7
الفارق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية
الفارق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية: لقد عز في هذا الزمان أن تجد فقيهًا عالمًا بالأصول وعارفًا بتقعيد القواعد، فإن رأيت فقيهًا لا يعرف كيف يؤصل ولا يستنبط الحكم منه فاعلم أنه ناقل.
لقد تكلمت مع أحد المشايخ الفضلاء النبلاء في مسألة معينة فلامني على الحكم في المسألة، فقال: هذه تحتاج إلى استقراء، ومعنى الاستقراء: أن تطلَّع على كثير من أقوال العلماء في الفروع التي فرعوها، فأضمرت في نفسي تأدبًا وقلت: لا تحتاج إلى استقراء، لكن تحتاج إلى تقعيد وتأصيل؛ لأني أقول دائمًا: الفرع إذا رددته على الأصل وجدت الحكم، ووالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت كثيرًا من طلبة العلم يسألون عن مسألة ولم يكونوا قد اطلعوا عليها فيجيبون بالإجابة الصحيحة، وهذا الذي جعل بعض مشايخهم يحتفلون بهم، ويعطونهم إجازات خاصة؛ لأنهم كانوا يسألونهم السؤال فيجيبون بأجوبة صحيحة، فينظر الشيخ فيرى أن هذا جواب الحافظ ابن حجر أو جواب شيخ الإسلام ابن تيمية أو جواب النووي، وهذا الطالب لم يكن قد قرأ ذلك، وإنما لأن الله حباه بفهم التقعيد والتأصيل.
إذًا: فالذي عنده التأصيل القوي يستطيع أن يبني بناءً قويًا.
والقواعد هي التي تقوي الفقيه وتقوي فتواه، والقواعد الأصولية والقواعد الفقهية يشتركان ويفترقان، ونحن الآن بصدد الفروق وهي كما يلي: أولًا: القواعد الأصولية منضبطة محدودة، وجزئياتها غير كثيرة، والقواعد الفقهية غير محدودة، بل هي كثيرة، وهذه والحمد لله تبين لنا ميزة هذا الفقه وأنه يسع كل النوازل كما سنبين.
ثانيًا: القواعد الأصولية تنطبق على جميع الجزئيات، مثل الضابط، أما القواعد الفقهية فالراجح: أنها أكثرية وأغلبية ولا تتفق على جميع الجزئيات.
ثالثًا: وهذا الأوضح: القاعدة الأصولية تهتم بدلالات اللفظ، والقاعدة الفقهية: تهتم بفعل المكلف.
مثال ذلك: القاعدة الأصولية تقول: الأصل في النهي التحريم ما لم تأت قرينة تصرفه إلى الكراهة، ويقولون: الأصل في الأمر الوجوب ما لم تأت قرينة تصرفه إلى الاستحباب، ويقول رسول الله ﷺ: (لا تشرب قائمًا)، أو قال النبي ﷺ: (أتريد أن يشرب معك الهر؟ يشرب معك من هو أشر منه)، فهذا أسلوب نهي، والحديث الذي في الصحيحين عن ابن عباس ﵁ وأرضاه قال: (ونهينا أن نكفت الثياب في الصلاة)، فهذا نهي، والأصل في النهي عند الأصوليين التحريم، ونحن الآن لسنا بصدد المسألة الفقهية وإنما نريد أن نبين على أن الأصوليين ينظرون دلالات اللفظ.
والأصل في الأمر الوجوب، قد قال النبي ﷺ: (كل بيمينك) فهذا أمر، الأمر ظاهره الوجوب ما لم تأت قرينة تصرفه إلى الاستحباب، وهذه مهمة الأصوليين.
أما مهمة الفقهاء: فإنهم ينظرون إلى فعل المكلف أي: كيف يفعل في هذه الأوامر والنواهي، هل عنده ضرورات تدخل وتزيح عنه التحريم، أو تصرف النهي من التحريم إلى الكراهة، أو تصرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب؟ فهذا محل عمل القواعد الفقهية.
1 / 8
أهمية العلم بالقواعد الفقهية
كل علم له أهمية وفن له أهمية، ومن أهمية هذا العلم: أن الأمة تحتاج إلى فقيه، ولن تجد فقيهًا يكون عاريًا عن قواعد الفقه؛ فقواعد الفقه أولًا: تشمل فروعًا كثيرة يضبطها كلمة وجيزة، مثلًا تقول: المشقة تجلب التيسير، فهذه القاعدة تدخل معك في كل فروع الفقه، أو تدخل في كل شيء، في سفر وفي مرض وفي طعام وفي عمليات جراحية، فنقول: فروع كثيرة تجتمع فتلتئم وتنزل تحت كلمة وجيزة هي: المشقة تجلب التيسير، أو الضرورات تبيح المحظورات.
ثانيًا: إن من فائدة القواعد الفقهية أن تجعل المفتي أو القاضي أو الفقيه على أرض صلبة في الفتوى، ودائمًا يرجع إلى ضابط وقاعدة فيستنبط الحكم منها مع الدليل الأصولي، فتكون الفتوى منضبطة وصحيحة، ولذلك ترى كثيرًا من التخبطات في الفتاوى؛ لعدم ضبط القواعد والأصول، فأضرب لكم مثلين: المثل الأول: امرأة قيل فيها: إنها فقيهة العصر وحباها الله كل خير، أفتت بفتاوى كثيرة جدًا من هذه الفتاوى أنها أفتت، -وهي تتكلم عن الأضحية علينا أهي سنة أم واجبة؟ هذا خلاف فقهي، لكن الأضحية قربة- فقالت: يمكن للإنسان أن لا يذبح وإنما يضحي ويخرج ثمن الأضحية مالًا ويجزئه ذلك، قلنا: الحمد لله على فقيهة العصر! أين فقهك أين دليلك؟! فقالت: دليلي القياس، قلنا: هات القياس، قالت: قياسًا على جواز إخراج الزكاة مالًا لا عينًا.
إذًا: فننظر في القواعد والأصول الآن، المرأة أتت بفتوى وهي فقيهة العصر، وقالت: إنه يجوز للإنسان أن يخرج ثمن الأضحية للفقراء؛ لأنها أنفع لهم؛ من اللحم، وقالت: هذه الفتوى جاءت قياسًا على جواز إخراج الزكاة مالًا لا عينًا، نقول: هل القياس كان قياسًا على مسألة متفق عليها أم مختلف فيها؟ وباتفاق الأصوليين: لا يجوز أن تلزم الخصم في مسألة مختلف فيها، وهذا ضابط وليس بقاعدة، وأنتِ عممتِ الضابط إلى أن جعلتيه قاعدة، ولا يصح لك ذلك للفارق بينهما، فأصبح قياسًا مع الفارق.
إذًا: أقول: ما الذي يجعلنا نقوى ونقف أمام هذا التيار القوي الغاشم من الفتاوى؟ ليس إلا التأصيل العلمي، والتقيد الصحيح، والله الذي لا إله إلا هو إن شمس البدعة قد بزغت بتأصيل وتقعيد، فهذا رجل أنزل ستة كتب كلها رد على الشيخ الألباني يؤصل فيها تأصيلًا حديثيًا قويًا، ولا أحد يستطيع أن يرد عليه إلا من تأصل تأصيلًا علميًا.
الفائدة الأخيرة: هي أن المرء المفتي أو الفقيه تنضبط فتواه بضبط هذه القواعد الأصولية أو القواعد الفقهية.
يبقى الختام ألا وهو أن هذه القواعد لها مراتب: قواعد شاملة، وقواعد أضيق، وقواعد أضيق، تدور القواعد على خمس قواعد هي أهم القواعد، ولذلك أقول: لو ضبط طالب العلم هذه الخمس القواعد لأصبح نحريرًا، وهي: الأمور بمقاصدها، الضرر يزال، الضرورات تبيح المحظورات، اليقين لا يزال بالشك، العادة محكمة.
فهذه القواعد التي اتفق عليها أهل العلم؛ لأنها قواعد شاملة يندرج تحتها فروع كثيرة جدًا، ومن أتقن هذه القواعد وضبطها أصبح فقيهًا ولا بد، إلا إذا شاء الله أمرًا آخر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
1 / 9
القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - الأمور بمقاصدها
أمر الله تعالى بالتفقه في الدين وحث عليه، ولا يمكن أن تجد فقيهًا متمكنًا لا يعرف القواعد الفقهية التي تضبط له فروع الفقه ومسائله.
ومن القواعد الفقهية قاعدة: الأمور بمقاصدها، والتي تُعنى بالنيات، فلا تعتبر الأفعال أو تترتب عليها النتائج إلا بها، وهي تبين أنه قد تتحد الأعمال وبالنيات تختلف أحكامها، وللنية ثمرات، منها: التمييز بين العادات والعبادات، وتمييز العبادات بعضها من بعض، وقلب العادات إلى عبادات.
2 / 1
أدلة قاعدة الأمور بمقاصدها
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الإخوة الكرام! نفتتح اليوم بإذن الله كتاب القواعد الفقهية لفضيلة الشيخ/ محمد بن بكر بن إسماعيل، ثم نتكلم عن أحكام المواريث، فنقسم الدرس بين القواعد الفقهية، وبين مهمات في أحكام المواريث.
انتهينا من المقدمة والكلام على القواعد الفقهية وأهميتها، وأنه لا يمكن أن تجد فقيهًا متقنًا لعلم الفقه بدون أصول الفقه، وبدون القواعد الفقهية، إلا أن يكون صانعًا لها والفرق بينهما يبينه إتقان الأصول والقواعد، والتي تجعل من الرجل صانعًا للخفاف أو بائعًا لها.
وقد فرقنا بينهما، وهذا التفريق ليس منا، بل من فحل من فحول الفقه وهو ابن رشد في بداية المجتهد، فهناك فارق بعيد بين المقلد الذي هو بائع الخفاف وبين المجتهد الذي هو صانع الخفاف، فقد نجد من ينتسب إلى الفقه الشافعي مثلًا فيحفظ كل فروعه، وتسأله في مسألة منه فإذا هو كالسيل الجرار، أما إذا سألته في مسألة مستحدثة؛ لأنه لا يدرس العلوم أو ليس بفقيه بحق فلا يستطيع الجواب، ويضرب أخماسًا بأسداس؛ ولذلك صانع الخفاف: هو الذي يضبط المسائل، وإذا أتاه فرع لم يقرأه يرد الفرع على الأصل، وهذا مصداقًا لقول الإمام مالك: ليس العلم بكثرة المسائل، ولكن العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء.
نبدأ إن شاء الله بأول قاعدة، وهي أهم القواعد وهي: الأمور بمقاصدها، وأغلب هذه القواعد أدلتها من الكتاب والسنة.
وأدلة هذه القاعدة كما يلي: أولًا: ما في الصحيحين عن عمر بن الخطاب ﵁ عن رسول الله ﷺ أنه قال: (إنما الأعمال بالنيات)، و(إنما) أسلوب حصر أي: قبول الأعمال بالنيات صحة أو بطلانًا، ومن أساليب الحصر: ثم وإن وإلا، وتقديم ماحقه التأخير، أو تأخير ما حقه التقديم، مثل قوله تعالى: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:٥].
أي: نعبدك أنت وحدك أو نعبد إياك، فقدم المفعول على الفعل والفاعل، وإياك نستعين: فيها نفس المعنى.
ومن أساليب الحصر: النفي والإثبات، مثل: لا إله إلا الله.
ومعنى أسلوب الحصر: أن الحكم لا يتواجد إلا فيما ذكر، ويخرج كل ما كان غير هذا الذي ذكر.
فالنبي ﷺ يقول: (إنما الأعمال بالنيات)، والتقدير: قبول الأعمال وصحتها مرتبط بالنيات، فهذا أول دليل لهذه القاعدة العظيمة التي تشمل فروعًا كثيرة.
وفي الصحيح عن ابن عباس ﵁ وأرضاه قال: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية)، فقال في الجهاد -الذي هو عمل الجوارح- إنه لا بد أن يقترن بنية وفي الحديث الذي يذكر الجيش الذي يخسف بأوله وآخره، قالت عائشة يا رسول الله! إن فيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ فقال النبي ﷺ: (يخسف بهم ثم يبعثون على نياتهم)، فذكر أصل الأصول وهو النية.
وهناك أحاديث فيها ضعف، ولكن يستأنس بها مع هذه الثوابت، منها: قول النبي ﷺ: (نية المؤمن خير من عمله).
ومنها: ما جاء في النسائي والدارمي بسند صحيح أن النبي ﷺ: (جاءه رجل فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل يقاتل شجاعة، يقاتل حمية، ويقاتل من أجل غنيمة، ما له؟ قال: لا شيء له، ثم ذكر له السؤال مرة ثانية فقال: لا شيء له، ثم ثالثة فقال: لا شيء له، إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحًا وابتغي به وجهه) ابتغاء وجه الله، وهذا أصل النية.
ومنها: ما جاء في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال لـ سعد: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي -هذا وجه الشاهد- بها وجه الله إلا أجرت عليها)، أي ما أنفقت نفقة صغيرة ولا كبيرة.
2 / 2
تعريف القاعدة وشرحها
ولا بد من معرفة معنى القاعدة حتى نطبقها تطبيقًا صحيحًا، فالأمور: واحدها أمر، أو جمع أمر، والأمر في اللغة معناه: الحال أو الشأن، أي: الشأن والحال، قد يقبل أو يرد بالمقصد، ومقاصدها: جمع مقصد، والمقصد معناه: العزم على الشيء.
إذًا: معنى قاعدة الأمور بمقاصدها: أن أحوال وشئون الإنسان في أفعاله تترتب على نيته، وفي عرف الفقهاء: الأمور بمقاصدها يعني: أعمال المكلف، والفرق بين القواعد الفقهية وبين القواعد الأصولية، أن القواعد الأصولية: تهتم بدلالات اللفظ مثل: الأصل في الأمر الوجوب، الأصل في النهي التحريم.
أما القواعد الفقهية: فإنها تنظر إلى أعمال المكلفين سواء القولية أو الفعلية، فأحكامها ونتائجها تترتب على النية، بمعنى أن أعمال المكلف من قبول ورد، أو ثواب وعقاب، أو صحة وبطلان تترتب على النية، فمثلًا رجل قام يصلي، فصلاته لها صحة أو بطلان، ولها ثواب أو عقاب.
ومثاله شخص سمع المؤذن يؤذن لصلاة الظهر، فإذا قام يصلي خالعًا النية فصلاته باطلة، كأن يصلي مع الإمام الظهر فقام وكبر، ولم يستحضر النية، ولم ينو أي صلاة أي: لم يعين صلاة، فلا يدري هل سيصلي ظهرًا؟ أم عصرًا؟ أم نافلة؟ أم فرضًا؟ فأتى بتكبيرة الإحرام والفاتحة والركوع والرفع والسجود والرفع إلى أن انتهى من الأربع الركعات، فحكم هذه الصلاة البطلان؟ لأن الأمور بمقاصدها.
ومعنى الأمور بمقاصدها أنها: تصح إذا كان المقصد صحيح، وتبطل بضد ذلك.
ومثلًا: لو دخل رجل فصلى، ونوى أن يصلي الظهر، لكن لما رأى الناس ينظرون لصلاته قال: سيمدحونني، فأحسن هذه الصلاة؛ من أجل أن الناس سيمدحونه على خشوعه، فحكم هذه الصلاة: أنها صحيحة ويأثم عليها.
أما بالنسبة للشق الثاني الذي تكلمنا عنه في معنى الأمور بمقاصدها، أي: الثواب أو العقاب، فليس له عليها ثواب؛ لأن الأمور بمقاصدها، وله الثواب لو قصد بذلك وجه الله انبثاقًا من الحديث: (ما أنفقت نفقة صغيرة ولا كبيرة تبتغي)، وقيد بـ (تبتغي بذلك) الحديث.
إذًا: إذا صليت صلاة فأحسنت الركوع والسجود والرفع وجب أن أقول لك: اقصد بذلك وجه الله لتثاب على هذه الصلاة، وهذا معنى أو شرح التعريف.
إذًا: شرح تعريف الأمور بمقاصدها عند الفقهاء: أن أعمال المكلفين سواء أكانت قولًا أم فعلًا، صحة أو بطلانًا، ثوابًا أو عقابًا، تترتب على النية، وتطبيق هذه القاعدة كثير عند فقهائنا، والقواعد الفقهية تشمل جميع الأبواب، أو تشمل أغلب الأبواب، خلافًا للضوابط؛ لأن الضابط يشمل بابًا واحدًا كالطهارة مثلًا أو الزكاة.
2 / 3
تطبيقات وصور لقاعدة الأمور بمقاصدها
من هذه الصور ما يلي: الصورة الأولى: رجل سار بسيارته فوجد أمامه شبح رجل فقتله بالسيارة، فنأتي بالصور لنطبق القاعدة عليها؛ ليعلم طالب العلم كيف يطبق القواعد وكيف كان الفقهاء يطبقون هذه القواعد.
عندنا رجل نريد الحكم عليه، والحكم يحال إلى القاضي الفقيه النحرير، رجل قتل رجلًا بسيارة، فعند الحكم عليه نأتي إلى القاعدة، فيقول الفقيه: الأمور بمقاصدها، إذًا: ننظر إلى الفاعل وإلى قصده ونيته، فإن كانت النية: قتله عمدًا، فله حكم، وإن كانت النية أن لا يقتله عمدًا، وقتله خطأً، فله حكم آخر، مع أن القتل واحد.
إذًا: فالمقاصد تغير لنا الأحكام، فإذا كان صاحب السيارة دهس هذا الرجل وقتله قاصدًا ذلك مع سبق الإصرار والترصد -كما يقولون- فحكمه القتل والقصاص.
ولذلك قال الله جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ﴾ [البقرة:١٧٨]، إلى آخر الآيات، وقال الله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة:٤٥].
فنطبق القاعدة، أي: الأمور بمقاصدها، فهو لما قصد قتله حكمه بهذا المقصد القتل، فتأملوا إلى أنه باختلاف المقاصد تختلف الأحكام، وأيضًا قال النبي ﷺ: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقتل، وإما أن يأخذ الدية).
وقال النبي ﷺ: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)، منها: (النفس بالنفس)، والمقصود أن حكمه القتل.
لكن لما غاير القصد، فما قصد القتل عمدًا، بل قتله خطأً، فيتغير الحكم، مع أن الفعل واحد، والضرب بالسيارة واحد، لكن النية غيرت الأحكام في الفعل الواحد، فلما ذهب عن نية العمد قلنا له: حكمك حكم قتل الخطأ، وقتل الخطأ حكمه: الدية مخمسة وصوم شهرين.
فلما كان قتله خطأ غاير حكمه حكم العمد؛ للقاعدة، فكل بنيته، و: (إنما الأعمال بالنية) صحة أو بطلانًا ثوابًا أو عقابًا، والأمور بمقاصدها، وهذه الصور في الحدود.
ومن الصور في الأموال: رجل كان يحب رجلًا، ورآه في ضيق فأعطاه مالًا، وقال: أراك تحتاج هذا المال، وهو ألف جنيه مثلًا، فلما أعطاه المال وتصرف الرجل فيه، بعد مدة جلس يتساءل لم لم أسأل الفقيه المقعد المؤصل ما حكم هذا المال؟ فالإجابة ستكون من الفقيه بأن يقول: الأمور بمقاصدها، ومالك فيه تفصيل، فإن كنت أعطيته هذا المال هبة فلا رد؛ لأن الموهوب له قد امتلك هذا المال بالقبض ولا رد، وكذلك إن أرادت أن تتصدق عليه.
وإن أردت بذلك المال أن تعطيه قرضًا دون أن يجر النفع فإن هذا المال حكمه أنه دين، ولا بد من الرد حين ميسرة إن كان معسرًا؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة:٢٨٠]، فإذا قصدت بإعطائك له المال أن يكون وديعة، أو أمانة فتلف في يده دون تفريط فحكمه عدم الرد، إلا حين الطلب؛ لأن يد المودع يد أمان، ليست يد ضمان أبدًا.
لو أن أحد الناس أخذ وديعة يحملها ويحفظها، ولم يفرط فيها، فسرقت ليس عليه شيء؛ لأن يده يد أمان وليست يد ضمان.
إذًا: يتغاير الحكم في أكثر من حالة بالمقصد، فلما جاء المقلد الأعمى الذي يسمع هذا فيقول: أنت رجل متذبذب، وليس عندك ثمة علم؛ ففي مسألة واحدة أو فعل واحد أعطيتنا ثلاثة أحكام! فرد عليه الفقيه المقعد بقوله: أنت مقلد وما كان لك أن تتكلم، ولو تعلمت العلم لعلمت أن هذا الحكم تغاير بقاعدة مهمة جدًا عند أهل الفقه والعلوم، وهي: الأمور بمقاصدها، وإذا تغيرت النية تغير الحكم تبعًا لذلك فالحديث يقول: (إنما الأعمال بالنيات).
الصورة الثالثة -وهي في الأموال أيضًا-: رجل كان صاحب أمل، ويكثر من أحلام اليقظة، وكلما يسير في الشارع يقول: لو رأيت مليونًا، أو ألفًا أو ألفين، فقدر الله عليه وهو يسير فرأى أسورة من ذهب تتلألأ أمامه، خطفت بصره، فنظر إليها فأخذها بيده، وجلس يحلم: سأتزوج بها المرأة الجميلة التي أحبها، وتنجب، ثم أعلم هذه البنت القرآن، ثم أبيع هذه الأسورة وأعمل شركة كذا وكذا، حتى جاء الغراب فأخذها من يده، وضيع عليه كل أحلامه التي يريدها، فجاء رجل أسود، وكان فحلًا كالجبل، فوقف أمامه فقال له وهو يأخذ بتلابيبه: أين أسورتي؟ رأيتها في يدك فأنت سارق، قال: لا والله! لست بسارق، أهي أسورتك؟ قال: نعم، هي أسورتي قال: إذًا يحل هذا الإشكال الفقيه، فذهبوا للفقيه المقعد المؤصل فسألوه عن هذه المسألة، فقال لهم: عندي قاعدة وهي: الأمور بمقاصدها: ودليلها: (إنما الأعمال بالنيات).
فقال: ننظر في الرجل الذي أخذ الأسورة، فله أحوال، وهذه الأحوال متغايرة، لكنها مرتبة على نيته في الالتقاط، فإن التقطها ليمتلكها، وهو رجل قتلته أحلام اليقظة، فلما جعلها على طرف إصبعه، جاء الغراب فأخذها فنقول: إنه فرط فيها، وما حافظ عليها، بنية أن ويكون غاصبًا، والغاصب يضمن سواء أفرط أم لم يفرط، والقاعدة عند العلماء: إن الغاصب يضمن إذا فرط أو لم يفرط.
فنقول له: حالك كالأول بنيتك، فهل تقسم بالله على هذه النية؟ أي: أنك التقطت هذه الأسورة لتمتلكها، وهنا تكون غاصبًا، وتضمن الأسورة للرجل، فقال الرجل: لا والله! ما نويت هذه النية.
ثم نقول له: فإن كنت التقطتها لتعرفها، أي: لتكون لقطة، فأنت الآن يدك يد أمان، فإن فرطت تضمن، وإن لم تفرط لم تضمن، فقال: ما فرطت بل أخذتها في إصبعي وجاء الغراب هذا من غير أن أراه فخطفها، فيقال له: إذًا: فلست بمفرط فلا شيء عليك، وهذه هي الحالة الثانية.
ونقول: في الالتقاط يمكن أن تكون له نية أخرى غير النية الأولى الثانية، وهي: أن يلتقطها ليتصدق بها، وفي هذه الحالة نقول له: أنت ضامن؛ لأنك تصدقت بما لا تملك، وهي ليست ملكًا لك، فرجعت المسألة حكمها كحكم الأولى فتضمن للرجل أسورته.
وهناك صورة أخرى من باب العبادات وهي كالتالي: رجل كان غنيًا يملك النصاب، وقبل أن يحول عليه الحول وجد فقراء كثر فرق لهم قلبه، والله جل في علاه يرحم من يرحم من في الأرض، كما قال النبي ﷺ: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، إنما يرحم الله من عباده الرحماء)، فرحمة بالذين ينامون في الشارع، ذهب يفرق عليهم مالًا، ثم بعدما حال عليه الحول، وقف الناس عند بيته يضجون أين الزكاة؟ أين الحق الواجب الذي عليك؟ فوقف الرجل يتذكر، وقال: قبل الحول قد أخرجت هذا المال، فما حكم هذا المال الذي أخرجته: أهو من الزكاة أم ليس من الزكاة؟ فاحتاج الرجل لفقيه مقعد يخرج الأحكام على القواعد، وقال له: أخرجت المال قبل الحول، والناس يطالبونني الآن، فما حكم هذا المال الذي أخرجته؟ فقال له الفقيه المقعد: عندنا قاعدة وهي: الأمور بمقاصدها، فالأحوال والأحكام تتغاير بتغاير النيات، فلك أحوال في إخراج هذا المال: فإن أعطيت هذا المال تنوي به الاستسلاف، وأنه من الزكاة -والاستسلاف هو: تقديم مال الزكاة ويصح تقديم مال الزكاة، فكل عبادة أقتت بوقت لا يصح أن يأتي بها قبل وقتها، فهذه قاعدة عامة، وتقديم الزكاة من هذه القاعدة؛ لأن النبي ﷺ استسلف من العباس زكاة عامين أو سنتين.
إذًا: فإن كانت النية عندك الاستسلاف أن تقدم مال الزكاة، فتبرأ ساحتك وليس عليك شيء، وإذا طالبك أحد فقل: أخرجتها وبرئت ساحتي أمام الله جل في علاه، وهذه هي الحالة الأولى.
الحالة الثانية: إن أردت بنيتك أن تقدم الزكاة، لكن النية تغيرت وأنت تدفع المال فجعلتها صدقة، وجب عليك أن تخرج الزكاة.
الحالة الثالثة: إن نوى أن تكون هبة لهؤلاء الناس، فنقول له: هذه الهبة أنت مثاب عليها عند ربك جل في علاه، وعليك أن تخرج الزكاة من جديد.
والفرق بين الصورة الثالثة والثانية: أن الصدقة يبتغي بها وجه الله، أما الهبة فيمكن أن يبتغي بها وجه القرب للقرين، أو لمن فوقه، هذا هو الضابط الفارق المميز بين الهبة وبين الصدقة.
ونقول له: حتى لو فعلت ذلك لتتقرب أو تتحبب لمن أعطيته فحكمك: أنك لا بد أن تخرج الزكاة.
فهذه صور تبين لنا كيف كان علماؤنا يطبقون هذه القاعدة العظيمة الجليلة: الأمور بمقاصدها.
2 / 4
توابع مهمة لقاعدة الأمور بمقاصدها
هذه توابع مهمة جدًا لهذه القاعدة منها: أولًا: إذا قلنا بالتعريف الفقهي: أن أعمال المكلف صحة وبطلانًا إثابة أو ردًا تترتب على النية، و: (إنما الأعمال بالنيات).
فلو انتفى شيء من هذه القيود التي بانتفائها لا يوجد الحكم، كما قعدنا قاعدة سابقة، فلو وجدت النية التي رأس الأمر عليها دون العمل لا يترتب عليها الآثار الشرعية، وبالمثال يتضح المقال: رجل تزوج امرأة، كغراب البين التي كانت دائمًا تقول للرجل الذي يقول: لا بد أن تتساوى المرأة مع الرجل في الميراث، وحكموا عليه في المحكمة بالردة، وقالت: هذا زوجي يقيم الليل، والحمد لله أن ربنا رزقه بهذه المرأة، وهذا أول عقاب في الدنيا، فما يدخل إلا وتنظر له نظرة وحش كاسر، ولا يسمع إلا جعجعة أو لا يرى إلا وليدًا تصفعه على وجهه، وكان ضعيف الشخصية، كلما يدخل يقول: ربنا نجني منها، فإذا نظر إليها قال: طالق ألف مرة أو سبعين مرة، وكل يوم من ضيقه منها يتحدث مع نفسه: هي طالق، طلقتها اليوم، سأطلقها غدًا، طالق ألف مرة، طالق مليون مرة، لكنه من جبنه لا يستطيع أن يتلفظ.
وهو إذا تلفظ لا بد أن تتزوج زوجًا غيره فيبتلى بها لتحل له، وذهب هذا الرجل الضعيف إلى الرجل الفقيه غير المقعد فقال له: إني أبغض هذه المرأة وكلما دخلت عليها ورأيت وجهها العبوس قلت في قلبي: طالق، ولا أستطيع أن أصرح بها، وقلت: طالق طالق طالق قال: يا بني! القاعدة عند العلماء: الأمور بمقاصدها، وقد نويت طلاقها، وإنما الأعمال بالنيات.
وأنت قد طلقتها ألف مرة، فقد عصيت الله بتسعمائة وتسعين مرة، وبثلاث قد بانت منك بينونة كبرى، ولا تحل لك حتى تنكح زوجًا غيرك، وهؤلاء الفقهاء هم الذين تعج الأسواق بهم، فارتاب الرجل في قوله، وقال: لعلي أنظر إلى فقيه مقعد ومؤصل، فرجع للفقيه المقعد المؤصل فأخبره، فقال: من قال لك ذلك؟ قال الفقيه الفلاني قال: هذه ترجع إلى القاعدة التي قعدها، وهي قاعدة صحيحة، لكن تطبيقه لها كان تطبيقًا فاحشًا خطأ، إذ أن القاعدة: الأعمال بالنيات، وأنت لم تعمل، ولم تتكلم، ويلوح في الأفق أمامي دليل يريح قلبك، قال رسول الله ﷺ: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تكلم أو تعمل).
إذًا: أناط المسألة بالعمل، فإذًا: ارجع فهي زوجتك، إلا أن تطلقها بلسانك.
فهنا خرجت القاعدة وما طبقناها تطبيقًا دقيقًا، وعلمنا: أن الأعمال الظاهرة ترتبط بهذه النيات، هذه واحدة.
ثانيًا: استثناء، وذلك أنا قعدنا: إن هذه الأحكام في القواعد أحكام أغلبية، فانظروا إلى هذا الاستثناء وهو: إلغاء مسألة النية في الظاهر الذي لا يحتاج لتأويل، وقلنا هذا في باب الطلاق أو النكاح لحفظ الفروج؛ لأن هذه المسألة من أهم المسائل، والفروج حقها عند الله عظيم، فلحفظ الفروج قال علماؤنا: الظاهر في الطلاق أو النكاح أنه لا يحتاج لنية، فإذا دخل رجل على امرأته فقبلها، وجلس معها يسايرها، ووجد منها الخير كله، فأحبها كثيرًا، وبعدما أحبها وتكلم معها قال: أنت طالق يا حبيبتي، وهو يمازحها طبعًا مزاحًا أسود، فلما قال: أنت طالق بكت المرأة، فقال: ما يبكيك، هذا مزاح ولا يقع فقالت: لا بد أن ترجع للفقيه، فرجع للفقيه أو المأذون الشرعي، فقال: قلت لها طالق ولم أنو الطلاق، فقال: يا بني! (إنما الأعمال بالنيات)، والأمور بمقاصدها، ارجع لامرأتك فهي امرأتك، وليست بطالق، فلما رجع إلى الفقيه المقعد قال له: نعم، الأمور بمقاصدها، لكن: جاءني استثناء، أو جاءتني آية ظاهرة جدًا، أو جاءني حديث ظاهر جدًا، أما الآية فقال الله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ﴾ [البقرة:٢٣٠]، وهذه عامة مطلقة، ويبقى المطلق على إطلاقه ما لم يأت المقيد يقيده، ويبقى العام على عمومه ما لم يأت مخصص، فقال: «فَإِنْ طَلَّقَهَا»، ولم يفتقر الأمر إلى نية، وأما الحديث فقال النبي ﷺ -وهو حديث مختلف فيه لكن هناك من صححه-: (ثلاث جدهن وهزلهن جد)، إذًا: حتى ولو كنت مازحًا فقد ألغي الحديث المزح.
وهنا القاعدة صحيحة، لكنه -أي: الفقيه غير المقعد- لم يطلع اطلاعًا واسعًا حتى يأتيك بالحكم الصحيح، فأنت الآن وإن كنت مازحًا فقد طلقت امرأتك.
فإذا طلقتها وأنت مازح فقد أحللتها من الوثاق إلا في حالة واحدة، وهي: إذا احتفت القرائن، وبينت لنا أنك جاهل عن هذه النية، أو قلت هذا الكلام وأنت لا تريده، ولولا أن هذا حدث في زمن الصحابة ما قلنا به، والذي جعلنا نقول بذلك: أن القرائن المحتفة إذا جاءت وقوت عدم إرادة الطلاق قلنا به.
ففي زمن عمر بن الخطاب عندما جاءت المرأة تقول لزوجها -وكانت تبغضه وتريد أن تنفك منه- ما أرضى بك حتى تتغزل فيَّ فقال: أنت قمر أنت شمس أنت حسناء، قالت: لا، والله ما أرضى إلا أن تقول أنت خلية طالق فقال: أنت قمر خلية طالق، فهنا الكلام ظاهر جدًا أنه يتغزل ولا يريد الطلاق بحال من الأحوال، فهو قال: أنت قمر أنت شمس، قالت: هذا الغزل لا أريده، قال: لقنيني قالت: قل -وكان غرًا لا يعلم أن هذا طلاق-: خلية طالق، قال: أنت قمر خلية طالق.
فهنا القرائن المحتفة أثبتت عدم إرادته الطلاق جزمًا، فلما ذهب إلى عمر -الفقيه- قال له عمر بن الخطاب: ارجع فأوجعها ضربًا فإنها امرأتك، وليست بطالق.
إذًا: فهذه مستثناه، وهذا الاستثناء إذا احتفت به قرائن تثبت الجزم في إرادة الطلاق فيقع، أو تثبت الجزم في عدم إرادة الطلاق فلا يقع.
فهنا فرق بين النية وبين اللفظ، فاللفظ الصريح أقامه الله مقام النية، فلا يحتاج إلى تأويل، ولا يحتاج إلى نيات، قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة:٢٣٠]، وأيضًا بين النبي ﷺ: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد).
إذا: فحتى لو مازحها فقد ألغيت النية وبقي اللفظ الظاهر، وهذه الحكمة لحفظ الفروج ولئلا يتلاعب أحد، فيأتي رجل ويطلق امرأته مرة ومرتين وثلاثًا، ولكنه يعشقها، ولا يريد أن ينفك عنها، لا والله كنت مازحًا وما نويت الطلاق، ولو قلنا بهذا القول لفتحنا بابًا كبيرًا، وشرًا مستطيرًا على الناس، لكن حفاظًا على هذه الفروج قلنا: أنزل الله الظاهر منزلة الباطن فلا نحتج بهذه القاعدة، فهذا كل ما يرتبط بهذه القاعدة العظيمة من صور.
2 / 5
النية ومتعلقاتها
للنية مباحث عظيمة وجليلة وواسعة جدًا أوجزها لكم في نقاط، أولًا: تعريف النية لغة وشرعًا، الثاني: فائدة وثمرة النية، الثالث: النية وقاعدة الاندراج.
2 / 6
تعريف النية
أولًا: النية معناها لغة: القصد، وشرعًا: هو القصد المقترن بالفعل، وهذا من أهم ما يكون به ضبط النية ولا بد أن يعرف طالب العلم النية في لغة الفقهاء أو الاصطلاح، ومعنى القصد المقترن بالفعل: أي: أن لا تصل إلا وتستحضر النية، ولا تحج إلا وتستحضر النية، وكذا الصوم وغيرها من العبادات، ولا تزك إلا وتستحضر النية، فإذا ما استحضرت نية الزكاة فلا يمكن أن تقبل، ولا تصح زكاتك.
ولا تصوم أيضًا إلا بنية.
إذًا: القصد المقترن بالفعل لا بد أن يكون هو والفعل سواء، وإن سبقه لا يسبقه بكثير، ولا يكون بعده، فإن كان بعد الفعل، كرجل دخل يصلي صلاة العشاء فوجد الإمام يقرأ فكبر وقرأ الفاتحة، وبعدما قرأ الفاتحة قال: ما نويت، والآن أنوي صلاة المغرب مثلًا، فتوى بعدما كبر تكبيرة الإحرام لصلاة المغرب، فلا تصح صلاته؛ لأن النية لم تقترن بالفعل بل جاءت بعده.
وكرجل دخل فتوضأ، ثم جلس في المسجد، ثم أقام المؤذن الصلاة، ونوى صلاة الظهر قبل أن يقيم الرجل الصلاة، وكبر مع الإمام، وركع وسجد وانتهى من الصلاة، فصلاته صحيحة، مع أن النية غير مقترنة! لأن الفارق يسير، وهناك قاعدة عند علمائنا أن اليسير مغتفر، فالفارق إن كان يسيرًا فهو مغتفر.
فهذا معنى تعريف فقهائنا: أن النية هو القصد المقترن بالفعل.
ووقت النية مفرع على هذا الكلام، فيكون مع الفعل أو يسبقه بيسير، وخروج المرء من بيته، وذهابه إلى المسجد قصد للصلاة، وجلوسه مع نظره إلى المؤذن الذي يقيم الصلاة يدل على العزم على الصلاة، فهي مقترنة.
2 / 7
ثمرات النية
الأولى: التمييز بين العبادات والعادات، وكثيرًا ما ترى أن العبادات لها مثيل من العادات، مثال ذلك: الغسل، فيمكن للإنسان أن يدخل بأهله، أو يحتلم ليلًا فيغتسل لرفع الجنابة، وممكن إذا قام من الليل فوجد الحر شديدًا أن يغتسل، للتبرد، فأمكن أن يكون الغسل عبادة، وأن يكون عادة، فكل عبادة لها مثيلتها من العادات.
أيضًا: كالذي يشعر أن في معدته تعب، فيرى أن الصوم فيه صحة، فيمسك عن الطعام، ولا ينو الصوم، بل يمسك من أجل الاستشفاء، فهذه عادة، فالنية تميز العبادة من العادة، وإذا دخلت وأنت جنب فاغتسلت ولم تنو إلا التبرد، ثم خرجت فصليت العصر، فصلاتك باطلة؛ لأنك صليت وأنت جنب، فإن قال: كيف أكون جنبًا، وقد دخلت الآن أمامك، واغتسلت، وأفضت الماء على كل جسدي، والغسل معناه تعميم الجسد بالماء، وقد فعلت؟ قلنا: افتقر الأمر إلى نية الفعل، فلابد أن يصاحبه نية أن تستبيح الصلاة بنيتك، أو ترفع الجنابة، فلما اغتسلت تبردًا كأنك لم تفعل شيئًا.
ومن الأمثلة أيضًا: رجل دخل يصلي، وقال هذه رياضة أعظم ما تكون، فإن الركوع والرفع تضبط لي فقرات الظهر، والسجود والجلوس أيضًا رياضة عظيمة، فدخل يصلي متريضًا، فبعدما صلى قام رجل وقال: أنا أعرفك أنت الرياضي الفلاني، وأنت ما دخلت الصلاة إلا للتريض؛ فصلاتك باطلة، فقال: أنت لا تفقه شيئًا، فإني قد أتيت بالشروط، والأركان متوفرة، وتوضأت، وركعت وسجدت ورفعت، فتوفرت في صلاتي الشروط والأركان؛ فصحت فكان الذي يناظره فقيها، وقال: لكنك لم تفرق بين العبادة وبين العادة؛ لأنك لم تنو أن تصلي هذه الصلاة إلا مع قيامك بهذه الحركات.
الثانية: تمييز العبادات بعضها من بعض، بأن تكون فرضًا أو نفلًا، أو نذرًا، أو كفارة، مثاله: رجل قام يصلي صلاة الظهر، ونوي أنها من الفروض التي فرضها الله عليه، فتسقط عنه الفريضة، وقام يصلي العصر، فنوى أنها من الفرائض التي فرضها الله عليه فتسقط عنه، فلما قام يصلي المغرب قال هذه سنة نستن بها، فصلاها على أنها سنة ونافلة، فلا تسقط عنه صلاة المغرب؛ لأنه يميز بين النافلة وبين الفرض، والأمور بمقاصدها فإذًا: من التمييز بين العبادات بعضها من بعض: التمييز بين الفريضة وبين النافلة.
مثال آخر: رجل صام يوم الاثنين، وكان يعتاد الصوم جزاه الله خيرًا، ويرى أن النبي ﷺ صام يوم الاثنين لأكثر من فائدة، منها: أن الأعمال ترفع منه، ومنها: أن الصوم ولأعدل له ومنها: الاحتفال بأن هذا مولد النبي ﷺ، فهو يحتفل بالصوم؛ لأن النبي ﷺ (لما سئل عن ذلك قال: ذلك يوم ولدت فيه).
فصام الرجل هذا اليوم، وكان كثيرًا ما يصومه، لكنه في ذات مرة قال: نذر علي إن شفى الله ابني لأصومن يوم الاثنين، فهذا يعتبر نذرًا، والنذر ينزل منزلته، فقام من الليل وبعدما صلى صلاته من الليل نام حتى أصبح، ثم قام صائمًا كما كان يصوم كل اثنين، فعند الإفطار قال الحمد لله قد وفيت بنذري فيقال له: هذا الصيام وقع نفلًا وعليك أن تأتي بالفرض؛ لأنك لم تميز بين الفرض والنافلة.
فإذًا: النيات تميز بين العبادات بعضها من بعض، وتميز بين الكفارات والنذور والنوافل.
الثالثة: أنها تقلب العادات إلى عبادات، وكما قعد علماؤنا: بالنيات تنقلب العادات إلى عبادات، فالنوم مثلًا مباح، فللمسلم أن ينام، وليس شرطًا، أو لازمًا إلا إذا أشرف على الهلكة، فإذا احتسب نومه؛ ليقيم الليل، فكل ساعة وكل دقيقة وكل نفس يخرج منه ويدخل له، فيه الأجر؛ لأنه احتسبه، وقلبه من العادات إلى العبادات، ولذلك كان ابن مسعود يجعلها قاعدة عامة فكان يقول: «والله! إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي».
فكان ينام ليقيم الليل، وكان ينام ليستطيع أن يجاهد في سبيل الله، وكان ينام حتى يدرس دروس العلم، فقلب العادات إلى عبادات.
وأيضًا الأكل الكثير، مع أنه مذموم يمكن أن يكون ممدوحًا، فقد كان أمير المؤمنين في الحديث -أي: سفيان الثوري - يأكل كثيرًا، فلما عوتب على الأكل الكثير -والأكل الكثير مباح، فقلبه من العادات إلى العبادات أو قلبه من المباحات إلى العبادات- قال: آكل كثيرًا لأستطيع أن أعبد ربي، فالدابة إذا علفتها علفًا جيدًا ستعطيك وتثمر لك ما تريد، فقال: أنا أعلف نفسي كثيرًا لأستطيع أن أعطي لربي في العبادات، ولذلك كان يأكل خروفًا على العشاء مثلًا فيقيم الليل إلى الفجر.
وهذا أنس بن مالك ﵁ وأرضاه ما كان يأكل الدباء مع أنه مباح، لكن: (لما نظر إلى رسول الله ﷺ في الصحفة، فكان يرى يد النبي ﷺ تنتقل إلى الدباء، ويحبه فيأكله، قال: فمنذ رأيت رسول الله ﷺ فأحببت الدباء).
فما رأى دباء إلا وجلس يأكل منها كما يأكل النبي ﷺ، تعبدًا بذلك، أو للاقتداء بالنبي ﷺ، فأكل الدباء عادة وليست عبادة، ففعلها وقلبها من العادة إلى العبادة، وأبو أيوب الأنصاري أو أبي بن كعب لما جلس مع النبي ﷺ فوجده قدم له طعامًا فيه بصل مطبوخ، ويجوز للإنسان أن يأكله مطبوخًا، لكن ما أكله النبي ﷺ وكف يده، فقال له أبي: (حرام؟ قال: لا، لكني أناجي من لا تناجي).
فقال هذا الفقيه الأريب اللبيب: (والذي نفسي بيده! لآتسين برسول الله ﷺ، فلم يأكل البصل مطبوخًا ولا غير مطبوخ تأسيًا برسول الله ﷺ، فقلبها من المباح إلى العبادة.
إذًا: من ثمرات النية: قلب المباحات إلى عبادات.
2 / 8
التداخل والاندراج في النية
تداخل العبادات أو قاعدة الاندراج كانت للصحابة، فكان عملهم قليل ونواياهم كثيرة، فكانوا فقهاء بل تجار نية مع الله جل في علاه، يأتي الواحد منهم المسجد بعشرين نية، يأتي بنية صلاة الفرض، وأن يسقط عنه الفرض، وبنية مدارسة العلم، وبنية تعليم الجاهل، وبنية التعاون على البر والتقوى، وبنية الجلوس في المسجد ليستغفر له الملك، وبنية مساعدة الفقير، وبنية وصول الخير لغيره، فله أكثر من نية في عمل واحد، وليجمع هذه النيات فتكون له هذه الأجور، فميزة وثمرة النيات: أنها يمكن أن تتداخل العبادات فيها، بنية واحدة، فيكون لك أكثر من عمل.
قاعدة الاندراج لها ضوابط، وهذه الضوابط في العبادات تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: عبادات مقصودة لذاتها.
فالمقصودة لذاتها مثل صلاة الفروض، كالظهر والعصر والفجر والمغرب والعشاء، فهذه مقصودة لذاتها، وأيضًا كالسنن والرواتب، فهي مقصودة لذاتها وليست مطلقة، وكسنة الفجر والظهر والمغرب والعشاء.
القسم الثاني: المطلوب الفعل فقط، أو ليست مقصودة لذاتها، كتحية المسجد، فصلاة تحية المسجد مطلقة، وصلاة سنة الوضوء، وصلاة الاستخارة، ولا تحسبن أنه يجب عليك أن تصلي ركعتين، بل لو صليت الفرض سقطت عنك تحية المسجد، ولو صليت صلاة استخارة سقطت عنك تحية المسجد، فهي غير مقصودة لذاتها، والمقصود شغل البقعة بالصلاة مطلقًا فقط.
فالسنن المطلقة غير مقصودة لذاتها، فصلاة الاستخارة غير مقصودة لذاتها، وسنة الوضوء غير مقصودة لذاتها، والمطلوب الفعل فقط.
أما القسم الأول فلا تشريك ولا تداخل فيه بحال من الأحوال، فكل عبادة مقصودة لذاتها، ولا تقبل التشريك، فلا يصح لقائم يصلي صلاة المغرب أن ينوي صلاة المغرب مع قيام الليل، فيقرأ طويلًا، أو يقرأ بالأعراف، ويقول: أنوي نيتين، وتسقط عني فريضة المغرب، ووقت الليل قد دخل فهذا من قيام الليل، فيجعلها من قيام الليل ويجعلها صلاة المغرب، فنقول له: بطلت صلاتك؛ لأنك لم تفردها بالنية، والأمور بمقاصدها، ولا يصح لك أن تشرك النية في هذه الصلاة؛ لأنها عبادة مقصودة لذاتها.
أو كرجل قام يصلي الفجر فقال هذه صلاة الفجر أصليها حتى تطلع الشمس وأنا أقرأ، أو تقارب، وأصلي معها مع الضحى مثلًا، نقول له: لا تصح صلاتك؛ لأنك شركت ولا تشريك في النية للفرض؛ لأن هذه العبادة مقصودة لذاتها.
أما القسم الثاني: وهو عبادات غير مقصودة لذاتها: فالمراد الفعل فقط، مثاله: رجل توضأ ودخل المسجد، فعلم أن النبي ﷺ قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، فهذه مطلقة، فإذا قام فتوضأ، وكان من عادته أنه يفعل ما فعله بلال أي: ما توضأ وضوءًا إلا وصلى، فقال: هذه الصلاة سنة الوضوء، فصلاها بنية سنة الوضوء، فتدخل معها تحية المسجد، وإن لم يدخلها ونوى سنة الوضوء فقط سقطت عنه صلاة تحية المسجد؛ إذ المطلوب فقط أن تشغل البقعة بالصلاة، ولو دخلت ووجدت الإمام يصلي الظهر وأنت لم تصل تحية المسجد وصليت خلفه الظهر، فقد سقطت عنك تحية المسجد، فتبين أنها ليست مطلوبة لذاتها، والمطلوب: هو شغل البقعة بالصلاة، وقد صليت الصلاة وإن كانت سنة الوضوء، ولكن نقول لك: كن فقيهًا وصلها بنية سنة الوضوء وأدخل معها نية تحية المسجد.
وكذلك: رجل دهمه أمر مهم يريد أن يفصل فيه فقال: الفصل جاء من النبي، فأفوض أمري لله وأستخير، فتوضأ وأراد أن يستخير، وكان من عادته أن يصلي للوضوء فقال: أصلي داخل المسجد كي تحفني الملائكة، فدخل المسجد فلما نظر وقعد قال: قد درست بأن النيات يمكن أن تتداخل، وقد توضأت فأصلي بهذا الوضوء سنة الوضوء، وبنية تحية المسجد، وبنية الاستخارة، فصلى بهذه النوايا الثلاثة، فجمع هذه الأجور كلها بعمل واحد، وصح له ذلك.
إذًا: العبادات المطلقة الغير مقصودة لذاتها يصح أن تتداخل، أما العبادات المقصودة لذاتها، فلا يصح أن تتداخل، وبالتطبيق سيتضح لك ما أقول: رجل قام يصلي صلاة الغداة التي قال فيها النبي ﷺ: (أفضل مما طلعت عليه الشمس)، وقال هاتين الركعتين بنية سنة الفجر، ونية الركعتين اللتين كان يصليهما النبي ﷺ بعد الوتر وهو جالس بعد قيام الليل، فصلاهما بنيتين: نية سنة الفجر، ونية قيام الليل، وخطوات القاعدة: أن ننظر إلى هذه الصلاة التي هي مقصودة لذاتها، إذًا: فالحكم أنه لا تداخل، ونقول له: لا يصح فعلك بل لابد أن تفردها بنية.
ورجل بعدما صلى المغرب قال: ألتمس هذه السارية فأصلي سنة المغرب، وأنوي معها قيام الليل، فلا يصح؛ لأن سنة المغرب مقصودة لذاتها، مع أن بعض العلماء قال: ممكن أن تدخل في قيام الليل؛ لأن الثانية نافلة، لكن الصحيح الراجح: أن كل عبادة مقصودة لذاتها لا تداخل للنيات فيها.
ورجل قام يصلي تحية المسجد فقال: أنا أصلي تحية المسجد، وسنة الظهر، وسنة الوضوء، وصلاة الاستخارة، فأتى بأربع نيات، فلا يصح فعله؛ لأنه أدخل فيها سنة الظهر، وهي مقصودة لذاتها، ولو نوى ثلاثًا: الاستخارة وسنة الوضوء وتحية المسجد لصح ذلك.
إذًا: العبادات المقصودة لذاتها لا تتداخل نياتها، والعبادات المطلقة يمكن أن تتداخل النية فيها، وهي التي يدخل فيها قاعدة الاندراج.
وهناك ضابط آخر يضبط المقصود بذاته أو مطلق الفعل، ومثال ذلك: رجل كان يأخذ بقول الشافعي في حديث النبي ﷺ: (من بكر وابتكر وغسل واغتسل)، فأخذ بأسباب الغسل، ومن أسباب الغسل: جماع أهله، فجامع أهله، ثم دخل ليغتسل بعدما جامع أهله وكان فقيهًا حنبليًا؛ لأنه يرى: بأن غسل الجمعة واجب على كل محتلم، كما قال النبي ﷺ: (غسل الجمعة واجب)، والصحيح الراجح: أنه مستحب وليس واجب؛ لما في صحيح مسلم -وهو أسطع من شمس النهار- وفيه: (من توضأ وذهب إلى الجمعة ماشيًا، وقرب من الإمام فأنصت، ولم يلغ كانت له كفارة إلى الجمعة الثانية)، فقوله: (من توضأ)، هذا صريح غير مؤول، ولا يحتمل أي شيء، وقول النبي ﷺ: (غسل الجمعة واجب)، يحتمل أشياء كثيرة جدًا، والمقصود: أنها سنة وليست بواجب، فدخل الحنبلي يغتسل وقال: الآن أنا دائر بين أن أنوي نية غسل الجمعة وأدرجه مع غسل الجنابة، فكان فقيهًا نيرًا، وقال: اغتسلت هذا الغسل للجمعة وللجنابة وخرج فصلى، فصلاته صحيحة.
فنجد: بأن غسل الجنابة مقصود بذاته لرفع الجنابة، أو لرفع الحدث، أما غسل الجمعة فليس مقصودًا لذاته، بل مقصود لغيره؛ والغير قد يكون العرق مع الاجتماع، فينفر منك أخوك من هذه الرائحة، فأصبح مقصودًا لغيره، فلما كان مقصودًا لغيره قال العلماء: الذين يتبنون مسألة الوجوب يندرج؛ لأن الأدنى الذي هو غير مقصود لذاته يندرج تحت الأعلى الذي هو مقصود لذاته، لكن الزهري قال: إن هذا واجب وإن كان غير مقصود لذاته لكنه واجب، والثاني أيضًا مقصود لذاته وهو واجب، والقاعدة عندنا: أن الواجبات لا تقبل التشريك، فكان قوله أشبه بالتقعيد والتأصيل، وعلى قول الزهري: عليه غسلين: غسل الجنابة، وغسل الجمعة، فإن قلنا: الراجح قول الزهري، نقول له: قد رفعت جنابتك بغسل الجنابة وصحت صلاتك، لكنك أثمت لتركك غسل الجمعة، وهذا تخريج على قول الزهري، الذي هو أشبه ما يكون بالتقعيد والتأصيل.
إذًا: توسعنا في مسألة وقاعدة الاندراج وتداخل النوايا، وقلنا: العبادات تنقسم إلى مقصود بذاته وغير مقصود بذاته، فما كان غير مقصود بذاته بل المقصود منه الفعل فقط فتندرج تحته النوايا، أي: ممكن أن تتداخل فيه النوايا، أما المقصود لذاته فلا يمكن أن تتداخل فيه النوايا، ولا يقبل تشريكًا.
وهذا آخر الكلام على مسألة الأمور بمقاصدها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
2 / 9
القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني
النية لها شأن عظيم في الشريعة الإسلامية، فإن استقامت وصلح العمل فقد أفلح صاحبها وأنجح، ومما يبين عظيم مكانة النية في الإسلام: أن العقود قد لا تنفذ ولا تترتب عليها آثارها في بعض الحالات، رغم توفر أركان العقد وشروطه؛ وذلك لأن النية قد تكون متجهة لمعنى غير ما ظهر من الألفاظ، وتعلم النية ومقصودها بالقرائن.
، فإذا اعتبرنا النية والمقصد لا اللفظ الظاهر فقد قصمنا ظهور أصحاب الحيل، الذين يسلكون درب اليهود في ذلك الأمر.
3 / 1
لا ينال العلم إلا بالصبر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد.
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة في النار، ثم أما بعد: فإن طلبة العلم إذا استعصت عليه المسائل العلمية يفر من طلب العلم، فيعيش عمره كله في الجهل.
وقد قال الإمام السبكي: ما ألح أحدٌ على باب إلا فتح له.
فإذا ألح طالب العلم على الأصول فتح له بابها، وإذا ألح على المصطلح فتح له بابه، ولا بد من الصبر حتى ينال طالب العلم ما يريد.
وحتى يتيسر طلب العلم ويسهل على طالبه فلابد من التدرج فيه، فإذا أراد أن يدرس العقيدة مثلًا فليبدأ بكتاب لمعة الاعتقاد، فهو كتاب نافع للمبتدئين، وإذا أراد أن يدرس القواعد الفقهية فليبدأ بدراسة أصول الفقه، فإن من ضيع الأصول ضيع الفقه.
ولن يصل طالب العلم إلى العلم إلا بالصبر، وإلا فسوف يعيش جاهلًا أو مقلدًا، وإذا أخطأ أو زل وهو على هذه الحالة فخطؤه محسوب عليه، وليس كالعالم الذي إذا أخطأ كتب له أجر، وإذا أصاب كتب له أجران.
3 / 2