Fiqh al-Sunnah
صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة
Mai Buga Littafi
المكتبة التوفيقية
Inda aka buga
القاهرة - مصر
Nau'ikan
صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة
أعده أبو مالك كمال بن السيد سالم
مع تعليقات فقهية معاصرة
فضيلة الشيخ/ ناصر الدين الألباني
فضيلة الشيخ/ عبد العزيز بن باز فضيلة الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين
الجزء الأول
1 / 1
قال تعالى:
﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [سورة التوبة: ١٢٢]
وقال ﷺ:
«من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» [متفق عليه].
1 / 2
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة فضيلة الشيخ/ فؤاد سراج عبد الغفار - حفظه الله-
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، ومعلمًا ومرشدًا للخلق أجمعين.
وبعد:
لقد تصفحت كتاب [صحيح فقه السنة] لأخي الفاضل/ أبى مالك كمال بن السيد، حفظه الله تعالى ورعاه، ورزقه العلم النافع والعمل الصالح، فوجدته جمع فيه من الأدلة الصحيحة ما لا يوجد في غيره من كتب الفقه التي حوت الضعيف والصحيح، فهو كتاب يستحق شد الرحال إليه لكل من أراد التفقه في الدين، وأنصح كل مسلم ومسلمة أن يقتني هذا الكتاب لما فيه من علم جم أخذ من المؤلف جهدًا ذهنيًا وجسديًا وسهر الليالي لتتبع الأدلة الصحيحة في مسائل الخلاف ويخرجها لك سهلة ميسرة، والأخ كمال قد تربى بيننا صغيرًا ومنذ نعومة أظفاره كان يسأل أسئلة فقهية سابقة لسنه، فتوقعت له خيرًا كثيرًا بالتفقه في الدين، وأصبح توقعي حقيقة فقد رزقه الله الفقه في الدين، وهذا الكتاب الذي بين يديك أكبر شاهد على ذلك.
والمؤلف يستحق التقدير والشكر والدعاء على هذا التأليف النافع والجمع النفيس القيِّم في الثقة.
و«من يرد الله بن خيرًا يفقهه في الدين» [متفق عليه].
فهنيئًا لك هذا الخير الذي يستحق الشكر لله حتى يأتيك اليقين، وأسأل الله تعالى أن ينفع بهذا الكتاب مؤلفه وقارئه، إنه سميع مجيب.
والحمد لله أولًا وأخيرًا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى أله وصحبه وسلم.
وكتبه
أبو عبد الرحمن/ فؤاد بن سراج عبد الغفار
1 / 3
مقدمة المؤلف
الحمد لله على آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في أرضه وسمائه، وأشهد أن محمدً عبده ورسوله وخاتم أنبيائه، صلى الله عليه وعلى وآله وأصحابه صلاة دائمة إلى يوم لقائه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد تتابعت كلمة عامة علماء الإسلام في فواتح مؤلفاتهم، وكريم مدوناتهم لجملة من علوم الشريعة الموقرة، وفنونها المشرَّفة، على أن شرف العلم تابع لشرف معلومه، وكرامة عرقه مؤثرة على مولوده.
وقد حصل بالتتبع والاستقراء اتفاق كلمتهم على أن من أشرف العلوم جميعًا، وأعظمها خيرًا ونفعًا: علم أحكام أفعال العبيد، المشتهر بعد باسم «الفقه الإسلامي» المشمول في عموم قول النبي ﷺ: «من يرد الله به خيرًا يفقهه بالدين» (١). وقد خص بالدعوة بالفقه في الدين: ربيب بيت النبوة عبد الله بن عباس ﵄ في قوله ﷺ: «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل».
فصار ببركة دعاء النبي ﷺ: ترجمان القرآن وحبر الأمة وبحرها الذي لا ينزف.
وعظمة هذا العلم وشرفه تَجل عن الوصف والإحاطة؛ ذلك أنها أحكام تساير المسلم وتلازمه في عموم مسالك حياته فيما بينه وبين ربه؛ وفيما بينه وبين عباده.
فيها يشد حبل الاتصال بعبادة ربه في علانيته وسره؛ من طهارة وصلاة، وزكاة وصيام وحج ونسائك.
وبها ينشر راية الإسلام، ويرفع منار القرآن وذلك في فقه الجهاد، والمغازي، والسير، والأمان، والعهد ونحو ذلك.
وبها يتطلب الرِّزق المباح، ويبتعد عن مواطن الإثم والجناح، وذلك في فقه
_________
(١) متفق عليه. من حديث معاوية ﵁.
1 / 5
المعاملات من بيع وشراء، وخيار، وربا، وصرف، وما جرى مجرى ذلك لا يرتبط بمعاملات الخلق المالية لبعضهم مع بعض.
وبها يُجرى الأموال في وظائفها الشرعية من وقف ووصية ونحوهما من أحكام التصرفات المالية.
وبها يقف على فقه الفرائض المحكمة فيسعد بنصف العلم، وتستقر أموال في يد أربابها على أعدل قسمة وأتم نظام.
وبفقهها ينعم بالحياة الزوجية الشرعية، وما يلحق بها من الأحكام، وما يتعلق بها من طلاق ونحوه.
ويحيط بمدى محافظة الإسلام على ضروريات الحياة المشمولة باسم: الجنايات والدِّيات والحدود والتعزيزات؛ فيعيش في أمن وأمان، وراحة بال واستقرار.
وهكذا في أحكام الأطعمة والنحائر والأيمان، وفى مباحث التقاضي وقواعده وطرقه وأحكامه موطن تحقق العدالة وفصل الخصام؛ فتقر الحقوق في أنصبائها وتعاد الظلامات إلى أهلها.
ولجلائل هذه النعم تسابق العلماء في تدوين الفقه الإسلامي، فقعدوا القواعد، وأصلوا الأصول، واستنبطوا الأُلوف المؤلفة من الفروع في آلاف المجلدات.
وهؤلاء الأجلة من العلماء على تنوع مؤلفاتهم الفقهية وتزاحم هممهم العليَّة تختلف مدوناتهم باختلاف مشاربهم واتجاه فقههم.
فمنهم من ألف في دائرة مذهبه وما زاد.
ومنهم من ألف في دائرة المذاهب الفقهية المنتشرة في الأمصار.
ومنهم من كان كذلك مبينًا أدلة الخلاف ووجوه الاستدلال.
ومنهم رعيلٌ ألف على سبيل الاجتهاد والتحقيق، والنظر العميق؛ فحرر الوقائع وبين النوازل، وساق لها صنوف الأدلة من مشكاة النبوة، سائرًا مع السنن حيث سارت ركائبها، متجها معها حيث كانت مضاربها، فأخرجوا بذلك للناس علمًا جمًا، وفكرًا خصبًا جاريًا على أسعد القواعد وأرشدها.
1 / 6
وهذا النوع من الفقه هو أصلًا حظ أصحاب النبي ﷺ ألقوه إلى التابعين لهم بإحسان، وهكذا تلقفه من تبعهم بالحسنى فدونوه على هذا النمط الكريم والمنهج السليم (١).
وهدا النوع من الفقه في الدين هو ما عناه ابن القيم- رحمه الله تعالى- في فاتحة «تهذيب السنن» بقوله (٢):
«فإن أولى ما صرفت إليه العناية، وجرى المتسابقون في ميدانه إلى أفضل غاية تتنافس فيه المتنافسون، وشمَّر إليه العاملون: العلم الموروث عن خاتم المرسلين، ورسول رب العالمين، الذي لا نجاة لأحد إلا به، ولا فلاح له في داريه إلا بالتعلق بسببه، الذي من ظفر به فقد فاز وغنم، ومن صرف عنه فقد خسر وحُرم؛ لأنه قطب السعادة الذي مدارها عليه، وآخيَّة الإيمان الذي مرجعه إليه، فالوصول إلى الله وإلى رضوانه بدونه محال، وطلب الهدى من غير هو عين الضلال، وكيف يوصل إلى الله من غير الطريق التي جعلها هو سبحانه موصلة إليه، ودالة لمن سلك فيها عليه، بعث رسوله بها مناديًا، وأقامه على أعلامها داعيًا، وإليها هاديًا؛ فالباب عن السالك في غيرها مسدود، وهو عن طريق هداه وسعادته مصدود، بل كلما ازداد كدحًا واجتهادًا، ازداد من الله طردًا وإبعادًا، ذلك بأنه صدف عن الصراط المستقيم، وأعرض عن المنهج القويم، ووقف مع آراء الرجال، ورضى لنفسه بكثرة القيل والقال، وأخلد إلى الأرض التقليد، وقنع أن يكون عيالًا على أمثاله من العبيد، لم يسلك من سبل العلوم مناهجها، ولم يرتق في درجاته معارجها، ولا تألقت في خلده أنوار بوارقه، ولا بات قلبه يتقلب بين رياضه وحدائقه، لكنه ارتضع من ثدي من لم تطهر بالعصمة لبانه، وورد مشربًا آجنًا طالما كدره قلب الوارد ولسانه، تضح منه الفروج والدماء والأموال، إلى من حلَّل الحلال وحرم الحرام، وتعج منه الحقوق، إلى منزِّل الشرائع والأحكام، فحق
_________
(١) في كشف هذا الطور الفقهى البناء انظر: «إعلام الموقعين» (١/ ٥ - ٦ وما بعدها). وكتاب «الفكر السامي في تاريخه الفقه الإسلامى» للحجوى.
(٢) انظر: «تهذيب سنن أبى داود» (١/ ٥ - ٧) طبع سنة ١٣٦٧ هـ بمطبعة أنصار السنة المحمدية بمصر، بتحقيق الشيخين أحمد شاكر، ومحمد الفقهى. وانظر في هذا المعنى: كتاب «الأحكام» لابن حزم: (٦/ ١٠٣، ١٢٥).
1 / 7
على من كان في سعادة نفسه ساعيًا، وكان قلبه حيًا واعيًا بنفسه عن أن يجعل كده وسعيه في نصرة من لا يملك له ضرًا ولا نفعًا، وأن ينزلها في منازل الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فإن لله يومًا يخسر فيه المبطلون، ويربح فيه المحققون ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ (١)، ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ (٢)،
فما ظن من اتخذ غير الرسول إمامه، ونبذ سنته وراء ظهره، جعل خواطر الرجال وآراءها بين عينه وأمامه، فسيعلم يوم العرض أي بضاعة أضاع، وعند الوزن ماذا أحضر من الجواهر أو خرثى المتاع» اهـ (٣).
ومن هنا اشتدت العزيمة، ويممت قبلة القصد إلى جمع كتاب في أبواب الفقه على نسق استحسنته (٤)، رجاء أن أنال الخيرية من الفقه في الدين.
وقد دفعني إلى جمعه على هذا النسق وتلك الطريقة ثلاثة أمور:
الأول: بعض السلبيات في الكتب الفقهية القديمة، سواء من حيث الشكل أو من حيث المضمون والمحتوى (٥):
(أ) فمن حيث الشكل وطريقة الترتيب والتبويب، فإن الموضوعات في بعض هذه الكتب تتداخل تداخلًا يصعب معه -أحيانًا- العثور على المسألة المطلوبة حتى على بعض المختصين، لا سيما مع عدم وجود الفهارس الموضوعية التي تُيسِّر على الباحث مهمته، في أكثرها.
ومن حيث الأسلوب، فأسلوبها -وإن ناسب العصر الذي كتبت فيه- إلا أنه مما يعسر فهمه على المعاصرين وما يلحظ فيه: ضغط العبارة وحصر المعنى الواسع في لفظ قليل موجز، يصل إلى التعقيد والركاكة، وهذا يوجد في المتون والمختصرات التي كثرت في المتأخرين وصارت عمدة الدارسين والمتفقهين.
_________
(١) سورة الفرقان، الآية: ٢٧.
(٢) سورة الإسراء، الآية: ٧١ ..
(٣) مقتبس من مقدمة العلامة بكر أبي زيد -حفظه الله- في «تقريب علوم ابن القيم» ص ١٠ - ١٤.
(٤) سأبين مسلكي في هذا الكتاب قريبًا إن شاء الله.
(٥) «ضوابط للدراسات الفقهية» للشيخ سلمان حفظه الله (ص: ٣٣ - ٣٨) بتصرف يسير.
1 / 8
وكثرة استعمال العبارات الاصطلاحية ذات الدلالة التاريخية التي لا يفهمها إلا من عاصر مدلولها.
(ب) ومن حيث المضمون والمحتوى: فمن هذه الكتب ما ألف في عصر له ظروف خاصَّة، فكانت تعنى بدراسة مشكلات ذلك العصر، وتأتى العصور التالية لها بمشكلات جديدة.
كما أن من هذه الكتب- وخاصة المتأخرة- ما يكون تركيزه على تحرير المذهب الذي ألفت فيه، دون أن يُعطى الاستدلال حقه، ودون مقارنة أو ترجيح.
هذا فضلًا عن أن عددًا كبيرًا من الكتب المذهبية غلب عليها داء التعصب المذهبي المقيت، والالتزام المطلق بالمذهب، سواء ما كان منه من نص الإمام ذاته، أو من زيادات أصحابه وتلاميذه، أو من اختيارات البارزين فيه، أو ما كان مخرَّجًا على أحد هذه المصادر!! هذا فضلًا عما يكثر في هذه الكتب من إيراد الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ودون الإشارة إلى ضعفها.
الثاني: وجود كثير من السلبيات في كتب الفقه المعاصرة، فهذه الكتب وإن تميزت بجودة الترتيب والتبويب وملاءمة روح العصر، وقرب تناولها من الباحث وأحيانًا من القارئ العادي، وإن كان بعضها لم تسيطر عليها روح العصبية المذهبية؛ فإنها يشوبها سلبيات كثيرة- بل وخطيرة أحيانًا- فيما يتعلق بالمضمون والمحتوى والنتائج التي يتوصل إليها البحث خاصة وأنها قد تطرق مسائل جديدة وقضايا نازلة، ومن ذلك:
١ - الضعف العلمي وعدم هضم التراث الفقهي والحديثي الذي يعتبر قاعدة للانطلاق في الدراسة والفتوى والتأليف، فنرى من يخالف ما أجمع عليه المسلمون خلفًا عن سلف، أو يؤيد رأيًا شاذًا منبوذًا تجاوزه الزمن، أو يُنقِّب في فقه الرافضة أو من شاكلهم على بعض الآراء تروق له، ويقدمها للمسلمين على أنها فقه الإسلام، ورأي علماء المسلمين!! (١).
٢ - أن بعضها مشحون بأقوال العلماء دون العناية بالاستدلال لهذه الأقوال وترجيح الراجح منها، فيظل الباحث والقارئ في حيرة من أمره، وربما نوَّه إليه
_________
(١) «ضوابط للدراسات الفقهية» (ص: ٤٥).
1 / 9
المؤلف بأن يختار من هذه الأقوال ما شاء، بحجة أن الكل مما قال به بعض العلماء (١).
٣ - عدم اهتمام أكثر مؤلفيها بصحة الدليل، ولا بالترجيح- إن رجَّح- على مقتضى أصول أهل العلم في ذلك.
٤ - افتقار بعضها إلى الأسلوب العلمي الفقهي، حتى أن بعضها قد كتب بطريقة خطابية لا ترى عليها مسحة العلم!!.
٥ - تأثر هذه الكتب- أحيانا- بالأقاويل والشبهات التي يطلقها أعداء الإسلام، وأصبحت بعض القضايا كالسلم والحرب والجزية والعلاقات الدولية ومعاملة الذميين والمشركين، وقضايا الحكم والرق وتعدد الزوجات وغيرها لا تطرق إلا من خلال منطق ضعيف، لأنه في موقف «الدفاع» الذي يجرُّه الحرص على تبرئة ساحة الإسلام إلى نفس بعض الحقائق الثابتة، أو نسبة بعض الآراء الغريبة إلى الإسلام (٢).
٦ - كما تتأثر هذه الكتب بواقع الأمة الشاردة- في الجملة- عن هدى ربنا وسنة نبيها ﷺ، فتلتمس للناس المعاذير والمسوِّغات التي تهوِّن شأن المنكرات والمحرمات، وتستجيب لضغط الواقع وثقله على النفس البشرية، فتؤول النصوص الصريحة، وتضعِّف الآثار الصحيحة!! (٣).
٧ - وحين تدرس الكتب المعاصرة القضايا الجديدة النازلة، يبلغ بها الشطط مبلغه باعتبار أن هذه القضايا لم يسبق أن تحدث فيها العلماء، وأنها مما يمس الواقع، وقد يلتبس في هذه القضايا الحق بالباطل، مع كون حاجة الناس إليها قائمة في غيبة المنهج الإسلامي الصحيح، وإذا نظرنا إلى ما كتب في موضوع التأمين أو المعاملات المصرفية الجديدة، أو طفل الأنبوب، أو سواه، لوجدنا العجب العجاب (٤).
هذا على معظم الكتب المعاصرة إنما هي دراسات متخصصة تتناول
_________
(١) سيأتي قريبًا التنبيه على هذه المسألة.
(٢) «ضوابط للدراسات الفقهية» (ص: ٤١، ٤٢).
(٣) «السابق» (ص: ٤٢).
(٤) «السابق» (ص: ٤٧).
1 / 10
أغبلها موضوعًا واحدًا، وأما العمل الفقهي المتكامل فهو وإن وجد فلا يخلو من معظم السلبيات المتقدمة.
الأمر الثالث: المعركة المشتعلة، والنفرة المصطنعة بين المحدثين والفقهاء:
فقد رأيت كثيرًا من إخواننا من طلاب الحدث ينصرفون عن تلقي علم الفقه، مقبلين على علم السنة المطَّهرة رواية دون دراية، ورأيت جُلَّ طلاب الفقه معرضين عن تلقي علم الحديث ومعرفة أسانيده، وحفظ متونه، مع انكبابهم على كتب المذاهب الفقهية وحفظ مختصراتها، وهذه النفرة كانت واقعة منذ قدم العهد يثيرها كتبةُ الحديث وصغار المتفقهة، لقصر نظرهم، فيتبادلون الغمز واللمز، قال الخطابي (١) ﵀ المتوفى سنة (٣٨٨ هـ): «ورأيت أهل زماننا قد حصلوا حزبين، وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة، لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا من بناء وعمارة فهو قفر وخراب، ووجدت هذين الفريقين على ما بينهم من التداني من المحلين، والتقارب في المنزلين، وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم إلى صاحبه - إخوانًا متهاجرين، وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين، فأما هذه الطبقة الذين هم أهل الأثر والحديث، فإن الأكثرين منهم إنما كدهم الروايات وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مقلوب، لا يراعون المتون، ولا يفقهون المعاني، ولا يستنبطون سيرها، ولا يستخرجون ركازها وفقهها، وربما عابوا الفقهاء وتناولوهم بالطعن، وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أوتوه من العلم قاصرون، وبسوء القول فيهم آثمون.
وأما الطبقة الأخرى، وهم أهل الفقه والنظر، فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقلِّه، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيِّده من رديئه، ولا يعبأون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق
_________
(١) «معالم السنن» (١/ ٧٥).
1 / 11
مذاهبهم التي ينتحلونها، ووافق آراءهم التي يعتقدونها، وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم، وتعاورته الألسن فيما بينهم من غير تثبت فيه أو يقين علم به، فكان ذلك زلة من الراوي أو عيًّا فيه ...» اهـ.
والحق أن الحديث والفقه أخوا صفاء، وقرينا وفاء، ولذلك قال ابن المديني ﵀: «التفقه في معاني الحديث نصف العلم، ومعرفة الرجال نصف العلم» (١) فهما للعالم كالجناحين للطائر.
قال الشوكاني (٢): «والمتصدر للتصنيف في كتب الفقه -وإن بلغ في إتقانه وإتقان علم الأصول وسائر الفنون الآلية إلى حدٍّ يتقاصر عنه الوصف- إذا لم يتقن علم السنة، ويعرف صحيحه من سقيمه، ويُعوِّل على أهله في إصداره وإيراده، كانت مصنفاته مبنية على غير أساس، لأن علم الفقه هو مأخوذ من علم السنة إلا القليل منه، وهو ما صرَّح بحكمه القرآن الكريم، فما يصنع ذو الفنون بفنونه إذا لم يكن عالمًا بعلم الحديث، متقنًا له، معولًا على المصنفات فيه؟!» اهـ.
ولهذا كان أعدل المذاهب وأقواها في دقائق الفقه ومسائله مذهب المحدثين، لأنهم نهلوا من معين النبوة، واقتبسوا من مشكاة الرسالة، فعليها وردوا، وعنها صدروا (٣).
«وأقبح بمحدِّث يُسأل عن حادثة فلا يدري، وقد شغله عنها جمع طرق الأحاديث، وقبيح بالفقيه أن يقال: ما معنى قول رسول الله كذا، فلا يدري صحة الحديث ولا معناه» (٤).
وقد كان دأب السلف وطريقتهم أن يضموا إلى الرواية الدراية، وإلى الدراية الرواية، وبهذا أوصوا، فعن مصعب الزبيري قال: سمعت مالك بن أنس قال لابني أخته، أبي بكر وإسماعيل ابني أبي أويس: «أراكما تحبان هذا الشأن وتطلبانه
_________
(١) «الجامع لأخلاق الراوي والسامع» للخطيب (٢/ ٢١١).
(٢) «أدب الطلب» (ص ٤٥ - ٤٦).
(٣) «تذكرة الحديثي والمتفقِّه» لصالح العصيمي (ص: ٦).
(٤) «صيد الخاطر» لابن الجوزي (ص: ٣٩٩ - ٤٠٠).
1 / 12
-يعني: سماع الحديث- قالا: نعم، قال: «إن أجبتما أن تنتفعا به، وينفع الله بكما، فأقلا منه وتفقَّها» (١).
قلت: فما أحوجنا إلى فقه مأخوذ من صحيح السنة والأثر، بفهم سلف الأمة وفقهائها، جاريًا على أصول أهل العلم.
[المسلك في هذا الكتاب]
وبعد:
فكانت هذه الأمور الثلاثة مما دفعني إلى الإقدام على تأليف هذا الكتاب الذي أسأل الله أن ينفع به الإسلام والمسلمين، وأن يجعله خطوة على طريق الفقه في دينه، وأن يجنبني فيه ما انتقدتُ من سلبيات رأيتها في غيره، والتي لا أدعي لنفسي العصمة من نظائرها.
وقد سلكتُ في هذا الكتاب ما يلي:
١ - رتَّبتُ كتبه وأبوابه على نمط قريب من معظم كتب الفقه، مع شيء يسير من الاختلاف، حيث بدأتُ بقسم العبادات والذي يحتوي على كتاب الطهارة، والصلاة والجنائز والزكاة والصيام والحج، وألحقت بها ما يتصل بالعبادات: ككتاب الأيمان والنذور، والأطعمة والأشربة، والصيد والذبائح ونحوها.
ثم أتبعتُه بقسم أحكام الأسرة (الأحوال الشخصية) وما يتعلق بها، ككتاب اللباس والزينة وأحكام النظر، والمواريث.
ثم كتاب الحدود، والجنايات والديات، ثم البيوع ... وهكذا.
٢ - وقد مهَّدت لهذه الكتب بمقدمة في نشأة المذاهب وأسباب اختلاف العلماء ومسائل تتعلق بالتقليد ونحو ذلك، مما ينبغي لطالب العلم معرفته قبل الشروع في دراسة الفقه.
٣ - وقد اجتهدت في ترتيب مواضيعه، وصياغتها بأسلوب سهل واضح، يناسب الباحث والقارئ العادي، ومع هذا راعيت قدر الإمكان أن تكون عباراته
_________
(١) «المحدث الفاضل» للرامهرمزي (ص ٢٤١)، و«نصيحة أهل الحديث» للخطيب (ص ٣٧) عن «تذكرة الحديثي والمتفقه» (ص: ٢٨).
1 / 13
قريبة من عبارات الفقهاء في دقتها ودلالتها على المقصود وربما أختار العبارة المُثلى مما أقف عليه في المراجع الفقهية المختلفة.
٤ - وقد رتبتُ مسائله ترتيبًا مستلسلًا منطقيًّا، حسب تواردها على ذهن القارئ، لتكون أقرب متناولًا، وأيسر مأخذًا.
٥ - وقد عنيت بوضع العناوين التفصيلية التي تدل على المراد بوضوح، إضافة إلى العناوين الكلية التي تحدد موضوع الأبحاث، وتفرز الموضوعات بعضها عن بعض، وترتب الأفكار داخل الموضوع الواحد.
٦ - وقد بذلت وسعى في الاستدلال لكل مسألة بكتاب الله -إن أمكن- وسنة رسوله ﷺ الثابتة عنه، بعد جمع الأدلة فيها وتنقيحها والحكم على أحاديثها بما تستحقه صحة وضعفًا، مع إثبات ذلك في الحاشية مختصرًا بقدر الإمكان، وإن كان في المسألة إجماع ذكرته معزوًّا إلى ناقله.
٧ - وإن كانت المسألة خلافية -وهو الغالب على مسائل الفقه- فإنني أورد الخلاف ولا أهمله، وكيف لا أفعل، وقد قال قتادة: «من لم يعرف الاختلاف، لم يشم الفقه بأنفه» (١).
وذلك أن الجهل بالخلاف قد يؤدي إلى رد بعض الحق الذي لا يعلمه، إذ الحق غير منحصر في قول فرد من العلماء كائنًا من كان، ولذا روى عثمان بن عطاء عن أبيه قوله: «لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالمًا باختلاف الناس، فإنه إن لم يكن كذلك ردَّ من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه» (٢).
فإن كان الخلاف في المسألة معتبرًا قويًا، كانت طريقتي في عرضه: أن أذكر كل قول، والقائلين به من أهل العلم معتمدًا في نقل آرائهم على كتب الإمام نفسه -إن أمكن- وإلا فعلى كتب المذهب المعتمدة لدى علمائه، مع إثبات توثيق هذه الآراء في الحاشية.
ثم أسوق ما وقفتُ عليه من حُجج لهذا القول، مع إبداء وجه الدلالة من الدليل -إن لم يكن ظاهرًا- وأحيانًا أُتبع كل دليل بما اعترض عليه وأُجيبَ عنه به من الفريق الآخر إتمامًا للفائدة.
_________
(١) «جامع بيان العلم وفضله» (٢/ ٤٦).
(٢) «جامع بيان العلم وفضله» (٢/ ٤٦).
1 / 14
ثم أفعل هذا مع كل قول من أقوال العلماء في المسألة.
٨ - ولا أكتفي بمجرد نقل هذه الأقوال وسرد أدلتها، لأن مجرد عرضها دون ترجيح يوقع القارئ في الحيرة واضطراب، من جهة أن الباحث الذي جمع الأقوال ونقَّب عنها لم يُرجِّح، فالغالب أن غيره لا يملك ذلك من باب أولى، بل أحرص على تفهُّم الأقوال وتمحيصها سندًا ومتنًا، ودلالة وأقارن بعضها ببعض، وإجراء ذلك على أصول أهل العلم ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، بغرض الوصول للقول الناجح مع غير تعصُّب لأحد كائنًا من كان، فالباحث المنصف، إنما يبحث عن الحق، وعن مراد الله تعالى، ومراد رسوله ﷺ، ولا يعنيه بعد ذلك إن وافق قول فلان أو فلان، خاصة وأنه إنما يخرج من قول إمام إلى قول إمام آخر.
وقد التزمت في ذلك أن أكون وراء نصوص الشريعة، أسمع منها وأصغى إليها وأفهم مرادها، فلا أسبقها بالقول، ولا أقوِّلها ما لم تقل، ولا أحملها ما لا تحتمل، ولا أطوِّعا على ما تشتهي النفس أو يشتهي ألناس.
والمقصود أنني أحاول الترجيح بمقدار ما بلغت إليه الملكة إن ظهر لي وجه معتبر في الترجيح، فإذا لم يتبين لي وجه الصواب توقفتُ، إذ لا يجوز الترجيح بغير دليل ود برهان.
قال ابن عبد البر- ﵀: «والواجب عند اختلاف العلماء طلب الدليل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس على الأصول منها وذلك لا يعدم، فإن استوت الأدلة وجب الميل مع الأشبه بما ذكرنا بالكتاب والسنة، فإذا لم يبن ذلك وجب التوقف، ولم يجز القطع إلا بيقين» (١).
وربما أختار قولين قويين من بين مجموع الأقوال، أو أضعِّف ما ظهر لي تضعيفه من الأقوال، فهدا ترجيح جزئي، وهو يقرب المسألة.
أما إذا كانت كفة أحد القوال راجحة بجلاء على غيرها، فإنني أذكر القول القوى بألته الدامغة، مع ذكر القائلين به، على النحو الذي تقدم، ثم أشير إلى الخلاف باختصار، وربما أهمله إذا كان قولًا ساقطًا متهالكًا لا ينبغي الاشتغال بنقله وحكايته إلا لفائدة.
_________
(١) «جامع بيان العلم» (١/ ٨٠).
1 / 15
وقد حرصت في اختياراتى ألا أخرج عن مجموع أقوال السلف، فلم آت بقول مبتكر مبتدع لم أسبق إليه، إذ أن اختصار السلف على هذه الأقوال يعتبر إجماعًا منهم على أن الحق محصور فيها لا يخرج عن جملتها، وإن اختلفوا في أيها وافق الحق، فلا يظن أن يخفى الحق على جميع الأمة في عصر من العصور.
ولا يفوتني أن أُنَبِّه على أن هذه الاختيارات لا تلزم أحدًا غيري، وإن كان ربما يستفيد منها من لا ملكة له على الترجيح، وأما طالب العلم القادر على الترجيح فإنه يكفيه أنى جمعتُ له شتات المسألة، فله أن يرجِّح ما تبين له صوابه من غير حجر عليه، فإن وقف على كلامي ذكى لا يستقويه، فالأولى به أن ىخفض لي جناح الذل من الرحمة، وأن يشكر الله على ما فضَّله به عليَّ من الحكمة، وكلما ازداد فقه المرء في دين الله ﷿، زاد رفقُه على المخالفين الذين ثم يكونوا يريدون غير الحق.
وقد درجت على هذا النسق وذلك المنوال في جل الكتاب، حتى إذا كنت في أوائل كتاب البيوع اضطررت للسفر، في حين يُلحُّ الناشر- جزاه الله خيرًا- على نشر الكتاب، فاستخرت الله تعالى أن أرفق بالكتاب بحثًا مختصرًا في «البيوع المحرمة» كان أعدَّه أخونا وحبيبنا الشيخ فؤاد سراج- حفظه الله- وليس هو جاريًا على شرطي في الكتاب من إيراد الخلاف والترجيح بين الأقوال؛ وما لا يدرك كلُّه لا يترك جُلُّه، وأما بحث هذه المسائل على شرطي فإنه يحتاج إلى جهد وفير ووقت طويل وعناية خاصة، لا سيما وفى مباحث هذا الكتاب كثير من المسائل الجديدة النازلة، وقد كنت شرعت في هذا فعلًا، لولا ما قدَّره الله من الاضطرار إلى السفر، فأرجو أن يقبل القارئ عذري، على أنى ماضٍ بمشيئة الله في إتمام ذلك، وإضافة أبواب أخرى في طبعة قادمة أن شاء الله تعالى.
هذا ولا يفوتني أن أقدم شكري وخالص دعائي لكل من أعاننى بشيء في إتمام هذا العمل وخروجه على هذه الهيئة، من إعداد مسألة أو إعارة كتاب، أو كتابة أو نسخ، أو جمع أو طباعة، أو مراجعة تجارب وأخصُّ منهم أخانا وشيخنا فؤاد سراج، بارك الله في علمه وعمله وذريته، وأخانا وحبيبنا الشيخ هاني الحاج رفع الله قدره، وأخويَّ المباركين: مصطفى الشامي وفيصل عبد الواحد، حفظهما الله،
1 / 16
والأخ الفاضل سيد فتحي، سائلًا الله تعالى أن يجزل لهم المثوبة والعطاء، وأن يجمعنا بهم في الجنة دار البقاء.
وقد سميت هذا الكتاب «صحيح فقه السنة وتوضيح مذاهب الأئمة» وليس يضرني وقوف أهل المعرفة على ما لي من التقصير، ومعرفتهم أن باعي في هذا الميدان قصير، فلئن أخطئ فمن الذي عُصِم؟! ولئن أُخَطَّا فمن الذي وُصِمَ؟!
وأعلمُ أن الخطأ والزلل، هما الغالبان على من خلق الله من عجل، فإن أصبتُ فمن الله وحده، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأتمثل قول الشاعر:
لقد مضيت وراء الركب ذا عَرَجِ ... مؤمِّلًا جبر ما لاقيتُ من عَرَج
فإن لحقتُ بهم من بعد ما سبقوا ... فكم لرب الورى في الناس من فرِجِ
وإن ضللتُ بقفر الأرض منقطعًا ... فما على أعرج في الناس من حَرَجِ
وأسأل أل الله تعالى أن ينفعني وإخواني من طلاب العلم بهذا العمل، وأن يخلص نيتي فيه لوجهه، فإن القلوب بيده وأن لا يجعل لأحد من خلقه فيه نصيبًا وأن ينفعني به يوم ألقاه ﴿يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (١).
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.
وكتبه
الفقير إلى عفو ربه المالك
كمال بن السيد سالم ... أبو مالك
_________
(١) سورة الشعراء، الآيتان: ٨٨، ٨٩.
1 / 17
تمهيد
نشأة علم الفقه (١)
[الفقه في عهد النبي ﷺ]
اعلم أن رسول الله ﷺ لم يكن الفقه في زمانه الشريف مدونًّا، ولم يكن البحث في الأحكام يومئذ مثل بحث هؤلاء الفقهاء، حيث يبينون بأقصى جهدهم الأركان والشروط والآداب، كل شيء ممتازًا عن الأخر بدليله، ويفرضون الصور من صنائعهم، ويتكلمون على تلك الصور المفروضة، ويحدون ما يقبل الحد، ويحرصون ما يقبل الحصر، إلى غير ذلك وإنما كان رسول الله ﷺ يتوضأ فيرى الصحابة وضوءه فيأخذون به من غير أن يبين: هذا ركن وذلك أدب، وكان يصلي فيرون صلاته، فيصلون كما رأوه يصلى، وحج فرمق الناس حجَّه، ففعلوا كما فعل.
وهذا كان غالب حاله ﷺ، ولم يبين أن فروض الوضوء ستة أو أربعة، ولم يفرض أنه يحتمل أن يتوضأ إنسان بغير موالاة حتى يحكم عليه بالصحة أو الفساد، إلا ما شاء الله، وقلما كانوا يسألونه عن هذه الأشياء.
وكان ﷺ يستفتيه الناس في الوقائع فيفتيهم، وترفع إليه القضايا فيقضى فيها، ويرى الناس يفعلون معروفًا فيمدحه، أو منكرًا فينكر عليهم، وما كل ما أفتى به مستفتيًا عنه وقضى به في قضية أو أنكره على فاعله كان في الاجتماعات، فرأى كل صحابي ما يسَّره الله له من عباداته وفتاواه وأقضيته، فحفظها وعقلها، وعرف لكل شيء وجهًا من قبل حفوف القرائن به، فحمل بعضها على الإباحة، وبعضها على الاستحباب، وبعضها على النسخ لأمارات وقرائن كانت كافية عنده. ولم يكن العمدة عندهم إلا وجدان الاطمئنان والثلج، من غير التفات إلى طرق الاستدلال، فانقضى عصره ﷺ وهم على ذلك.
_________
(١) هذا المبحث اختصرته من كتاب «الإنصاف» للدهلوى، مع شيء يسير.
1 / 18
[عهد الصحابة ﵃]
ثم إنهم تفرقوا في البلاد، وصار كل واحد مقتدى ناحية من النواحي، فكثرت الوقائع، ودارت المسائل، فاستفتوا فيها، فأجاب كل واحد حسب ما حفظه أو استنبطه، وإن لم يجد فيما حفظه أو استنبطه ما يصلح للجواب، اجتهد برأيه وعرف العلة التي أدار سول الله ﷺ عليها الحكم في منصوصاته، فطرد الحكم حيثما وجدها، لا يألو جهدًا في موافقة غرضه ﷺ.
[أسباب اختلاف الصحابة وصوره]
فعندئذ وقع الاختلاف بينهم على ضروب منها:
١ - أن يسمع صحابي حكمًا في قضية أو فتوى، ولم يسمعه الآخر، فيجتهد برأيه في ذلك، ويكون هذا على وجوه:
(أ) أن يقع اجتهاده موافقًا للحديث، ومثاله: ما جاء عن ابن مسعود أنه سئل عن امرأة مات عنها زوجها ولم يفرض لها، فقال: لم أر رسول الله ﷺ يقضى في ذلك، فاختلفوا عليه شهرًا وألحوا، فاجتهد برأيه، وقضي بأن لها مهر نسائها: لا وَكَسَ ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن يسار فشهد بأنه ﷺ قضى بمثل ذلك في امرأة منهم، ففرح بذلك ابن مسعود فرحة لم يفرح مثلها قط بعد الإسلام.
(ب) أن يقع بينهما المناظرة، ويظهر الحديث بالوجه الذي يقع به غالب الظن فيرجع عن اجتهاده إلى المسموع، ومثاله: أن أبا هريرة كان من مذهبه أنه من أصبح جنبًا فلا صوم له، حتى أخبرته بعض أزواج النبى ﷺ بخلاف مذهبه فرجع.
(جـ) أن يبلغه الحديث لكن لا على الوجه الذي يقع به غالب الظن، فلم يترك اجتهاده بل طعن في الحديث، ومثاله: أن فاطمة بنت قيس ﵂ شهدت عند عمر بن الخطاب بأنها كانت مطلقة ثلاثًا، فلم يجعل لها رسول الله ﷺ نفقة ولا سكنى، فردَّ شهادتها وقال: لا نترك كتاب الله بقول امرأة ندري أصدقت أم كذبت.
1 / 19
وقالت عائشة: يا فاطمة اتقي الله! تعني في قولها: لا سكنى ولا نفقة.
(ر) أن لا يصل إليه الحديث أصلًا، ومثاله: أن ابن عَمْرو وكان يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، فسمعت عائشة ﵂ بذلك فقالت: يا عجبًا لابن عمرو هذا، يأمر النساء أن ينقضن رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟! فقد كنت أغتسل أنا ورسول الله ﷺ من إناء واحد، وما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات.
٢ - أن يروا رسول الله ﷺ فعل فعلًا، فيحمله بعضهم على القربة وبعضهم على الإباحة:
ومثاله: أنهم رأوا النبي ﷺ يرمل في الطواف، فذهب جمهورهم إلى أن الرمل في الطواف سنة، وحمله ابن عباس على أنه إنما فعله ﷺ على سبيل الاتفاق لعارض عرض- وهو قول المشركين: حطمتهم حمى يثرب- وليس سنة.
٣ - اختلاف الوهم: ومثاله أن رسول الله ﷺ حجَّ فرآه الناس، فذهب بعضهم إلى أنه كان متمتعًا، وبعضهم إلى أنه كان قارنًا، وبعضهم إلى أنه كان مفردًا.
٤ - اختلاف السهو والنسيان: ومثاله ما رُوي: أن ابن عمر كان يقول: أعتمر رسول الله ﷺ عمرة في رجب، فسمعت عائشة بذلك فقضت عليه بالسهو.
٥ - اختلاف الضبط: ومثاله أن ابن عمر روى عن النبي ﷺ: «إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه» فقضت عائشة عليه بأنه وهم بأخذ الحديث على وجه: مرَّ رسول الله ﷺ على يهودية يبكى عليها أهلها فقال: إنهم يبكون عليها وإنها تعذب في قبرها، فظن أن العذاب معلول للبكاء، وظن الحكم عامًا على كل ميت.
٦ - الاختلاف في علة الحكم: مثاله: القيام للجنازة فقال قائل: لتعظيم الملائكة فيعم المؤمن والكافر، وقال قائل: لهول الموت فيعمهما، وقال قائل: مر رسول الله ﷺ بجنازة يهودي فقام لها كراهة أن تعلو فوق رأسه، فيخص بالكافر.
٧ - الاختلاف في الجمع بين المختلفين: ومثاله: نهى رسول الله ﷺ عن
1 / 20
استقبال القبلة في قضاء الحاجة فذهب قوم إلى عموم هذا الحكم وأنه غير منسوخ، ورآه جابر يبول قبل أن يتوفى بعام مستقبل القبلة فذهب إلى أنه نسخ للنهى المتقدم، ورآه ابن عمر قضى حاجته مستدبر القبلة فرَّد به قولهم إلى غير ذلك.
[الفقه في عهد التابعين]
وبالجملة فاختلفت مذاهب أصحاب النبي ﷺ، وأخذ عنهم التابعون كل واحد ما تيسر له، فحفظ ما سمع من حديث رسول الله ﷺ ومذاهب الصحابة وعقلها، وجمع المختلف على ما تيسر له، ورجح بعض الأقوال على بعض، واضمحل في نظرهم بعض الأقوال وإن كان مأثورًا عن كبار الصحابة، كما استفاض عندهم عن النبي ﷺ على خلافه.
فصار لكل عالم من التابعين مذهب على حياله، فانتصب في كل بلد إمام، مثل: سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله بن عمر في المدينة، وبعدها: الزهري ويحيى بن سعيد وربيعة بن عبد الرحمن فيها.
وعطاء بن أبى رباح بمكة، وإبراهيم النخعي والشعبي بالكوفة، والحسن بالبصرة، وطاووس بن كيسان باليمن ومكحول بالشام، فأظمأ الله أكبادًا إلى علومهم فرغبوا فيها، وأخذوا عنهم الحيث وفتاوى الصحابة وأقاويلهم، ومذاهب هؤلاء العلماء وتحقيقاتهم، واستفتى منهم المفتون، ودارت المسائل بينهم ورفعت إليهم الأقضية.
وكان ابن المسيب وإبراهيم النخعي وأمثالهما قد جمعوا أبواب الفقه أجمعها، وكان سعيد بن المسيب وأصحابه يذهبون إلى أن أهم الحرمين أثبت الناس في الفقه، وأصل مذهبهم فتاوى عمر وعثمان وقضاياهما، وابن عمر وعائشة وابن عباس وقضايا قضاة المدينة.
وكاد النخعي وأصحابه يرون أن عبد الله بن مسعود وأصحابه أثبت الناس في الفقه، فأصل مذهبهم فتاوى ابن مسعود وقضايا علي ﵁ وفتاواه، وقضايا شريح وغيره من قضاة الكوفة.
ونظر كل فريق فيما اجتمع لديه نظر اعتبار وتفتيش، فما كان منها مجتمعًا عليه بين العلماء فإنهم يأخذون عليه بنواجذهم، وما كان فيه أن اختلاف عندهم
1 / 21