مقدمة
1 - تعريف الفيلم الوثائقي
2 - الأنواع الفرعية
3 - خاتمة
مائة فيلم وثائقي رائع
مزيد من القراءة والمشاهدة
مقدمة
1 - تعريف الفيلم الوثائقي
2 - الأنواع الفرعية
3 - خاتمة
مائة فيلم وثائقي رائع
مزيد من القراءة والمشاهدة
الفيلم الوثائقي
الفيلم الوثائقي
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
باتريشيا أوفدرهايدي
ترجمة
شيماء طه الريدي
مراجعة
هاني فتحي سليمان
مقدمة
هذه المقدمة للأفلام الوثائقية موجهة لمحبي مشاهدة هذه النوعية من الأفلام الراغبين في معرفة المزيد عن هذا الشكل الفني، ولمن يودون صنع أفلام وثائقية ويرغبون في معرفة المزيد عن هذا المجال وآفاقه، وأيضا للطلاب والمعلمين الذين يأملون في تعلم المزيد وإخبار الآخرين بما تعلموه.
هذا الكتاب منظم بحيث يقدم نظرة عامة على القضايا الأساسية، ثم ينتقل لمناقشة الأنواع الفرعية المختلفة. فقد أردت على وجه الخصوص أن أستخدم أنواعا تستطيع مواجهة المخاوف المتعلقة بالموضوعية والمحاباة والتحيز، هذه الأشياء التي طالما أحاطت بالأفلام الوثائقية، ولكن بقوة متجددة منذ الشعبية الطاغية التي حظي بها فيلم «فهرنهايت 9 / 11». وقد كان بمقدوري أن أختار أو أضيف أنواعا أخرى بسهولة، مثل الموسيقى، والرياضة، والعمل، واليوميات، والطعام، لكن جاء اختياري للأنواع التي استخدمتها هنا لأنها أنواع شائعة في سوق الأفلام الوثائقية، ولأنها تطرح قضايا مهمة عن الحقيقة وتجسيد الواقع.
يتيح لك هذا التنظيم الموضوعي الدخول إلى الموضوع بسهولة من خلال نوعية الأفلام التي جذبتك إليها منذ البداية، ويتيح لي الربط بين الحقب التاريخية وإظهار الطبيعة المتطورة للخلافات الأساسية في مجال الأفلام الوثائقية. وربما يلاحظ هؤلاء الذين يفضلون تسلسلا زمنيا أكثر وضوحا أن كل فصل من الفصول التي تتناول الأنواع الفرعية منظم زمنيا (باستثناء فصل الدعاية الذي يركز إلى حد بعيد على فترة الحرب العالمية الثانية). لذا، بعد قراءة الفصول الأربعة الأولى التي تتناول القضايا الأساسية والتاريخ المبكر للأفلام الوثائقية، يمكن للقارئ أن يطالع الأجزاء الأولى من الفصول التي تتناول الأنواع الفرعية المتعددة، ثم العودة للجزء التالي من كل فصل من الفصول.
وحيث إن مادة الكتاب ليست مستقاة من المعرفة العلمية فحسب، ولكن من خبرتي كناقدة أفلام على مدى أربعة عقود، فإنها تعكس اهتماماتي ومواطن القصور لدي. والجزء الأكبر من المعرفة العلمية التي أشير إليها مكتوب باللغة الإنجليزية، وأنا متحيزة للأفلام الوثائقية الطويلة وأعمال صناع الأفلام المستقلين.
نبع انجذابي للأفلام الوثائقية في الأساس من وعد جذب الكثير من صناع الأفلام لذلك الشكل الفني؛ ذلك الوعد الذي وصفه المحرر والناقد البارز داي فون، في مقالة عن التهديد الذي تمثله المعالجة الرقمية للفيلم الوثائقي، بأنه «الإحساس الداخلي بأنه لو أتيح للناس أن يشاهدوا بحرية، لشاهدوا بإخلاص، ناظرين إلى عالمهم بأنه قابل للتدقيق والتقييم، وأنه على القدر نفسه من المطاوعة والمرونة التي يتسم بها الفيلم». وقد وجدت الإلهام في أعمال المخرجين أمثال ليز بلانك، وهنري هامبتون، وبيريو هونكاسالو، وباربرا كوبل، وكيم لونجينوتو، ومارسيل أوفيلس، وجوردون كوين، وأجنس فاردا.
وإنني ممتنة لإلدا روتور بأكسفورد يونيفرسيتي برس التي اقترحت علي فكرة تأليف هذا الكتاب، وسيبيل توم التي حملت على عاتقها مهمة تحرير الكتاب قبل مغادرتها، والمحررة ماري ساذرلاند. لقد أغدق علي كثير من زملائي، في برامج الدراسات السينمائية والسينما والاتصالات والأدب، بالرؤى التي أحاول الكشف عنها في هذا الكتاب. لذا أتقدم بخالص التقدير للدعم الذي حظيت به من العاملين بمكتبة الجامعة الأمريكية، خاصة كريس لويس. وأدين بالفضل لرون ساتون، مستشاري وناصحي بالجامعة الأمريكية، وكذلك لدين لاري كيركمان بكلية الاتصالات بالجامعة الأمريكية، الذي منحني شرفا لا يقدر بثمن بتقديمي لإريك بارنو، وأيضا باربرا أبراش التي فتحت أبوابا عديدة للأفكار والفرص. كذلك، كان لمشروعاتي مع مجلس المؤسسات (خاصة مع إيفلين جيبسون)، ومؤسسة فورد (خاصة مع أورلاندو باجويل) أثرها في تعميق معرفتي بالمجال. وإنني ممتنة كذلك لجوردون كوين، ونينا سيفي، وستيفان شوارتزمان، وجورج ستوني، ولمراجعين لا أعرف أسماءهم لتعليقاتهم خلال مرحلة إخراج النسخة النهائية من الكتاب.
الفصل الأول
تعريف الفيلم الوثائقي
التسمية
بدأت الأفلام الوثائقية في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر بعرض باكورة الأفلام من هذا النوع. والفيلم الوثائقي له أشكال عدة؛ فمن الممكن أن تكون رحلة عبر بلدان وأساليب معيشية غريبة، كما في فيلم «نانوك ابن الشمال» (1922)، ويمكن أن تكون قصيدة مرئية كقصيدة جوريس إيفينز «المطر» (1929)، وهي قصة تدور حول يوم ممطر، يصاحبها موسيقى كلاسيكية كخلفية، تعكس فيها العاصفة أصداء البنية الموسيقية. ويمكن أن تكون عملا فنيا للدعاية، فقد أخرج المخرج الروسي دزيجا فيرتوف - الذي صرح بأسلوب حماسي بأن السينما الروائية مسممة وهالكة، وأن المستقبل للأفلام الوثائقية - فيلم «الرجل ذو الكاميرا السينمائية» (1929) كدعاية لنظام سياسي ونوع من الأفلام.
فما الفيلم الوثائقي؟ إحدى الإجابات السهلة والتقليدية لهذا السؤال هي: ليس فيلما سينمائيا، أو على الأقل ليس فيلما سينمائيا بالمعنى الذي ينطبق على فيلم «حرب النجوم»، إلا عندما يكون فيلما ذا صبغة درامية، مثل فيلم «فهرنهايت 9 / 11» (2004)، الذي حطم جميع الأرقام القياسية للأفلام الوثائقية. وإحدى الإجابات الأخرى السهلة والشائعة هي: فيلم يخلو من الهزل، فيلم جاد، يحاول أن يعلمك شيئا ما، ما لم يكن من نوعية الأفلام التي على شاكلة فيلم ستاسي بيرالتا «العمالقة الراكبون» (2004)، الذي يأخذك في رحلة مثيرة عبر تاريخ التزلج على الماء. فالعديد من الأفلام الوثائقية أعدت بدهاء بهدف واضح هو الإمتاع. والحق أن معظم صناع الأفلام الوثائقية يعتبرون أنفسهم قاصين، لا صحفيين.
وربما تكون إحدى الإجابات البسيطة: فيلم عن الحياة الواقعية. وتلك هي المشكلة تحديدا: فالأفلام الوثائقية تدور «حول» الحياة الواقعية، لكنها ليست حياة واقعية، بل إنها ليست حتى نوافذ على الحياة الواقعية، إنها لوحات للحياة الواقعية تستخدم الواقع كمادة خام لها، ويعدها فنانون وتقنيون يتخذون قرارات لا حصر لها بشأن اختيار القصة، ولمن ستروى، والهدف منها.
لعلك تقول إذن: هو فيلم يسعى حثيثا لعرض الحياة الواقعية ولا يعالجها. ولكن على الرغم من ذلك، لا توجد طريقة لصناعة فيلم دون معالجة المعلومات؛ فاختيار الموضوع، والمونتاج، ومزج الصوت كلها نوع من المعالجات. قال الصحفي الإذاعي إدوارد آر مورو ذات مرة: «أي شخص يعتقد أن كل فيلم يجب أن يقدم صورة «متوازنة» لا يعرف شيئا عن التوازن ولا الصور.»
إن مشكلة تحديد قدر المعالجة قديمة قدم هذا الشكل الفني، ففيلم «نانوك ابن الشمال» يعتبر واحدا من أوائل الأفلام الوثائقية العظيمة، لكن أبطاله - وهم سكان الإسكيمو - يقدمون الأدوار بتوجيه من مخرج الفيلم روبرت فلاهرتي، مثلما يفعل الممثلون في أي فيلم روائي؛ فقد طلب منهم فلاهرتي أن يقوموا بأشياء ما عادوا يفعلونها، مثل صيد الفظ بالرمح، وصورهم جهلاء بأشياء كانوا يفهمونها، إذ يقضم «نانوك» - وهذا ليس اسمه الحقيقي - في الفيلم أسطوانة جراموفون في حيرة ممزوجة بالسعادة، ولكن الرجل كان في الواقع على دراية واسعة بالأجهزة الحديثة، بل كان يساعد فلاهرتي في فك وتجميع كاميرته بانتظام. بالإضافة إلى ذلك، بنى فلاهرتي قصته من واقع تجربة الإقامة سنوات مع سكان الإسكيمو، الذين سعدوا بالمشاركة في مشروعه وقدموا له الكثير من الأفكار للحبكة.
إن الفيلم الوثائقي يروي قصة عن الحياة الواقعية، قصة تدعي المصداقية. والنقاش بشأن كيفية تحقيق ذلك بصدق ونزاهة لا ينتهي أبدا في ظل وجود إجابات متعددة. لقد عرف الفيلم الوثائقي أكثر من مرة على مدار الزمن، من صناعه ومشاهديه، ولا شك أن المشاهدين يصوغون معنى أي فيلم من خلال الجمع بين المعرفة والاهتمام بالعالم وبين الشكل الذي يصور به المخرج هذا العالم. تقوم كذلك توقعات الجمهور على التجارب السابقة؛ فلا يتوقع المشاهدون التعرض للخداع والكذب، فنحن نتوقع أن تنقل إلينا أشياء صادقة عن العالم الواقعي.
نحن لا نطالب بأن تصور هذه الأشياء تصويرا موضوعيا، وليس بالضرورة أن تكون الحقيقة الكاملة، فقد يوظف مخرج الفيلم الجواز الشعري من آن لآخر، ويشير إلى الواقع إشارة رمزية (كأن ترمز صورة للمدرج الروماني لإجازة بأوروبا على سبيل المثال)، ولكننا نتوقع أن يكون الفيلم الوثائقي تجسيدا منصفا وصادقا لتجربة شخص ما مع الواقع. وذاك هو العقد المبرم مع المشاهد الذي كان يقصده المعلم مايكل رابيجر في نصه الكلاسيكي: «لا توجد قواعد في هذا الشكل الفني الناشئ، هناك فقط قرارات بشأن موضع ترسيم الحدود لما هو مقبول وكيفية الالتزام بالعقد الذي ستبرمه مع جمهورك.»
المصطلحات
ولد مصطلح «الفيلم الوثائقي» من رحم الممارسة المبكرة ولادة صاحبها الارتباك، فحين بدأ رواد الأعمال في أواخر القرن التاسع عشر لأول مرة في تسجيل أفلام لأحداث من واقع الحياة، أطلق البعض على ما كانوا يصنعونه اسم «أفلام وثائقية»، بيد أن المصطلح ظل غير ثابت لعقود. وأطلق آخرون على أفلامهم «تعليمية»، و«واقعية»، و«تشويقية»، وربما أشاروا لموضوع الفيلم، مثل «أفلام الرحلات». وقرر الاسكتلندي جون جريرسون أن يستخدم هذا الشكل الفني الجديد في خدمة الحكومة البريطانية، وصاغ مصطلح «وثائقي» بإطلاقه على عمل المخرج الأمريكي العظيم روبرت فلاهرتي «موانا» (1926)، الذي يؤرخ للحياة اليومية على إحدى جزر «ساوث سيز»، وقد عرف الفيلم الوثائقي بأنه «التجسيد الفني للواقع»، وهو التعريف الذي أثبت صموده؛ ربما لمرونته الشديدة.
تؤثر ضغوط التسويق على ما يعرف بأنه فيلم وثائقي، فحين عرض فيلم «الخط الأزرق الرفيع» (1988)، للمخرج الفيلسوف إيرول موريس في دور العرض، قلل مسئولو العلاقات العامة من أهمية كلمة «وثائقي» من أجل مبيعات التذاكر. يدور الفيلم حول قصة بوليسية معقدة: هل ارتكب راندال آدامز الجريمة التي حكم عليه بالإعدام على إثرها في تكساس؟ يعرض الفيلم الطبيعة المثيرة للشك لشهادة الشهود الأساسيين، وحين أعيد فتح القضية وضم الفيلم كدليل، أصبح للفيلم مكانة مهمة فجأة، واضطر موريس آنذاك إلى أن يؤكد أنه بالفعل كان فيلما وثائقيا.
على النقيض، كان الفيلم الأول لمايكل موور، «روجر وأنا» (1989)، الذي يمثل اتهاما قاسيا لشركة جنرال موتورز بالتسبب في الانهيار الاقتصادي لمدينة فلينت المعروفة بصناعة الصلب في ميتشجان، ويمثل نموذجا متميزا للكوميديا السوداء، مصنفا كفيلم وثائقي في الأساس. ولكن عندما كشف الصحفي هارلان جاكوبسون أن موور قد شوه تسلسل الأحداث، نأى موور بنفسه عن كلمة «وثائقي»؛ فذهب إلى أنه لم يكن فيلما وثائقيا بل فيلما سينمائيا، إنه عرض ترفيهي ليس لانحرافاته عن التسلسل الدقيق تأثير كبير على الفكرة الأساسية.
وفي التسعينيات، شرعت الأفلام الوثائقية في التحول إلى مجال تجاري كبير في كل أنحاء العالم، وبحلول عام 2004، بلغ حجم النشاط التجاري العالمي في مجال الأفلام الوثائقية التليفزيونية وحده 4,5 مليارات دولار سنويا. ازدهر أيضا تليفزيون الواقع و«المسلسلات الوثائقية»، وهي حلقات مسلسلة تصور في أماكن قد تتميز بالدراما العالية، مثل مدارس تعليم القيادة، والمطاعم، والمستشفيات، والمطارات. وفي مطلع القرن الحادي والعشرين، تضاعفت الإيرادات السينمائية، وأصبحت مبيعات أسطوانات (الدي في دي)، وأنظمة الفيديو حسب الطلب، وتأجير الأفلام الوثائقية مجالا تجاريا كبيرا، وسرعان ما ظهرت أفلام وثائقية معدة خصيصى للهواتف الخلوية، وأفلام وثائقية تعاونية تنتج على شبكة الإنترنت، وصار مسئولو التسويق الذين كانوا يحرصون على إخفاء حقيقة أن أفلامهم وثائقية يفتخرون بتسمية مثل هذه الأعمال «وثائقية».
سبب أهمية التسمية
للتسمية أهميتها؛ فالأسماء تأتي مصحوبة بتوقعات، ولو لم تكن حقيقية، لما استخدمها المسوقون كأدوات تسويقية. إن مصداقية ودقة وموثوقية الأفلام الوثائقية مهمة لنا جميعا، لأننا نقدرها تحديدا لهذه السمات، وعندما تخدعنا الأفلام الوثائقية، فإنها لا تخدع المشاهدين فحسب، ولكنها تخدع أفراد الجمهور الذين قد يتصرفون من منطلق المعرفة المستقاة من الفيلم؛ فالأفلام الوثائقية جزء من وسائل الإعلام التي لا تساعدنا فقط على فهم عالمنا، ولكن على استيعاب دورنا فيه، والتي تشكلنا بوصفها وسيلة إعلام جماهيرية.
وهكذا فإن أهمية الأفلام الوثائقية ترتبط بفكرة الجمهور كظاهرة اجتماعية. للفيلسوف جون ديوي رأي مقنع مفاده أن الجمهور - ذلك الهيكل الذي يمثل أهمية بالغة لسلامة أي مجتمع ديمقراطي - ليس مجرد جمع من الأفراد؛ فالجمهور هم مجموعة من الأشخاص يستطيعون العمل معا من أجل المصلحة العامة، ومن ثم يمكنهم مساءلة السلطة المنيعة المتمثلة في المؤسسات التجارية والحكومة، إنه هيكل غير رسمي يمكن لأفراده التجمع معا في الأزمات إذا اقتضت الضرورة. وهناك جماهير بعدد المواقف والمشكلات التي تستدعيهم، وبإمكاننا جميعا أن نصبح أعضاء بأي جمهور خاص، إذا كان لدينا وسيلة للتواصل معا بشأن المشكلات المشتركة التي نواجهها، ومن ثم فإن التواصل هو روح الجمهور.
وكما أشار جيمس كاري الباحث في مجال الاتصالات: «الواقع مورد نادر.» فالواقع ليس «ما» هو قائم، ولكن ما «نعرفه»، و«نفهمه»، و«نتشاركه» معا مما هو قائم. ووسائل الإعلام تؤثر على أغلى ما تمتلكه على الإطلاق: أفكارك. والأفلام الوثائقية أداة تواصل مهمة في تشكيل الواقع، بسبب مزاعمها بأنها تجسد الحقيقة، فدائما ما يكون للأفلام الوثائقية أساس في الحياة الواقعية، وتزعم بأنها تخبرنا بشيء يستحق المعرفة.
أجل، إن إمتاع المستهلك جانب مهم من مجال صناعة الأفلام، حتى في الأفلام الوثائقية؛ فمعظم صناع الأفلام الوثائقية يبيعون أعمالهم، إما للمشاهدين أو لوسطاء مثل مؤسسات البث والموزعين، وهم ملتزمون بالقواعد التي تحكم هذا المجال، وعلى الرغم من أن تكلفة إنتاج الأفلام الوثائقية أقل بكثير من تكلفة الأفلام الروائية، فتكلفة إنتاجها تظل أعلى بكثير من تكلفة إنتاج منشور دعائي أو كتيب على سبيل المثال. وعادة ما تتطلب الأفلام الوثائقية السينمائية والتليفزيونية مستثمرين أو مؤسسات، مثل مؤسسات البث، لدعمها، ومع ازدياد شعبية الأفلام الوثائقية، زاد ما ينتج منها لإمتاع الجماهير دون تحدي الافتراضات القائمة؛ فهي تجذب وترفه عن المشاهد بأفضل الأدوات المجدية في ذلك، كالإثارة، والجنس، والعنف. وتعتبر الأفلام الوثائقية التي تتناول الحياة البرية، مثل فيلم «مسيرة البطاريق» (2005)، أمثلة كلاسيكية للأعمال التي ترفه عن المستهلك، والتي تستخدم كل هذه الأساليب لجذب المشاهدين وإخافتهم، مع أن الإثارة والجنس والعنف في الفيلم تحدث بين الحيوانات.
يستغل المروجون مدفوعو الأجر أيضا ادعاءات الواقعية للشكل الفني، باعتبارهم مندوبين للحكومة والمؤسسات التجارية، وهو ما قد يسفر عن عواقب اجتماعية مدمرة، كما فعلت أفلام الدعاية النازية، مثل فيلم «اليهودي الخالد» (1937) الذي يعادي السامية بوحشية. وقد تحدث مثل هذه الأعمال تغييرا إيجابيا أيضا؛ فحين أرادت إدارة روزفلت إقناع الأمريكيين ببرامج حكومية جديدة باهظة التكاليف، استعانوا ببعض أبرز القصائد المرئية التي قدمت في ذلك العصر، والتي نفذها بير لورنتز بالتعاون مع فريق من الموهوبين. وقد ساعدت أعمال مثل «المحراث الذي حطم السهول» (1936)، و«النهر» (1938) في إشراك دافعي الضرائب في برامج عززت الاستقرار والنمو الاقتصادي.
غير أن الأفلام الوثائقية خلال تاريخها القصير غالبا ما كانت تنفذ على أيدي أفراد ينتمون بشكل ما لمجال الإعلام التقليدي، من خلال العمل مع مؤسسة حكومية للخدمات الإعلامية مثل هيئة البث العامة، أو مع مؤسسات بث تجارية متلهفة للحصول على جوائز، أو مع مؤسسات غير هادفة للربح، أو مع مؤسسة خاصة، أو مع صناديق تمويل التعليم الحكومي. وعلى هامش الإعلام السائد، وفيما يعد انحرافا بسيطا عن الفهم الراهن للواقع، جاهد الكثير من صناع الأفلام الوثائقية للتحدث بصدق عن السلطة وإليها، فقد كانوا غالبا ما يرون أنفسهم وسيلة إعلام جماهيرية، فلا يتحدثون فحسب إلى جمهور محدود، بل إلى جمهور عام يحتاج للمعرفة لكي يتحرك.
توضح بعض النماذج الحديثة نطاق مثل هذا النشاط. يعتبر فيلم «وول مارت: التكلفة العالية للأسعار المنخفضة» (2005) - من إنتاج شركة بريف نيو فيلمز - مناقشة وعظية مثيرة للمشاعر توجه اتهاما بممارسات مشينة لذلك المتجر الكبير للبيع بالتجزئة، مثل خطط الخدمات الطبية غير الملائمة للعاملين، والتدمير المتعمد للشركات الصغيرة. إنه لا يسعى لتحقيق التوازن من خلال توضيح وجهة نظر وول مارت، بل يسعى لتجسيد المشكلة بدقة. لقد أنتج الفيلم من أجل إحداث حراك؛ إذ استخدم لتنظيم تحرك تشريعي مضاد ومقاومة اجتماعية لممارسات الشركة شديدة الاستغلال، فجاء رد وول مارت على الفيلم عنيفا من خلال إعلانات هجومية، ليرد صناع الأفلام باتهام مضاد لوول مارت بالمغالطة وعدم الدقة، وانضم المدونون، وحتى الإعلام السائد، للنزاع. لقد نصبت بريف نيو فيلمز نفسها صوتا للجمهور، لتسد بذلك فجوة ملموسة في التغطية التي قدمها الإعلام السائد للمشكلة. إن مشاهدي الفيلم، الذي شاهده معظمهم من خلال شراء أسطوانات (الدي في دي) عبر البريد، وكنتيجة لحملة ترويج عبر الإنترنت، لم ينظروا له كعرض ترفيهي، ولكن كنقاش نفذ بأسلوب إمتاعي لمشكلة عامة لها أهميتها.
وهناك فيلم «فهرنهايت 9 / 11» لمايكل موور - وهو فيلم ساخر يناهض الحرب على العراق - الذي خاطب الجمهور الأمريكي مباشرة باعتباره شعبا كانت حكومته تتصرف باسم الشعب. حاول المذيعون الموالون للجناح اليميني في وسائل الإعلام التجارية تشويه الفيلم باتهامه بأنه كان بالفعل دعاية، ولكن موور ليس تابعا لذوي السلطة مثل العاملين في مجال الدعاية. لقد كان يقدم وجهة نظره في واقع مشترك، وله كل الحق في ذلك، معبرا عن رؤيته للموضوع بكل صراحة، إلى جانب أنه كان يشجع المشاهدين على النظر بعين ناقدة إلى كلمات وأفعال حكومتهم (غير أنه من المحتمل أن يكون هذا التشجيع قد أضعف بفعل التشخيص المحسوب لثورة الطبقة العاملة، الذي يمكن أن يدفع المشاهدين لاعتبار أنفسهم مجرد ضحايا عديمي السلطة لذوي السلطة، لا كعناصر مؤثرة اجتماعيا).
ثمة أفلام وثائقية حديثة أخرى موجهة للمعرفة العامة والتحرك تستخدم أساليب أعدت بهدف جذب الاهتمام من خلال اللعب على أوتار الاعتقاد؛ فيطرح فيلم «لماذا نحارب» (2005)، لأوجين جاريكي، نقاشا حول التواطؤ بين الساسة والشركات الكبرى والجيش لإهدار أموال وحياة أفراد الشعب في حروب ليس لها داع. وقد اختار جاريكي عن عمد شخصيات من الحزب الجمهوري، استطاعت السمو فوق سياسة التحزب والموالاة والتحدث لأجل المصلحة العامة. وفي فيلم «حقيقة مقلقة» (2006) لديفيز جوجنهايم، يترك آل جور وديفيز جوجنهايم، في عرض سهل الفهم، البيانات العلمية للحديث عن مدى أهمية الموضوع، وقد أشار جيم هانسن، مدير معهد جودارد لأبحاث الفضاء التابع لوكالة ناسا، إلى القيمة العامة للعمل: «قد يكون آل جور قد فعل في الاحترار العالمي ما فعله كتاب «الربيع الصامت» في المبيدات الحشرية الكيماوية. إنه سوف يهاجم، ولكن العامة سيكون لديهم المعلومات اللازمة لتمييز مصلحتنا العامة طويلة المدى عن المصالح الخاصة قصيرة المدى.»
شكل 1-1: استخدم فيلم «الفينيل الأزرق» التجربة الشخصية لاستكشاف قضايا اجتماعية؛ إذ تستكشف جوديث هلفاند - وفي يدها جزء من الفينيل الذي يغطي أرضية منزلها الذي يقع بإحدى الضواحي - الآثار السامة لإنتاج الفينيل. الفيلم من إخراج دانيال بي جولد وجوديث هلفاند، عام 2002.
من الممكن أن تتباين الأساليب تباينا حادا من أجل تحقيق غاية المشاركة العامة، فيقوم فيلم «الفينيل الأزرق» (2002)، لجوديث هلفاند ودان جولد، بتوظيف نسق اليوميات الشخصية لإضفاء طابع شخصي على مشكلة ما؛ إذ يتعقب الفيلم هلفاند وهي تأخذ جزءا من الفينيل الذي يغطي أرضية منزل والديها وتكتشف سمية الفينيل المسببة للسرطان في بداية دورة حياته ونهايتها (إذ ينتج مادة الديوكسين)، لتصبح هلفاند بذلك ممثلة لجمهور يتمثل في هؤلاء الأشخاص الذين يحتاجون لأرضيات غير مكلفة ويعانون أيضا العواقب الصحية لاستخدامها. أما فيلم «الحافلة 174» (2002)، للبرازيلي جوزيه باديلها، الذي يعيد سرد حدث إخباري مثير وقع في ريو دي جانيرو - وهو حادث اختطاف حافلة، ومنع الشرطة من الاقتراب من مكان الحادث لعدة ساعات وانتهاء الأمر بمصرع كل من المختطف وأحد ركاب الحافلة، وهو ما رصد في بث تليفزيوني مباشر على الهواء - فهو يبحر بالمشاهدين داخل حياة المختطف وتحديات الشرطة. ومن خلال مقارنة المشاهد التليفزيونية التي جعلت المشاهدين يلتصقون بمقاعدهم من فرط الإثارة يوما كاملا بالتحقيقات في الوقائع التي أدت إلى الحدث، يعيد الفيلم تأطير «الخبر» كمثال لكيفية تحول المشكلات الاجتماعية الرهيبة والمستوطنة إلى مشهد درامي. أما فيلم «ثلاث غرف للسوداوية» (2005)، وهو ملحمة تأملية للمخرجة الفنلندية بيريو هونكاسالو، فيصطحب المشاهدين داخل الحرب الروسية ضد الشيشان من خلال ثلاث صور فنية مفعمة بالعاطفة؛ في الجزء الأول، «الحنين»، تداعب الكاميرا الوجوه ذات الملامح الجادة لأطفال مجندين في الثانية عشرة في سان بطرسبرج، يتلقون تدريبات عسكرية لمحاربة الشيشان، وفي الجزء الثاني، «التنفس»، تقوم أخصائية اجتماعية محلية بزيارة منازل جروزني الحزينة تحت الحصار، حيث تصل المشكلات الاجتماعية إلى مرحلة تعجيزية، أما الجزء الثالث، «التذكر»، فيدور داخل دار للأيتام على الحدود، حيث يتعلم الشيشانيون الصغار معنى المرارة. ليس للكلمات دور كبير في هذا الفيلم؛ فمن خلال صور تأملية التقطت من زاوية قريبة، تبوح الوجوه التي تكتسي بملامح الحيرة، والألم، والصمود بالكثير، وهكذا يصبح المشاهد شريكا للكاميرا في المعرفة.
وسواء أكان مخرج الفيلم يهدف إلى مخاطبة الجمهور أم لا، فقد تستخدم الأفلام الوثائقية بطرق غير متوقعة. إن فيلم «انتصار الإرادة» (1935)، وهو أحد أكثر أفلام الدعاية سيئة السمعة على مر الأزمان، من الأفلام التي خلدت بين أفلام الدعاية النازية الأخرى، وأيضا بين الأفلام التاريخية. هناك أيضا فيلم «نقطة تفتيش» (2003) للمخرج الإسرائيلي يوآف شامير، وهو توثيق غير قصصي يتسم بالرصد الدقيق لسلوك القوات الإسرائيلية في نقاط التفتيش الفلسطينية، وقد أعد واستخدم كأداة لإثارة نقاش عام لانتهاكات حقوق الإنسان، وقد تقبله الجيش الإسرائيلي باعتباره فيلما تدريبيا.
إن فهمنا المشترك لتعريف الفيلم الوثائقي - المستقى من خبرتنا في المشاهدة - يتغير مع الوقت، بفعل الضغوط التجارية والتسويقية، والتجديدات التكنولوجية والشكلية ، وأيضا المناقشات الحامية، ودائما ما يكون لفن الفيلم الوثائقي عنصران متصارعان غاية في الأهمية: التجسيد والواقع؛ فصناعه يعالجون الواقع ويحرفونه مثل جميع صناع الأفلام، ولكنهم لا يزالون يدعون أنهم يقدمون تجسيدا حقيقيا للواقع. وعلى مدار تاريخ الأفلام الوثائقية، دار جدال بين المخرجين والنقاد والمشاهدين بشأن مقومات الحكي الجدير بالثقة للواقع، ويطلعك هذا الكتاب على هذه المجادلات على مدار الزمن وفي بعض أشكاله الفرعية المعروفة.
الشكل
كيف يبدو الفيلم الوثائقي؟ يحمل معظم الناس في عقولهم مفهوما تقريبيا لماهية الفيلم الوثائقي، وليست هذه بالصورة الجميلة في رأي الكثيرين. غالبا ما يعرف «الفيلم الوثائقي التقليدي» بأنه فيلم يبرز سردا يروى بصوت جهوري عميق، ومناقشة تحليلية أكثر منها قصة ذات شخصيات، ولقطات لوجوه خبراء مدعمة ببعض اللقاءات مع أشخاص في الشارع، إلى جانب مجموعة من الصور المرخصة توضح وجهة نظر الراوي (غالبا ما تسمى «القطع المتبادل» في مجال البث)، وربما بعض الرسوم المتحركة التعليمية، وموسيقى فخمة، وغالبا ما لا يتذكر هذا المزيج من عناصر الشكل بإعجاب؛ فالاستجابة الشائعة لتجربة تمثيلية ممتعة هي: «لقد كان شائقا حقا، لا يبدو كفيلم وثائقي عادي.»
في الواقع، مخرجو الأفلام الوثائقية يتوافر لديهم مجموعة كبيرة من خيارات الشكل للتعبير للمشاهدين عن صحة ما يعرضونه لهم وأهميته. وعناصر الشكل التي كثيرا ما ترتبط ب «الفيلم الوثائقي التقليدي» هي جزء من مجموعة من الخيارات التي صارت تقليدا نمطيا في القرن العشرين في التليفزيون، غير أن هناك خيارات أخرى متاحة. ويقدم لك هذا الفصل العديد من الطرق للنظر إلى الفيلم الوثائقي باعتباره مجموعة من القرارات تتخذ بشأن كيفية تجسيد الواقع من خلال الأدوات المتاحة لمخرج الفيلم؛ من ضمن هذه الأدوات «الصوت» (الصوت المحيطي، الموسيقى التصويرية، المؤثرات الصوتية الخاصة، الحوار، السرد)؛ «الصور» (مادة مصورة في موقع التصوير، صور تاريخية مجسدة في صور فوتوغرافية، أو لقطات فيديو، أو أشياء مادية)، المؤثرات الخاصة الصوتية والمرئية، بما في ذلك الرسوم المتحركة؛ «الإيقاع» (مدة المشاهد، عدد اللقطات، بنية النص أو الحكي). ويختار المخرجون الطريقة التي يريدونها لبناء القصة: الشخصيات التي يريدون نسجها للمشاهدين، وقصص الأشخاص التي يركز عليها، وكيفية حل عقدة القصة.
تتوافر للمخرجين العديد من الخيارات لاتخاذها بشأن كل عنصر من العناصر؛ على سبيل المثال، قد يجري تأطير اللقطة على نحو مختلف بحيث تحمل معنى مختلفا وفقا للإطار: فلقطة قريبة لأب في حالة من الحزن قد تقول شيئا مختلفا تماما عن لقطة من زاوية واسعة لنفس المشهد يظهر الغرفة بأكملها، واتخاذ قرار بترك الصوت المحيطي للجنازة ليطغى على الموسيقى التصويرية للفيلم سوف يعني شيئا مختلفا عما لو استخدمت موسيقى تصويرية رنانة.
وفي ظل عدم وجود شيء طبيعي فيما يتعلق بتجسيد الواقع في الأفلام الوثائقية، يعي صناع الأفلام الوثائقية تماما أن كل اختياراتهم تشكل المعنى الذي يختارونه؛ فجميع تقاليد الأفلام الوثائقية - أي العادات أو القوالب الشائعة في الخيارات الشكلية للتعبير - تنبثق من الحاجة إلى إقناع المشاهدين بصحة ومصداقية ما يروى لهم، فالخبراء، على سبيل المثال، يثبتون مصداقية التحليل، والرواة من الرجال ذوي الهيبة يعبرون عن الثقل والسلطة من وجهة نظر العديد من المشاهدين، والموسيقى الكلاسيكية تشير إلى الجدية.
تسعى محاولات تحدي التقاليد المتعارف عليها إلى إرساء صورة بديلة من المصداقية، فوقت أن كان الصوت المحيطي لا يتسنى تجميعه إلا بشق الأنفس، كان السرد في الأفلام التقليدية، 35 ملليمترا، يعتمد على صوت ذي عمق وقوة، كذلك كانت تشمل ملاءمة الإضاءة، وحتى التجهيزات، للمعدات الثقيلة التي يصعب تحريكها. وقد استخدمت بعض الأفلام الوثائقية المونتاج الدقيق للتركيبات المتقنة لكل مشهد من أجل خلق وهم الحقيقة أمام أعين المشاهدين، وعندما بدأ المخرجون تجربة كاميرات 16 ملليمترا الأخف وزنا بعد الحرب العالمية الثانية، نجحت التقاليد المختلفة التي ظهرت في إقناع المشاهدين بمصداقية الفيلم الوثائقي؛ فقد كان استخدام «لقطات» أو مشاهد طويلة للغاية يجعل المشاهدين يشعرون بأنهم يشاهدون حقيقة صريحة بلا تنميق؛ إذ كان اهتزاز الكاميرات المحمولة دليلا على المباغتة، ويشير ضمنا إلى العجلة، وكانت الحوارات الهجومية؛ أي ملاحقة الأشخاص الذين يدور الفيلم عنهم أثناء تنقلهم أو على نحو مفاجئ، تؤدي بالمشاهدين إلى الاعتقاد أن هذا الشخص يخفي شيئا حتما، وقد أتاح العزوف عن السرد، الذي أصبح منتشرا في أواخر الستينيات، للمشاهدين الاعتقاد أنه يجوز لهم أن يحددوا بأنفسهم معنى ما كانوا يشاهدونه (على الرغم من أن خيارات المونتاج في الواقع هي التي كانت تتحكم فيما كانوا يرونه).
يوظف مخرجو الأفلام الوثائقية نفس التقنيات التي يوظفها مخرجو الأفلام الروائية؛ إذ قد يعمل المصورون السينمائيون، وفنيو الصوت، والمصممون الرقميون، والموسيقيون، وأخصائيو المونتاج في كلا النوعين. قد يتطلب العمل الوثائقي أضواء أيضا، وقد يطلب المخرجون من أبطالهم إعادة تصوير المشاهد، وعادة ما تتطلب الأفلام الوثائقية مونتاجا متطورا، إلى جانب إضافة صناع الأفلام الوثائقية المؤثرات الصوتية والموسيقى التصويرية.
من التقاليد المشتركة بين معظم الأفلام الوثائقية البنية السردية؛ فهي قصص، ولها بداية ووسط ونهاية، وتجعل المشاهدين يستغرقون في شخصياتها، وتأخذ المشاهدين عبر رحلات عاطفية، وغالبا ما تلجأ إلى بنية قصة كلاسيكية؛ فحين أخرج جون إلس فيلما وثائقيا عن جيه روبرت أوبنهايمر، مخترع أول قنبلة ذرية - ذلك العالم الذي عانى أشد المعاناة تبعات اختراعه - جعل إلس فريق عمله يقرأ «هاملت».
تعمل التقاليد بنجاح على جذب الانتباه، وتيسير الحكي، وعرض وجهة نظر المخرج على الجماهير، فهي تصبح المعيار الجمالي؛ خيارات جاهزة لصناع الأفلام الوثائقية، وطرقا مختصرة للتعبير عن المصداقية، غير أن التقاليد أيضا تخفي الافتراضات التي يضفيها المخرجون على العمل، وتجعل عرض الحقائق والمشاهد الخاصة يبدو حتميا وكاملا.
تقليد العرض
كيف إذن ننظر لخيارات الشكل كخيارات، وننظر إلى التقاليد كتقاليد؟ ربما تتجه للأفلام التي يضع صناعها خيار الشكل في المقدمة باعتباره موضوع الفيلم، وتقارن خياراتهم بعمل آخر أكثر روتينية.
من أسهل الطرق لرؤية التقاليد الهجاء والمحاكاة الساخرة؛ على سبيل المثال، يبدأ فيلم «أرض بلا خبز» (1932)، للفنان السريالي الإسباني العظيم لويس بونويل، كرحلة تبدو مملة وكئيبة داخل إحدى المناطق الفقيرة بإسبانيا، ولكن سرعان ما يتضح أن بونويل، بمساعدة التعليق الذي كتبه الفنان السريالي بيير يونيك، يستخدم التقاليد العلمية الزائفة الجافة لإثارة الحيرة والغضب تجاه كل من الراوي ثم الظروف الاجتماعية الرهيبة للريف . أما فيلم «قصة الاسباجيتي» الذي عرض على شبكة هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في عام 1957، ضمن البرنامج الوثائقي «بانوراما»، فيصحب المشاهدين إلى سويسرا لمناقشة آخر محصول للاسباجيتي (الذي ينمو على الأشجار) كدعابة تمثل في نفس الوقت درسا تعليميا إعلاميا. وفي فيلم «بحثا عن الحافة» (1990)، الذي يدور في مضمونه حول أسباب كون الأرض مسطحة، توظف مجموعة كبيرة من أدوات الفيلم الوثائقي التعليمي التي يربطها الناس ب «الفيلم الوثائقي التقليدي» - كل بأسلوب أخرق متعمد - لإظهار المنطق الخاطئ في الحجج العلمية والمعالجة في صناعة الأفلام. في هذا الفيلم، يمنح الخبراء ألقابا مثل «أستاذ جامعي»، ويظهرون وأمامهم حقائب كتب كدلالة على المعرفة العلمية، على الرغم من أنهم يتحدثون بكلام فارغ، فيما توضح رسوم الجرافيك المبهرة استحالات فيزيائية، وتمتزج نبرة صوت الراوي بالسخرية من فكرة أن الأرض مستديرة، وتظهر صورة عائلية في لقطة قريبة متدرجة، على طريقة كين بينز، لنجد أن الشخصية المشار إليها تدير رأسها بعيدا عن الكاميرا. أما الفيلم الأسترالي «باباكيوريا» (1988)، الذي قام به مجموعة من السكان الأصليين، فيسخر من تقاليد الأفلام الإثنوجرافية، منها نسب سمات غامضة أو سحرية للآخرين الدخلاء خلال السرد، والاستشهاد بالخبراء، ونبرة الغرور لدى الراوي، وتصوير البحث العلمي كرحلة استكشاف بطولية. في الفيلم، يفحص مجموعة من العلماء من السكان الأصليين ما يعتقدون أنه مركز لممارسة طقوس ثقافية للأستراليين البيض، الذي هو في الواقع منطقة شواء.
تقدم الأفلام الوثائقية الساخرة، أو الوثائقيات الكاذبة، أيضا الفرصة لرؤية التقاليد من زاوية معينة؛ فقد كان فيلم «هذه هي سبينال تاب!» (1984) لروب راينر، الذي يدور عن إحدى فرق الهيفي ميتال الأسطورية، محاكاة ساخرة شهيرة لوثائقيات الروك - الأفلام التي تجسد عروض فرق الروك - بما تحويه من مقارنة بين الأداء الحماسي على المسرح وما يصاحبها من تصرفات وحركات بلهاء وراء الكواليس، وبين قصص نجاحها واسعة الانتشار. وكما هو الحال في الأفلام الوثائقية الساخرة اللاحقة، مثل «الأفضل في العرض» (2000)، و«رياح قوية» (2003)، اعتمدت الفكاهة على قدرة الجمهور على تحديد التقاليد.
التجربة الفنية
ثمة طريقة أخرى لرؤية التقاليد، هي تحليل أفلام يرى مخرجوها أنفسهم فنانين بالأساس - مخرجون يعالجون شكلا فنيا، وليس رواة يستخدمون الفيلم وسيطا - وهم يبتكرون، ويعيدون الابتكار، ويتحدون. ففي الوقت الذي أدت فيه الضغوط السوقية لجذب الجماهير بالعديد من المخرجين إلى توظيف تقاليد مألوفة، سعى الفنانون الذين يعملون خارج نطاق سوق الأفلام والفيديو إلى تجاوزها؛ فهم مبتكرون ومجربون من الطراز الأول.
من الأمثلة واسعة الشهرة لمثل هذه التيارات الفنية المضادة اتجاه سيمفونيات المدن؛ ففي العشرينيات والثلاثينيات، حين كانت دور السينما تعرض المغامرات الطبيعية، والأخبار السينمائية التي تتناول الحروب، والغرائب، كان الفنانون الذين ينتجون أعمالا للمعارض الفنية في أوروبا خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، يتخيلون السينما (التي كانت وسيطا صامتا آنذاك)، من بين أشياء أخرى، كقصيدة مرئية تستطيع توحيد خبرة الحواس المختلفة، كانت هذه الفترة من فترات التجريب والتواصل الداخلي الغزير. وقد ساهمت أفلام سيمفونيات المدن في ظهور الحب العصري للتمدن، والآلات، والتقدم؛ إذ استخلصت عناصر من الحركات الفنية مثل السريالية والمستقبلية، وأتاحت للناس رؤية ما لم يكن باستطاعتهم رؤيته عادة، أو ما كانوا ليروه، وكان من ضمن الآلات التي أحبها الفنانون الكاميرا ذاتها، التي كانت تمثل «عينا ميكانيكية» أكثر تفوقا، كما كان يطلق عليها مخرج الأفلام الوثائقية والمنظر الروسي دزيجا فيرتوف. ومن الأمثلة الأولى لأفلام سيمفونيات المدن فيلم «مانهاتا» (1921) لبول ستراند وتشارلز شيلر، وقد تزايد إنتاج هذا النوع من الأفلام في القارة الأوروبية في أواخر العشرينيات.
اتخذت أفلام سيمفونيات المدن اسمها من فيلم «برلين: سيمفونية مدينة عظيمة» (1972) للمخرج الألماني فالتر روتمان، ووضع روتمان أيضا موسيقى للفيلم. يوحد مصطلح «سيمفونيات المدن» الحركة الصناعية العاصفة للمدينة الحديثة مع الشكل الموسيقي الكلاسيكي الذي يظهر القدرة على تنظيم وتنسيق العديد من التعبيرات الفردية داخل وحدة واحدة. يصطحب الفيلم المشاهد إلى مدينة برلين على متن قطار، ثم في جولة لمدة يوم داخل العديد من الأنماط المتمدنة النابعة من تفاعل الأشخاص مع الآلات، تصل لذروتها من خلال الألعاب النارية. في الفيلم، يجري روتمان تجربة على أفكار فيرتوف عن قدرة الفيلم الوثائقي على أن يكون «عينا» على المجتمع بطريقة تجاوزت قدرة الإنسان على الملاحظة.
وقد استغل العديد من الفنانين مفهوم سيمفونيات المدن كوسيلة لتجربة الشكل؛ فقد وجد الفنان البرازيلي ألبرتو كافالكانتي الإلهام في المشروع الذي كان روتمان يعكف على تطويره، وأخرج فيلم «لا شيء سوى الزمن» (1926)، وهو فيلم عن باريس، حتى قبل أن يكمل روتمان فيلمه. يبرز الفيلم مؤثرات خاصة بارعة في جولة عاصفة بباريس تشمل أعلى وأقل طبقات المجتمع على حد سواء. وفي جنوب فرنسا، أنتج شقيق فيرتوف الأصغر المنفي، بوريس كوفمان، والفنان الفرنسي جان فيجو، فيلما صغيرا ينطوي على هجاء ساخر بأسلوب ماكر، وهو فيلم «حول نيس» (1930)، الذي يظهر البلدة الشاطئية كثقافة بذخ ينتشر فيها القمار وعبادة الشمس والنفس (وقد كتب فيرتوف تعليمات إخراج الفيلم لشقيقه). وفي بلجيكا، أخرج هنري ستورك فيلما رصدت أحداثه عن كثب بلدته الشاطئية، وهو فيلم «صور من أوستند» (1930)، وأخرج المخرج الهولندي جوريس إيفينز الذي اتجه إلى العمل مع ستورك، فيلما أصبح من كلاسيكيات هذه الأفلام، وهو فيلم «المطر». وفي سياق هذه التطورات، أبدع فيرتوف رائعته «الرجل ذو الكاميرا السينمائية».
ويظل شكل سيمفونيات المدن خيارا شعريا غير مألوف، واستثناء من قاعدة تقاليد الفيلم الوثائقي؛ ففيلم «كويانيسكاتسي» لجودفري ريجيو إنتاج 1982، يستخدم تقنيات أشبه بالعرض الضوئي إلى جانب التصوير بتقنية الفاصل الزمني (إحدى التقنيات التي كانت أفلام سيمفونية المدينة رائدة في استخدامها) لخلق تعليق تمثيلي على التأثير المدمر للبشر على الأرض. يشير عنوان الفيلم إلى كلمة من لغة الهوبي تعني «الحياة بلا توازن»، وقد استخدم الباحث في الأفلام الأمريكية توم أندرسون ما يربو على قرن من تاريخ السينما للبحث في كيفية تجسيد لوس أنجلوس في الأفلام السينمائية، وذلك في فيلم «لوس أنجلوس تمثل نفسها» (2003)، الذي يظهر المدينة في الخيال التجاري والعام تارة بسخرية وتارة بكآبة وسوداوية.
بحث فنانون آخرون، مثلما يصفون أنفسهم، عن طرق لاستخدام الفيلم الوثائقي كطريق لنقاء الرؤية واحتفاء بنشوة الإحساس في حد ذاته؛ فنظرا لتجنب أفلامهم المتعمد لتقاليد مثل الحبكة الدرامية، والراوي، بل أحيانا الأشياء القابلة للملاحظة في العالم، فإنهم يقدمون طريقة أخرى لفهم ما توقعناه؛ فقد أخرج كل من كينيث أنجر، وجوناس ميكاس، وكارولي شنيمان، وجوردان بلسون، ومايكل سنو، أفلاما ترجمت الحياة الواقعية بأسلوب إبداعي، على الرغم من أنهم صنفوا أنفسهم فنانين طليعيين لا مخرجين وثائقيين، وكان من أشهر الفنانين الأمريكيين الطليعيين الذين اعتبروا أنفسهم مخرجين وثائقيين - وعلماء - ستان براكاج.
أراد براكاج من المشاهدين أن يعودوا إلى «العين البريئة»، إلى نقاء تجربة الرؤية، لم يرد فقط مساعدة الناس على «رؤية» ما تتلقاه العين من الخارج، وإنما أيضا ما تصنعه العين كنتيجة للذكريات أو الطاقة الجسمانية المنبعثة من الداخل، فقد قال: «أعتبر أفلامي جميعا أفلاما وثائقية حقا. إنها محاولاتي للإتيان بأدق تجسيد ممكن لتجربة الرؤية.» كانت معظم أعمال براكاج صامتة، ونفذت على أساس الاعتقاد الحماسي بأن الرؤية فعل يتم بكل جزء من الجسم، والمدهش أن رؤاه وملاحظاته الحدسية عن الكيفية التي تعمل بها العين مدعمة بالأبحاث العلمية عن البصريات.
أخرج براكاج مئات الأفلام، من أكثرها مشاهدة «ضوء العث» (1963)، و«حديقة المباهج الأرضية» (1981)، في هذين الفيلمين القصيرين غلف براكاج خامات طبيعية، ووضعها بين قطعتين من شريط سينمائي، ثم طبع الصور الناتجة. وقد احتوى فيلم «ضوء العث» على أجنحة عثة، واحتوى فيلم «حديقة المباهج الأرضية» على أغصان صغيرة، وأزهار، وبذور، وحشائش. وقد خلقت الصور الناتجة بعد ذلك تجربة للمشاهدين أشارت إلى الأصالة والإبداع، ولكنها كانت مختلفة كل الاختلاف.
شكل 1-2: في «ضوء العث»، ضغط مخرج الوثائقيات التجريبية ستان براكاج أجنحة العثة وبقايا أغصان صغيرة وأزهار بين شريطين سينمائيين. الفيلم من إخراج ستان براكاج، 1963.
امتدت تجربة الأفلام التجريبية إلى الصوت أيضا؛ فقد ترجم مخرج الأفلام التجريبية الألماني هانز ريختر الإيقاعات الصوتية إلى تجربة مرئية في العشرينيات والثلاثينيات. تعامل أيضا المخرج الهندي ماني كول، الذي ترعرع فنيا في ظل السينما الموازية المدعمة (أي الموازية للسينما التجارية) في السبعينيات، على نحو متكرر مع تقاليد الأغنية الهندية، من ضمنها «دهروباد» (1982)، الذي يسلب الألباب بصوت وصورة واحد من أساليب الأداء الموسيقى الكلاسيكية المصممة لتيسير التأمل الروحي. وتلقي مثل هذه الأعمال الضوء على الطريقة التي غالبا ما نسلم من خلالها بالصوت كأداة تواصل عاطفية ملائمة.
في كل هذه الأعمال، تغيب تقاليد «الفيلم الوثائقي التقليدي» إلى حد بعيد، فلا يوجد راو يخبرنا بما يحدث، ولا خبراء يمثلون المرجعية الموثوق بها، والحقيقة العادية مشوهة عن عمد حتى نراها على نحو مختلف، والموسيقى التصويرية تستخدم لأغراض أخرى خلاف الإيعاز بمشاعر مرتبطة بالقصة؛ فالأشكال ذات الألوان الفاتحة والداكنة، والصوت التنويمي للموسيقى التكرارية، ومنظر الأجسام المأخوذة من العالم الطبيعي، وهي معروضة بأضعاف حجمها العادي، وغيرها من الوسائل الأخرى، تسهم في إخراجنا من إطار عاداتنا البصرية. وقد ساهمت هذه التجارب في توسيع نطاق المناهج الشكلية المتاحة لصناع الأفلام الوثائقية، وفي الوقت نفسه، تتباين هذه التجارب تباينا حادا مع أكثر تقاليد الوثائقيات شيوعا، التي تستخدم غالبا في التليفزيون.
السياق الاقتصادي
تخضع التقاليد أيضا لوقائع وحقائق المجال التجاري؛ ففي التليفزيون، حيث يتخذ المشاهدون قرارا بشأن المشاهدة من عدمها في غضون ثانية أو ثانيتين، يجاهد المنتجون الآن لجعل كل ثانية ذات جاذبية، والإشارة إلى هوية العلامة التجارية، ليس فقط من خلال الشعارات الدالة على هويتها، ولكن من خلال الأسلوب أيضا، ويبحثون أيضا عن طرق لتبسيط عملية الإنتاج وجعلها أكثر فاعلية، وخفض النفقات من خلال الأسلوب والشكل. وفي شرح لا ينسى لأحد المسئولين التنفيذيين لقناة هيستوري في أواخر التسعينيات للصيغة المستخدمة في القناة آنذاك - إما مقاطع من صور فوتوغرافية مرخصة، أو من مشاهد تمثيلية صغيرة، أو أشياء مقحمة مع رءوس متكلمة متصلة معا من خلال السرد - لمجموعة من المنتجين المكافحين قال: «نحن نقوم بذلك لأنه زهيد التكلفة ويؤتي ثماره.»
اتجه صناع الأفلام إلى ثلاثة أنواع من الممولين لتمويل أفلامهم الوثائقية: الرعاة، سواء من الشركات أو الحكومة؛ و«المعلنون»، عادة في التليفزيون، وغالبا ما يكون على نحو غير مباشر؛ و«المستخدمون» أو الجماهير. وكل مصدر من مصادر التمويل أثر تأثيرا قويا على اختيارات صناع الأفلام.
كان الرعاة الحكوميون يمثلون أهمية قصوى لصناعة الأفلام الوثائقية ؛ ففي دول الكومنولث البريطاني، تضم المؤسسات التي تشجع صناعة وتوزيع الأفلام الوثائقية هيئة الإذاعة البريطانية، وهيئة الإذاعة الأسترالية، والمجلس القومي للسينما بكندا. وعبر جميع أنحاء القارة الأوروبية، تقدم الحكومات المعونات المالية للفنانين الذين يعملون في مجال الأفلام الوثائقية، وقد ازدهرت الأعمال الوثائقية الألمانية والفرنسية والهولندية في ظل هذا النوع من الاستثمار. وفي دول العالم الثالث، أحيانا ما تقدم القوى الاستعمارية السابقة منحا ثابتة للإنتاج الثقافي، وقد تقدم الحكومات القومية الموارد، وغالبا ما تتحكم في مجال صناعة الأفلام. وتمثل القومية الثقافية دافعا للحكومات القومية لتقديم هذا الدعم، إذ غالبا ما تعكس أفكار تصميم البرامج وأساليبها اهتماما بالتعبير عن الهوية القومية، لا سيما في مواجهة التدفق العالمي الذي لا يتوقف للإعلام الأمريكي العام.
في المقابل، كان دعم المواطن الأمريكي دافع الضرائب للأفلام الوثائقية هزيلا على المستوى التاريخي، في دولة طالما كانت السياسة الثقافية فيها تدعم الإعلام التجاري بقوة، وقد بعث مجال البث الإذاعي العام من جديد خلال فترة الازدهار الليبرالي التي صاحبت سياسات المجتمع العظيم في عهد ليندون جونسون؛ إذ خصصت صناديق عامة للقطاع غير التجاري اللاحكومي للمساعدة في بناء قدرات محطات البث العامة التي كانت واهية آنذاك في معظم المدن الكبرى. وخلال السبعينيات والثمانينيات، ساهمت مؤسسات ثقافية أخرى، خاصة الصندوق الوطني للعلوم الإنسانية، والصندوق الوطني للفنون، الممولين من أموال دافعي الضرائب، في مجال الأفلام الوثائقية الأمريكية، وغالبا ما كانت الأساليب والأفكار والموضوعات الحساسة سياسيا تثير غضب المحافظين في الكونجرس.
ثمة طريقة أخرى تلعب بها الحكومات دورا مهما في صناعة الفيلم الوثائقي، وذلك من خلال تشريع يشجع أنواعا معينة من الإنتاج على أنواع أخرى؛ على سبيل المثال، حين أجازت الحكومة البريطانية وجود قنوات تليفزيونية تجارية خاصة، فرضت أيضا مسئوليات ضخمة فيما يتعلق بتحقيق المصلحة العامة، وهو ما ترجم إلى مشروعات أفلام وثائقية طموحة مولت على أمل الفوز بالسمعة، والتقدير، وتجديد رخصة المزاولة، وقد أطلقت القناة البريطانية الرابعة بتمويلات اقتطعت من الإيرادات الإعلانية لإحدى القنوات الخاصة، وفوض إليها عرض أعمال لمنتجين مستقلين، كان من بينهم مخرجو أفلام وثائقية. وقد زعم تشاد رافاييل أن مخاوف شبكة الإذاعة الأمريكية من القوانين والتشريعات الحكومية (إذ ضبطت الشبكات التليفزيونية متلبسة بالتلاعب في برامج المسابقات) قادت إلى فترة أغدق فيها بالتمويل على الأفلام الوثائقية الاستقصائية المتخصصة في الشئون العامة (وبالفعل، أدى سقوط التشريعات الحكومية الخاصة بالتليفزيون في الثمانينيات إلى انهيار في الأفلام الوثائقية التي تتناول الشئون العامة).
يلعب المراقبون الحكوميون دورا حقيقيا في وضع المعايير وتطبيق التقاليد، وغالبا ما تكون مؤسسات البث تحت رقابة صارمة من المراقبين الذين يتفقدون استخدام موجات البث التي تؤجرها الحكومة عادة لشركات فردية بشروط؛ ففي فيلم وثائقي عن تهريب المخدرات، وهو فيلم «الصلة»، روى براين وينستون فضيحة تفجرت في بريطانيا في عام 1998 بمصاحبة مشاهد أعيد تنفيذها، أو ربما حتى مشاهد من وحي الخيال، وقد وقعت مفوضية التليفزيون البريطانية المستقلة، وهي جهاز تنظيمي، غرامة على القناة التليفزيونية التي بثت الفيلم وأثارت بذلك النقاشات عن الرقابة الحكومية.
وقعت المفوضية الفيدرالية الأمريكية للاتصالات أيضا غرامة ابتذال، لقيت نقدا واسعا باعتبارها غرامة تعسفية، على محطة تليفزيونية عامة لقيامها ببث برنامج تاريخي، هو برنامج «ذا بلوز» (2003)، تلفظ فيه أحد ملحني الجاز بكلمة بذيئة، وقد دفع الحكم العديد من مؤسسات البث آنذاك لتوخي مزيد من الحذر في برامجها.
كان دور الرعاة من القطاع الخاص في تاريخ الفيلم الوثائقي كبيرا أيضا، وسوف يظل هكذا بالتأكيد؛ فقد كانت الأعمال المهمة لرائد الأفلام الوثائقية، روبرت فلاهرتي، مدعومة من جانب مؤسسات راعية كانت تأمل في ربط صورتها برؤيته الرومانسية، وكان للرعاة والمكتتبين المؤسسيين أهمية أيضا لباكورة الأفلام الوثائقية في التليفزيون؛ على سبيل المثال، كان برنامج الصحفي العظيم إدوارد آر مورو «شاهده الآن» (1951) الذي يتناول القضايا والشئون العامة، ممولا من شركة ألكوا، التي كانت آنذاك تتطلع إلى تلميع سمعتها بعد قضية احتكار، وكان للمكتتبين المؤسسيين أهمية بالغة لتليفزيون الخدمة العامة أيضا. أصبحت المؤسسات غير الربحية أيضا عملاء مهمين للأفلام الوثائقية التي تتعامل مع قضايا تعتبرها ذات أهمية. إن الرعاة يدفعون للحصول على فيلم صنع لأنهم يرغبون في سرد قصة معينة، أو يرغبون في تحسين صورتهم، وفي كلتا الحالتين، لا يكون لمخرج الفيلم سوى قدر محدود من الاستقلالية، ولكنه يكون غالبا كافيا لكي يستطيع تنفيذ عمل ذي أهمية، وفي بعض الأحيان تتفق أولويات مخرج الفيلم مع أولويات المؤسسة. ويعتبر المعلنون رعاة أيضا؛ إذ يدفع كل منهم مقابل الحصول على وقت أو مساحة محدودة في برنامج يمكنه جذب المشاهدين لرسائلهم، ويفضل الإعلان الأفلام الوثائقية الخفيفة ذات الميزانية المحدودة التي لا تتحدى الأوضاع الراهنة، والأفلام الوثائقية المثيرة التي يمكن أن ترفع نسب المشاهدة.
ويمثل البيع المباشر النموذج الأسرع نموا لدعم الأفلام الوثائقية؛ فجماهير السينما الباحثة عن التجديد والروعة يجدونها في الأفلام الوثائقية لشركة إيماكس، سواء التي تدور حول معجزة الطيران أو عالم الحشرات الاستوائية المدهش، ويستقبل مشتركو القنوات المشفرة، مثل «إتش بي أو» أو قناة كندا الوثائقية، سيلا من البرامج الوثائقية مثلما يحدث عند الاشتراك في المجلات. تقدم أنظمة الفيديو حسب الطلب أيضا أفلاما وثائقية مباشرة للمشاهدين، مثلما تفعل خدمات التأجير مثل نتفليكس وبلوكباستر. يشتري المستخدمون المنزليون أيضا - غالبا عن طريق الإنترنت - أسطوانات (دي في دي) للأفلام الوثائقية التي ربما لم تعرض في أي دار عرض، ويحملون أيضا أفلاما على أجهزة الآي بود والهواتف الخلوية، وهذا يدفع صناع الأفلام الوثائقية لتحديد «جمهور شخصي» كما يطلق عليه المنتج بيتر برودريك، وصياغة أعمال تدور حول اهتمامات هذا القطاع أو تحديد مجموعة متحمسة لقضية أو مشكلة معينة.
كان من الأمثلة الخارقة للتوزيع المباشر فيلم «الخداع» (2004) من إنتاج روبرت جرينوالد، الذي يشن هجوما ضاريا على قناة فوكس نيوز لتحيزها للجناح اليميني. أطلق هذا الفيلم خلال موسم الانتخابات لعام 2004 في الولايات المتحدة، وقدم للمشاهدين عن طريق رسائل البريد الإلكتروني من الموقع الليبرالي موف أون دوت أورج
MoveOn.org . ووفقا للمنظمين، اشترى أكثر من 100 ألف مشاهد أسطوانات (الدي في دي) خلال الشهر، أغلبها للاستخدام في الحفلات المنزلية حيث يشاهدها العديد من المشاهدين دفعة واحدة. وحظي الفيلم أيضا بفترة عرض محدودة ومتزامنة في دور العرض، وسرعان ما تمت محاكاة هذا النموذج وتعديله؛ إذ سريعا ما أعد المحافظون أفلامهم المحرضة ونشروها في دوائرهم الانتخابية.
يطور الإنتاج الرقمي في عصر التحميل عبر الإنترنت نماذج جديدة للسوق؛ فبحلول عام 2006 كان تحميل الفيديوهات قد احتل حوالي نصف المساحة الإجمالية على الإنترنت، وفي غضون أيام، جذبت المحاكاة الساخرة المنزلية المتواضعة جماهير عالمية أكبر مما حظي بها العديد من الأفلام الوثائقية في أي مهرجان أو عرض سينمائي. في الوقت نفسه، ظل النموذج التجاري الذي يمكنه دعم مثل هذه الأعمال ملحوظا.
الأخلاقيات والشكل
كان للمسائل الأخلاقية أهمية بالغة شأنها شأن المسائل الجمالية في اختيارات الشكل لصناع الأفلام الوثائقية، وقد طالب مخرج الأفلام التاريخية جون إلس والمنظر بيل نيكولز، من بين آخرين، صناع الأفلام المحترفين أنفسهم بصياغة معايير أخلاقية.
والسؤال عن القدر المقبول من تزييف ومحاكاة الواقع، من الأسئلة التي تطرح على نحو مستمر. إن التزييف الصريح يسهل الحكم عليه وشجبه، مع أنه أمر شائع منذ بداية نشأة الأفلام؛ فقد أنتج استوديو توماس إديسون مشاهد حرب من الفلبين في نيوجيرسي، وصور التوثيق المفترض لغرق السفينة «ماين» في ميناء هافانا - في الحقيقة - في حوض استحمام نيويوركي.
ثمة ممارسات أخرى أقل وضوحا من الناحية الأخلاقية؛ فهناك تقنية إعادة التجسيد، وهي جزء أساسي من إنتاج الأفلام الوثائقية 35 ملليمترا، وفي ظل المعدات الثقيلة المرهقة، بدون إضاءة أو عناصر تمثيل، كانت معظم الأفلام من هذا النوع ستصبح مستحيلة على التنفيذ. وقد استهجن أنصار سينما الواقع المحافظون في الستينيات، الذين كانوا يستخدمون معدات جديدة أخف وزنا وأكثر مرونة، مثل هذه التقنيات باعتبارها مصطنعة.
على الرغم من ذلك، عادت تقنية إعادة التجسيد للازدهار مرة أخرى في التسعينيات، وكان ذلك في بعض الأحيان يعزى إلى الميزانيات المحدودة التي يخصصها صناع البرامج في القنوات المشفرة، حتى إن المخرجين كانوا يجاهدون لإنتاج قصة جذابة لجماهير التليفزيون الذين اعتادوا معايير إنتاجية عالية. وهكذا، أصبح من المألوف في قناة هيستوري، على سبيل المثال، الإتيان ببضع أقدام ترتدي صنادل لتجسيد مسيرة لآلاف المحاربين الرومان، أو بضع عملات معدنية ومزهرية لتجسيد ثراء الملوك في حقبة أخرى، وفي أحيان أخرى كان صناع الأفلام يستخدمون إعادة التجسيد لاستحضار لحظة غير مصورة؛ ففي الفيلم المأخوذ عن مذكرات الهولوكوست «شكرا لكل شيء» (1999)، مثلت مشاهد لأم تصنع الخبز وتضيء الشموع لتجسيد ذكريات الطفولة في هذه الناجية من المحرقة. ولا يحدث مثل هذا الاستخدام أي ارتباك أو حيرة للمشاهدين؛ إذ عادة ما يمكنهم تمييز التجربة الحقيقية عن التجسيد الرمزي لها.
وقد ثار جدل حول صناعة الأفلام التي يتداخل فيها الزيف مع الحقيقة دون إعطاء المشاهدين الفرصة للتمييز؛ ففي فيلم «أوقات عظيمة: الجزء 2: مسيرة الأطفال» (2004) الذي أخرجه روبرت هدسون وبوبي هيوستن ويدور حول تاريخ حقوق الإنسان، مزجت المشاهد التمثيلية بالمواد الأرشيفية، واستخدمت أيضا مواد أرشيفية من زمان ومكان للإشارة إلى مكان وزمان آخرين، وعندما فاز الفيلم بإحدى جوائز الأوسكار، أثار جدلا بسبب هذا المزج. أيضا كان فيلم ديفيد ماكناب «المؤامرة السرية لقتل هتلر» (2004) جزءا من تجربة لقناة ديسكفري في مجال «التاريخ الافتراضي»، الذي يعيد فيه الممثلون تجسيد لحظة من التاريخ، ويستعان برءوس الشخصيات التاريخية من المشاهد الأرشيفية، وقد اعترف الفيلم بذلك في بدايته، ولكن البعض اعتقد أن أسلوب مزج الممثلين بالصور الأرشيفية قد تجاوز خطا أخلاقيا، وقد يربك الجمهور.
الأفلام التي تستخدم الممثلين والنصوص، برخصة المشاع الإبداعي، لإعادة سرد أحداث حقيقية، يطلق عليها غالبا دوكودراما، ويندرج تحتها أفلام مثل: «غاندي» (1982)، والمسلسل التليفزيوني «الجذور» (1977)؛ إنها تبدو كأفلام روائية، ومن المفهوم عموما أن بإمكانها التغاضي عن الدقة فيما يخص بعض التفاصيل من أجل تجسيد واقع أو حقيقة تجسيدا دراميا، بيد أن المشاهدين والصحفيين لا يرون أن تزييف الحقيقة أمر لائق؛ ففي الفيلم الوثائقي الدرامي «الطريق إلى 9 / 11» الذي أنتجته شبكة إيه بي سي عام 2006، اختير ممثلون لأداء أدوار مسئولين حقيقيين في إدارة كلينتون، من بينهم وزير الخارجية، وجعلوهم يقولون ويفعلون أشياء لم يفعلوها أو يقولوها بالتأكيد، وأظهرت هذه التلفيقات إدارة كلينتون وهي تهمل تهديدا إرهابيا، وقد حذفت الشبكة بعض الأخطاء في اللحظة الأخيرة ثم حاولت تبرئة ساحتها بالتنويه إلى أن الفيلم كان مجرد فيلم وثائقي درامي، لكن المشاهدين والمعلقين الساخطين لم يرضهم هذا التنصل.
يمزج بعض صناع الأفلام الوثائقية عناصر خيالية ويستمرون في ادعاء أنها أفلام وثائقية، وهذا الأسلوب آخذ في التنامي مع تنامي شعبية الأفلام الترفيهية الوثائقية؛ على سبيل المثال، يحكي فيلم «المختالون» للمخرج الدانماركي جيب روند قصة خيالية عن أب وابن يلتئم شملهما من خلال توثيق لمسابقات أزياء واقعية تقام بين الرجال في جنوب أفريقيا، وعلى الرغم من شعبية الفيلم في مهرجانات الأفلام في شمال الكرة الأرضية، فإنه يثير تساؤلات لتجسيده حبكة قصة خيالية كحياة واقعية.
يتعمد بعض صناع الأفلام الوثائقية استخدام الخيال كأداة لإثارة التفكير؛ فقد قدم المخرج البريطاني الموالي للجناح اليساري بيتر واتكينز عدة أفلام استعان فيها بأشخاص لا يعملون بالتمثيل لإعادة تجسيد أحداث تاريخية تكشف عن أنظمة السلطة وحركات المقاومة من معركة كولودين حتى كومونة باريس. أعاد المخرج الأمريكي الراديكالي إميل دي أنطونيو أيضا في فيلمه «في ملك بروسيا» (1982) تجسيد محاكمة لمعارضي الحرب على فيتنام، بعد منع الصحفيين من دخول قاعة المحكمة. قام ببطولة الفيلم المتهمون الحقيقيون، بمن فيهم الأخوان في الكهنوتية فيليب ودانيال بريجان، مع ممثل هوليوود مارتن شين في دور القاضي. لم تعد تقنية إعادة التجسيد سرد الأحداث فحسب، ولكنها وجهت نقدا ضمنيا لحظر دخول الصحفيين أثناء المحاكمة. مزج المخرج الفرنسي كريس ماركر أيضا في فيلمه «بلا شمس» (1982) الصور الوثائقية والصوت بسرد خيالي، وكانت النتيجة استجوابا مثيرا للفكر في معنى الذكرى وتأملا في صناعة الأفلام. وفي فيلم «الكابوس العطر» (1977)، أعاد المخرج الفلبيني كيدلات تاهيميك استخدام مشاهد وثائقية لسرد قصة خيالية عن شخص ساذج من العالم الثالث ارتحل إلى الغرب، وهي قصة كانت أيضا مقالا وثائقيا نقديا عن الاختراق المتبادل بين الشرق والغرب، وقد كانت إعادة الاستخدام ذاتها تعليقا على الثقافة التوفيقية والانتقائية للفلبين.
ابتدع الفنان الألماني هارون فاروكي الكثير من المقالات الوثائقية المعقدة التي تدعو لتدبر الذات، ويجري فيها استخدام مشاهد وثائقية والتعامل مع القضايا الموجعة التي تحظى بأهمية عامة، وله مقال عن تورط العمال الصناعيين في حرب فيتنام، هو «النيران الغامضة» (1969) - حيث تشير النار إلى النابالم - وقد كتب ومثل بأسلوب انطوى على تجربة للتغريب البريختي، وقد أعادت المخرجة الأمريكية جيل جودميلو تصوير الفيلم لقطة بلقطة تحت اسم «ما علمه فاروكي» (1998).
هل تظل مثل هذه الأعمال الهجينة أفلاما وثائقية؟ إنها تزعم أنها تجسد الحياة الواقعية وتخبر المشاهد بشيء مهم عنها شأنها شأن الأفلام الوثائقية السائدة، ولكن هذه التجارب من وجهة نظر البعض تخرج عن حدود الأفلام الوثائقية، شأنها شأن الأفلام الوثائقية الساخرة، بل إن جودميلو نفسها سألت المشاهد في فيلمها عن النوعية التي ينتمي إليها فيلم «ما علمه فاروكي». وهي تشير إلى أن جميع المشاهد تقريبا معادة التجسيد، شأنها شأن معظم المشاهد في الفيلم الذي تحاكيه، ولكن الفيلم مناقشة حول الحياة الواقعية، وهي تشير بشيء من السخرية إلى أن المشاهد ينظر إلى الفيلم باعتباره «أجيتبروب» أو دعاية تهييج، لتعيد للأذهان مصطلح أفلام «دعاية التهييج» الذي ظهر في عصر الاتحاد السوفييتي للحث على إحداث تغيير اجتماعي. وينطوي تساؤلها على إشارة إلى الخطوط المشوشة التي تحيط بحدود هذا الشكل الفني.
إن جميع اختيارات الشكل الخاصة بالمخرجين تسوق إلى المشاهد ادعاءات مقنعة عن دقة المخرج وحسن نيته ومنطقيته، ولعل في حقيقة توافر مجموعة متنوعة من الخيارات للمخرجين في تجسيد الحقيقة تذكرة لنا بأنه لا يوجد تجسيد شفاف للحقيقة، ولا أحد يستطيع حل تلك المعضلات الأخلاقية بتجنب الاختيار في طريقة التعبير، ولا توجد اختيارات شكلية خاطئة في حد ذاتها. والعلاقة القائمة على حسن النية بين مخرج الفيلم والمشاهد ضرورية، وبإمكان صناع الأفلام تسهيل ذلك بتحري الوضوح مع أنفسهم فيما يتعلق بأسباب استخدامهم للأساليب والتقنيات التي يستخدمونها، والسعي لاختيار الشكل الذي يعلي من شأن الحقيقة التي يرغبون في إطلاعنا عليها.
المؤسسون
في العشرينيات بدأ ثلاثة أشخاص مشوارهم الفني وساهموا في تشكيل توقعات الجماهير عبر جميع أنحاء العالم منذ ذلك الحين، وهم: روبرت فلاهرتي، وجون جريرسون، ودزيجا فيرتوف. وقد أكدوا جميعا في آن واحد أنهم ينقلون الحقيقة وأنهم فنانون. وكما رأينا، فإن كلا التأكيدين يخلق حالة التوتر والجذب الأساسية في الأفلام الوثائقية؛ فمتى تتعارض البراعة الفنية مع الحقيقة ومتى تسهل مثل هذا التجسيد؟ لقد صارع هؤلاء المخرجون هذا السؤال بأساليب متنوعة، ومهدوا الطريق لنقاشات ومجادلات لاحقة.
أرسى جريرسون وفلاهرتي، مع اختلاف الطموحات، «الواقعية» كتقليد في الأفلام الوثائقية، ويخلق هذا التقليد التعبيري وهم الحقيقة لدى المشاهد، ومن ثم فإن الواقعية لم تكن محاولة لتصوير الواقع بمصداقية، بل محاولة لاستخدام الفن لمحاكاته بفاعلية تجعل المشاهد ينجذب إليه دون التفكير فيه؛ ومن ضمن أساليب خلق وهم الحقيقة: (1) المونتاج بالإخفاء (نوع من المونتاج يمر دون أن يلاحظه العقل الواعي، بحيث تنخدع العين بالاعتقاد بأنها تسير مع الحدث لا أكثر). (2) التصوير السينمائي الذي يخلق لديك الوهم بأنك داخل المشهد أو تراقب الحدث أثناء وقوعه، ويمنحك مشاركة نفسية في الحدث. و(3) إيقاع يتبع توقعات المشاهد للأحداث الطبيعية في العالم الطبيعي. ونظرا لقدرتها على الإثارة، فقد أصبحت الواقعية اللغة العالمية للسينما التجارية في كل من الأفلام الوثائقية والروائية.
على النقيض من الواقعية تأتي مناهج تجذب الانتباه إلى دور الفنان والتكنولوجيا في صناعة الفيلم، بعض هذه الأساليب جمعت تحت مسمى «الشكلية»، بمعنى إلقاء الضوء على العناصر الشكلية في الفيلم ذاته، ومن ضمن أمثلة تلك العناصر المونتاج الحاد أو الملحوظ، والألوان غير الطبيعية، والتشويهات في عدسة الكاميرا، والمؤثرات الخاصة مثل التحريك، وإبطاء أو تسريع الصوت والصورة. في بدايات نشأة السينما، جرب العديد من صناع الأفلام هذه التقنيات لتمثل نمطا قويا للتعبير خارج القيود التجارية منذ ذلك الحين (وقد وجدها المعلنون مفيدة أيضا من أجل ترك انطباعات تعلق في الأذهان وذات تأثير عال). وقد اتهم أنصار الشكلية الواقعيين بالتضليل وخداع المشاهدين لدفعهم لتصديق أنهم يشاهدون شيئا واقعيا؛ في المقابل سمح هؤلاء المخرجون للمشاهدين بملاحظة دور الفنان في خلق العمل، بل الاحتفاء به.
روبرت فلاهرتي
لم ينتج الأمريكي روبرت فلاهرتي سوى بضعة أفلام خلال سنوات عمله، ولكن البعض منها أصبح محكا تقاس على أساسه الأفلام الوثائقية. حظي فيلمه الأول «نانوك ابن الشمال» بنجاح واسع، وألهم صناع الأفلام في كل أنحاء العالم، من الروسي سيرجى أيزنشتاين إلى البريطاني جون جريرسون والفرنسي جان روش.
نشأ فلاهرتي في كندا وعلى حدودها، وعاش فترة في معسكرات التعدين مع والده الذي كان يملك منجما. بعد محاولة فاشلة لتنفيذ فيلم يوثق رحلاته وأسفاره (على أثر احتراق النيجاتيف)، عاد لمدة عام إلى سكان القطب الشمالي الأصليين الذين لقي منهم معاملة طيبة، وبحوزته تمويلات من شركة فرنسية لتجارة الفراء. وعلى الرغم من رفض الكثير من الموزعين للفيلم الناتج، فقد حقق الفيلم الكثير من المال لنفسه ولفلاهرتي. روج لفيلم «نانوك» في دور العرض بواسطة أفكار ووسائل بارعة مثل الزلاجات التي تجرها الكلاب، وأشكال مصنوعة من الورق المقوى لأكواخ الإسكيمو، ووصف بأنه «قصة حياة وحب في القطب الشمالي الحقيقي».
استعار الفيلم عناصر من الأعمال السينمائية الترفيهية الرائجة في ذلك الوقت؛ فقد تضمن عناصر «تصويرية» مستعارة من أفلام الرحلات، التي كانت في حد ذاتها وريثا لعروض شرائح الرحلات، وكان الفيلم أيضا يروي قصة درامية عن البقاء في مواجهة الظروف البيئية القاسية، مستخدما بنية مشابهة لتلك المستخدمة في الفيلم الروائي الشهير «ميلاد أمة» (1915) لدي دبليو جريفيث، الذي كان فلاهرتي قد شاهده. اشتمل الفيلم أيضا على بدعة جديدة؛ فقد عرف فلاهرتي المشاهدين بالحياة اليومية في ثقافة كان هو وجمهوره يعتقدون أنها بدائية، وكان التجديد في الفيلم أن «البدائيين» في هذه الثقافة لم يقدموا كمخلوقات أو حيوانات غريبة الأطوار (مثلما قدموا منذ فترة قريبة في المعرض الكولومبي الدولي بشيكاغو عام 1893)، بل كبشر لديهم عائلات ومجتمعات. وكان بإمكان الجماهير من خلال هذا الفيلم استكشاف أسلوب حياة آخر، بل كانوا يعتقدون أنهم يستكشفون الماضي. وقد تعمد فلاهرتي أن يكون تجسيده لأسلوب حياة سكان الإسكيمو ذا طابع عتيق ومهجور.
لاقت النزعة الإنسانية الدافئة لفيلم «نانوك» نجاحا على المستوى التجاري فاق ما حظي به منهج نصير آخر «للتوثيق الإثنوجرافي»، وهو المصور إدوارد إس كيرتيس الذي كانت عائلة فلاهرتي قد زارته قبل الانتهاء من «نانوك». كان كيرتيس ، الذي اشتهر بتصويره للهنود الحمر وهم يرتدون ملابس عتيقة، يأمل في الاستفادة من السنوات التي عاشها مع هنود الكواكيتول بفيلم يجذب جماهير على استعداد للدفع لمشاهدة الفيلم. وفي فيلمه «في أرض صائدي الرءوس» (1914) - الذي أعيد تسميته فيما بعد بشكل أكثر دقة ليصبح «في أرض القوارب الحربية» - جمع مشاهد لطقوس كان قد طلب من الكواكيتول إحياءها مع حبكة ميلودرامية لم تستوح من ثقافة الكواكيتول. لم يحقق الفيلم إيرادات تذكر، وكان فاشلا من الناحية الجمالية، على الرغم من الاهتمام البالغ به من علماء الأنثروبولوجيا فيما بعد لما يحويه من مشاهد الطقوس التي أعيد تجسيدها.
بالطبع اتخذ فلاهرتي بعض الخيارات بغرض جذب جماهير على استعداد لدفع ثمن تذكرة السينما، فغير اسم البطل من ألاكريالاك إلى نانوك، وجمع له عائلة نموذجية غير حقيقية ولكنها كانت مناسبة للتصوير، وقد أخفى مشاركة العديد من سكان الإسكيمو في تصوير الفيلم، وأبرز بل دبر عمليات صيد عالية الدراما بدلا من مجرد رصد إيقاع الحياة اليومية الخالي من أي أحداث، وخاصة إيقاع حياة النساء. وقد أدى تصوير فلاهرتي البارع - والناتج عن الاعتناء شديد الدقة بالتفاصيل البصرية وإعادة التصوير عدة مرات - والتنظيم البارع للإيقاع من المونتير (الذي كان بطيئا بما يكفي لإقناع المشاهدين بأنهم يشاهدون حياة واقعية، ولكن ببنية درامية) إلى إنتاج عمل ترفيهي عالي الجودة من مادة خام مشوقة، وقد منح اختيار الاتجاه الواقعي - أي خلق الوهم بحقيقة مرئية ومحسوسة من خلال المونتاج، وزاوية الكاميرا، والإيقاع - المشاهدين انطباعا قويا بأنهم عايشوا شيئا شبه حقيقي.
كان اختيار فلاهرتي للصيغ المهجورة في الفيلم خيارا أخلاقيا؛ إذ قال: «ما أريد أن أعرضه هو الروعة والسمات الشخصية التي يتمتع بها هؤلاء الناس، ولا يزال ذلك ممكنا، قبل أن يدمر البيض ليس فقط شخصيتهم، بل الأشخاص أنفسهم أيضا.» كان لدى فلاهرتي إيمان رومانسي قوي بنقاء الثقافات الأصلية، وكان يؤمن بأن ثقافته قد أفقرت روحانيا بالمقارنة بها. وتتذكر أرملة فلاهرتي أنه قال: «كانت مشكلة نانوك هي كيفية التعايش مع الطبيعة، أما مشكلتنا فتكمن في كيفية التعايش مع ماكيناتنا. لقد وجد نانوك الحل لمشكلته في روحه، مثلما فعل البولينيزيون، ولكننا صنعنا لأنفسنا بيئة يصعب على الروح التوافق معها.»
كانت هذه القناعة الرومانسية تعني أيضا أن فلاهرتي كان يعتقد أن ثقافة الإسكيمو قد لوثت بفعل احتكاكها بالعالم الخارجي، ولم يكن يعتقد أن بمقدور ثقافة الإسكيمو النجاة من هذه الهجمة العنيفة؛ فقد كانت الثقافة الأصلية في رأيه ثقافة نقية لم تمسسها حضارة صنعتها الماكينات، على الرغم من أن مواطني الإسكيمو الذين اعتمد عليهم في الأساس ليركز عليهم كاميراته كانوا يبيعون الفراء لأسواق الفراء أيضا.
شكل 1-3: طلب المخرج الواقعي الرومانسي روبرت فلاهرتي من سكان الإسكيمو إعادة تجسيد العادات التقليدية من أجل فيلم «نانوك ابن الشمال». الفيلم إخراج روبرت فلاهرتي عام 1922.
أصبحت تلك الرومانسية سمة مميزة لأعمال فلاهرتي، فأخرج، من بين أفلام أخرى، فيلم «موانا» (1926) في ساموا، و«رجل من آران» (1934) عن انفصال جزر آران عن إيرلندا، و«قصة لويزيانا» (1948)، وهو آخر أفلامه، في جداول لويزيانا. وقد محت هذه الأفلام تعقيدات الحياة الاجتماعية لمصلحة قصة عن إنسان في مواجهة الطبيعة؛ ففي البحار الجنوبية، ذهل فلاهرتي لاكتشافه أن الطبيعة كانت متسامحة مع سكان الجزر، لذا خلق دراما في عادة دق الوشم المؤلمة التي كانت في طريقها إلى الزوال آنذاك، وتجاهل، من بين أشياء أخرى، الوجود الاستعماري في ساموا، والخصخصة الجائرة للملكيات التي أحدثت تحولا في المجتمعات الساموية، وإصرار الحكومة على نظام الزواج الرسمي الغربي الذي يتعارض مع تقاليد الزواج الساموية. وفي فيلم «رجل من آران» (1934)، جعل فلاهرتي سكان جزيرة آران يحيون عادة صيد القروش المتشمسة (إذ كان لا بد من تعليمهم)، واستبعد من القصة عنصرين ساهما إسهاما كبيرا في تكوين حياتهم: عملهم في تجارة الأسماك مع البر الرئيسي، وحقيقة أن الملاك الغائبين، وليس قوى الطبيعة القاسية، هم من أجبروا شخصيات فيلمه على الاستقرار في الأرض المقفرة التي كانوا بحاجة إلى إثرائها بالأعشاب البحرية.
أحد أسباب جاذبية فيلم «نانوك» احتفاء فلاهرتي ب «البدائي النبيل»، وهو مفهوم شائع ذو تراث طويل في الفكر الغربي، ويعود تاريخه إلى بدايات عصر التنوير، وظهر في كتابات جان جاك روسو. يعبر مفهوم البدائي النبيل عن فلسفة تفاؤلية بأن الإنسان الطبيعي خير بفطرته، وقد أصبح له حضور قوي على نحو خاص في الإبداع الأوروبي والأنجلو أمريكي في أوج حقبة الاستعمار الأوروبي في العصر الفيكتوري ومع أيديولوجية «حتمية التوسع» الأمريكية. حتى مع تأكيد القوى الصاعدة لسيطرتها على مختلف الثقافات سياسيا، استهدف مستكشفوهم أراضي غريبة لم تطأها قدم من قبل تتجاوز حدود معرفتهم، واحتفوا بجمال الحياة البسيطة. وكما أشار ليو ماركس، هذه النظرة الرومانسية للثقافات الأخرى، التي تقدر لما يفترض فيها من بساطة وبراءة، لم تنم إلا مع فترة التصنيع السريع.
ثمة سبب آخر لاستمرار حب الجمهور لأفلام فلاهرتي، هو وضوح عشق فلاهرتي الشديد لأبطاله؛ فقد أقام فلاهرتي رابطة إنسانية دافئة مع الناس الذين عاش معهم وعمل لشهور في فترة من الفترات. وبعد أربعة عقود من إخراج فلاهرتي لفيلم «رجل من آران»، عاد المخرج جورج ستوني - الذي ألهمته مشاهدته لأفلام فلاهرتي بالعمل في مهنة الإخراج - إلى الجزيرة حيث كان جده أول طبيب يحاور الأشخاص الذين عملوا بالفيلم. ويستعرض فيلمه «كيف صنعت الأسطورة» (1978) فيلم «رجل من آران» كأسطورة صنعت من الواقع بمهارة. وقد كان الناس يذكرون فلاهرتي بإعزاز شديد، واستمتعت أجيال من سكان الإسكيمو أيضا بمشاهدة فيلم «نانوك»، معتبرين إياه هدية أتاحت لهم معرفة تقاليدهم.
أثار النقاد في تلك الفترة تساؤلات حول الهدف والأخلاقيات، خاصة فيما يتعلق بفيلم «رجل من آران»، وقد احتفى جريرسون وبول روثا - وهو رائد آخر من رواد ما عرف بالوثائقيات البريطانية - بفلاهرتي باعتباره أحد الفنانين العظماء الذين ارتقوا بالفيلم الوثائقي ليصبح فنا جميلا وليس مجرد تسجيل لأحداث، ويرى هذان المخرجان أن فلاهرتي قد افتقر إلى الضمير الاجتماعي والالتزام بالتواؤم مع العصر الصناعي الذي كان يمثل رمزا لحركتهما. وفي منتصف فترة الكساد العظيم، أثارت أعمال فلاهرتي حفيظة النقاد من يسار الوسط؛ إذ كتب الناقد البريطاني اليساري آيفور مونتاجيو يقول: «تماما مثلما تفعل هوليوود، ينشغل فلاهرتي بتحويل الواقع إلى خيال. وباعتباره شاعرا له عين شاعر، فإن المأساة هي أن كذبته هي الأعظم، لأن بإمكانه أن يجعل الخيال يبدو حقيقيا.»
بعد وفاة فلاهرتي، انقسمت الآراء النقدية إلى معسكرين، أطلق عليهما عالم الأنثروبولوجيا جاي روبي «فلاهرتي الأسطورة» و«فلاهرتي المخادع الرومانسي»، وقد أصبحت فرانسيس أرملة فلاهرتي، التي كانت عاملا مساعدا لا غنى عنه في كل مشروعاته الفنية، حامية الشعلة، فقد احتفت بما أسمته «منهج فلاهرتي»، الذي وصفته بأنها قدرة خاصة على «الاستسلام للمادة»، حتى يتمكن فلاهرتي من أن يعرض على المشاهدين «نظرته البريئة» للموضوع، وقد صاغت مصطلح «اللاتحيز» لوصف منهجه الذي صورته بأنه حدسي، وروحاني، ومعصوم من الخطأ. وقد رفضت هيلين فان دونجن، مونتيرة فلاهرتي في مشروعيه الأخيرين والشخص الذي كان يستخلص القصص من المشاهد، ادعاءات الروحانية التي أطلقتها فرانسيس فلاهرتي، ولكنها احتفت به باعتباره «شاعرا خياليا»، و«عبقريا»، وفنانا تقيد عمله بالمتطلبات التجارية بكل أسف.
كان لنمو الوعي المناهض للاستعمار، وظهور نخبة ثقافية وطنية في عصر الحرب الباردة في العالم الثالث، ونمو الأنثروبولوجيا الداعية لتدبر الذات؛ كل ذلك كان له دوره في تغذية الجدل الدائر حول «فلاهرتي المخادع الرومانسي»؛ إذ يذهب البعض إلى أن فكرته عن صراع الإنسان ضد الطبيعة عمقت افتراضات لا جدوى منها عن الشعوب الأصلية؛ فيبدو أن الشعوب الأصلية لا تحظى إلا باهتمامنا العاطفي حين تكون بعيدة عنا على مسافة آمنة، حيث توفر لنا مكانا للاسترخاء الذهني. أيضا ساهم صراع الإنسان مع الطبيعة في تعزيز فكرتنا عن الشعوب الأصلية كأشخاص سذج أشبه بالأطفال أو حتى الحيوانات الأليفة، وربما ضحايا للحضارة، وقد أدى ذلك بالناس إلى النظر بريبة إلى الجهود السياسية للسكان الأصليين للتأكيد على مزايا علاقتهم القائمة بالاقتصادات الأكبر، غير أن جاي روبي حذر علماء الأنثروبولوجيا من القسوة المبالغ فيها في الحكم على فلاهرتي قبل النظر إلى ممارساتهم الخاصة.
لا يزال تراث فلاهرتي قائما. يبرز فيلم «قصة الجمل الباكي» (2003) أسرة في صحراء جوبي تنقذ حياة جمل صغير تنبذه أمه من خلال تجسيد طقس شعبي يغني فيه أحد الموسيقيين للجمل. كتبت القصة وابتكرت فكرتها على يد صناع الفيلم، الذين كان أحدهم منغوليا. لقد جسدوا الحياة في صحراء جوبي منذ أجيال عديدة كما صورتها لهم مخيلتهم، بمساعدة أفراد مرحين عاديين في عائلة نموذجية مترابطة. وحين سئل المخرج المساعد للفيلم لويجي فالوني عن مصدر إلهامه، اعترف قائلا: «حسنا، سوف تضحك مني، ولكنه كان نانوك ابن الشمال.»
جون جريرسون
صنعت الحياة المهنية لجون جريرسون صراعات وتناقضات في مجال الأفلام الوثائقية ضاهت في روعتها تلك التي صنعها فلاهرتي على أقل تقدير. ولد جريرسون في اسكتلندا، وهو ابن لمعلم كالفيني محافظ، وعمل بالإخراج باعتباره أداة قوية لمواجهة المشكلة التي شغلت حياته: كيف تسيطر على الصراعات الاجتماعية في مجتمع صناعي ديمقراطي. بعد مشاركته في الحرب العالمية الأولى، شاهد صراعات عمالية وحشية في مدرسة بأحد الأحياء الفقيرة، وكان يلقي عظات عن الأعمال الخيرية، وفي النهاية فاز بإحدى منح روكفلر الدراسية في الولايات المتحدة. وهناك تأثر بالناقد والتر ليبمان الذي ذهب إلى أن مجتمعنا الذي يزداد تعقيدا يتطلب خبراء يستطيعون ترجمة القضايا للجماهير الذين كانوا سيصعقون من كم الخبرة اللازم لمواجهة أي قضية. انجذب جريرسون أيضا إلى مجال العلاقات العامة الناشئ، الذي ولد مع ظهور حركة الكفاح العمالي في أواخر القرن التاسع عشر. وأخيرا رأى في فيلم «نانوك» لفلاهرتي نموذجا مقنعا لقدرة الفيلم على جذب الجماهير نحو واقع آخر، وأسره فلاهرتي نفسه بسحره الدائم، وحين كتب عن فيلم «موانا»، احتفى بطابعه «الوثائقي»، ليضع بذلك تسمية نهائية لهذا الشكل الفني.
بعد عودته إلى بريطانيا، استطاع إقناع مسئولين بريطانيين بقوة الفيلم؛ إذ كان الوقت مناسبا لمثل هذه المناقشات، وفي عام 1927، أصبح جون ريث - وهو اسكتلندي أيضا - رئيسا لأول هيئة عامة لخدمات البث في العالم، وهي هيئة الإذاعة البريطانية، التي كانت مهمتها توعية وتحسين مستوى العامة، وكانت فترة الكساد العظيم قد تسببت في تفاقم التوترات الطبقية في بريطانيا وجعلت الاشتراكية - بل الشيوعية أيضا - بديلا يبدو معقولا لكثيرين، وفي نفس الفترة، ظهر أيضا عدد هائل من حركات الإصلاح الاجتماعي، كتلك التي أثارها برنامج الإصلاح الاقتصادي في الولايات المتحدة. كان الكثير من الفنانين من شتى الأطياف، كالمصورين والمخرجين الذين كان موضوعهم هو الواقع، يرون أن الفن يتضافر على نحو معقد مع الإصلاح السياسي والاجتماعي.
عينت هيئة التسويق الإمبراطورية جريرسون للترويج لفكرة الإمبراطورية ذاتها، وقد عرض له رئيسه الهدف بلا أي غموض: «إن مهمة الفيلم الوثائقي الحكومي في نظر الدولة هي الفوز بقبول هذا الجمهور الجديد للنظام القائم.» بعد الانتهاء من الفيلم الذي كاد يكون الفيلم الوحيد الذي أخرجه، وهو فيلم «قوارب الصيد» (1928) - وهو فيلم وثائقي يدور حول صيد أسماك الرنجة أنتج استجابة لاهتمام أحد المسئولين بهذا المجال - استعان بمجموعة من الشباب والقليل جدا من النساء، كان من بينهن شقيقته روبي، لتنفيذ أفلام لمصلحة كل من الحكومة والشركات الكبرى. وكان فيلم «بريطانيا الصناعية» (1932) محاولة لفطام البريطانيين من حنينهم لماض كان أكثر بساطة، غير أن جريرسون أخطأ بالاستعانة بفلاهرتي في تصوير الفيلم؛ فقبل استبعاده، لم يتجاوز فلاهرتي الميزانية فحسب، ولكنه صور مشاهد للحرفيين كان من شأنها أن تثير الحنين فعليا. وفي فيلم «مشاكل سكنية» (1935)، الذي أخرجه إدجار أنستي وروبي جريرسون وتولت تمويله شركة للغاز ووكالة للإسكان، أتاح الفيلم الفرصة لسكان الأحياء الفقيرة لشرح مأساتهم، وقدم الدعم لمشروع تطهير الأحياء الفقيرة. أما فيلم «البريد الليلي» (1936)، من إخراج بازيل رايت وهاري وات، ومساهمات من الشاعر دبليو إتش أودين والملحن بنيامين بريتن، فتعقب مسار خطاب من صندوق البريد حتى لحظة التسليم، ودار أغلبه في قطار للبريد (حيث كان الجزء الداخلي من القطار مسرحا للأحداث). وقد انبهر المشاهدون بالتعقيد الصناعي والبيروقراطي العسير للخدمات الحكومية، ومحاولة تلميع سمعة إدارة البريد، والتأكيد على الطبيعة المترابطة للمجتمع الحديث.
شكل 1-4: نظر جون جريرسون إلى الفيلم الوثائقي كأداة لتعزيز الترابط والبصيرة الاجتماعيين؛ فقد احتفى فيلم «البريد الليلي» بوحدة الإنسان والآلة في خدمة توصيل البريد البريطانية. الفيلم من إخراج هاري وات وبازيل رايت 1936.
روج جريرسون و«أعوانه» لمفهوم الفيلم الوثائقي كأداة للتوعية والتكامل الاجتماعي من خلال محاضرات وكتابات، وفي عام 1932 احتفى جريرسون بقدرة الفيلم الوثائقي على ملاحظة «الحياة في حد ذاتها» باستخدام أشخاص حقيقيين استطاعوا مساعدة الآخرين على تفسير العالم والقصص الواقعية، وقد قارن هذا ب «آليات المحاكاة والتزييف» و«الأهداف التجارية» في أفلام هوليوود التمثيلية، وقد نوه إلى قدرة فلاهرتي على السماح للواقع بفرض القصة، وإن كان قد تمنى أن «تزول النزعة الضمنية لفلسفة روسو الحديثة في أعمال فلاهرتي بزوال نفسه الاستثنائية الرائعة من الوجود»، في إشارة إلى رومانسية فلاهرتي. كان التحدي الحقيقي - كما يقول - هو تطبيق الإبداع على «مهمة تنظيم الفوضى العارمة للحاضر»، ونقل فكرة «أمينة وواضحة ومخلصة تحقق أسمى غايات المواطنة»، ولتحقيق ذلك، كان من المهم تجاوز التركيز على الأفراد والتوجه نحو الخطوات العملية.
تزايدت حدة جريرسون في التعبير عن الوظيفة الاجتماعية للفيلم الوثائقي، حتى على حساب «الجانب الجمالي»؛ ففي عام 1942، أكد على أن «فكرة الوثائقيات لم تكن في الأساس فكرة فيلم على الإطلاق، وإنما «فكرة جديدة للتوعية العامة»، وكان يرى الدولة كيانا عادلا ومحايدا لإدارة الديمقراطية الاجتماعية، وكان يعتقد أن الشركات كان بإمكانها أن تستخدم العلاقات العامة لتحقيق المصلحة العامة لو اعتمدت على الحقيقة، ولم تكن حقيقة أنه أيد استخدام بعض أساليب مروجي الدعاية النازية نفسها تثير ضيقه: «بإمكانك أن تكون «مستبدا» لمصلحة الشر، وبإمكانك أيضا أن تكون «مستبدا» لمصلحة الخير.» وأيد جريرسون الفصل الحاد بين الأفلام الوثائقية والسينما الترفيهية. ولإيمانه بأن هوليوود لا يمكن قهرها ولا يمكن الانضمام إليها، فقد ذهب إلى أن الفيلم الوثائقي ينبغي أن يسعى لمخاطبة الدوائر غير التجارية والوفاء بتوقعات مختلفة تماما بين المشاهدين.
أصبح جريرسون مستشارا لكل من الشركات والحكومات التي كانت تبحث جميعا عن أحدث الوسائل في العلاقات العامة، وكان تأثيره واسع النطاق؛ ففي كندا، حيث قضى جزءا كبيرا من الحرب العالمية الثانية، أطلق المجلس القومي للسينما بكندا، الذي ما زال قائما حتى الآن، وأجرى مشاورات مع كل من الحكومة الأمريكية والبريطانية، وساعده زملاؤه في تأسيس المجلس القومي للسينما بأستراليا، وعمل مستشارا لقادة حكومة جنوب أفريقيا، ولسوء الحظ - كما وثق كيان توماسيلي - وقع ضحية هناك لمؤامرة من المستوطنين البيض المؤيدين للتمييز العنصري وزكى مقترحاتهم باسم الوحدة الوطنية، وانهار دور جريرسون كقائد في مجال الأفلام الوثائقية، بل كقائد في حركة الفيلم الوثائقي الاجتماعي البريطاني ذاتها، بعد الحرب العالمية الثانية، غير أن رؤيته للفيلم الوثائقي كمشروع للتوعية الاجتماعية كان لها تأثير عميق على صناعه لاحقا.
ركز النقد المعاصر لأعمال جريرسون تركيزا كبيرا على قضية الفاعلية؛ هل كانت الأفلام ثورية على نحو مبالغ فيه؟ لقد جسدت الأفلام طبقة العمال، وهو ما كان صدمة للكثيرين في المجتمع البريطاني الطبقي. هل كانت ستحظى بشعبية كافية؟ هل كانت ستتسم بالجرأة الكافية من الناحية الجمالية؟ ردا على هذه التساؤلات، زعم بول روثا في كتاب «الفيلم الوثائقي» أن الحركة كانت «أهم إسهام لهذا البلد في السينما ككل»، وأصبح هذا الإعلان بمنزلة حكمة مقبولة عالميا، وأصبح جريرسون رمزا جليلا شبه أسطوري لتاريخ الاتصالات البريطانية والكندية، وتحقق ذلك جزئيا من خلال الجهود الترويجية لأنصار جريرسون أنفسهم.
فيما بعد جاءت مدرسة بحثية أخرى أخذت على عاتقها مهمة هدم الأسطورة، كما لخص إيان أيتكين وجاك إليس، وصنفت جريرسون في زمانه ومكانه كأحد الأبطال الأوائل للعلاقات العامة، ووجه البعض اتهاما بأن ادعاء روثا تجاهل جهود الأفلام المنافسة في ذلك الوقت وأنه يخدم أغراضا شخصية، وانتقد آخرون أعمال جريرسون لسذاجتها حيال تداعيات الواقعية، وأشاروا إلى ثقافة الطبقة الوسطى ذات الطابع الذكوري المحتفى بها في أفلامه.
وعلى الرغم من أن جريرسون أظهر توجها يساريا واتهم بأنه يساري، فقد أشار النقاد فيما بعد إلى رجعيته ورغبته في الحفاظ على الأوضاع الراهنة، وقد ذهب جويس نيلسون، على إثر دراسة متفحصة لأداء جريرسون في كندا، إلى أن جريرسون قد قلل من أهمية القومية الكندية لخدمة وحدة دول الكومنولث، وأنه أيد سيطرة هوليوود على الأفلام السينمائية الكندية باستراتيجيته الانفصالية للأفلام الوثائقية.
لعل أشد نقاد جريرسون قسوة هو الباحث والصحفي الإذاعي البريطاني السابق براين وينستون، الذي ذهب إلى أن مشروع جريرسون قد أثر سلبا على هذا الشكل الفني، الذي تجنب تحمل مسئولية دوره كمبلغ للحقيقة باللجوء إلى ادعاءات فنية؛ تلك «المعالجة الخلاقة» للواقع، غير أن تجنب تلك المسئولية بادعاء أنه كان يخدم هدفا اجتماعيا أسمى لا يدخل ضمن التحديات الفنية؛ فقد تجنب مسئولية ذلك الهدف الاجتماعي؛ أي وظيفته الترويجية، بادعاء أنه ليس إلا مبلغا للحقيقة، وأخيرا، تجاهل جريرسون الأدلة على أن أفلامه الوثائقية لم ينظر إليها على نطاق واسع ولو باعتبارها نتاجا ثانويا للسينما التجارية، وأن المحيط غير السينمائي كان مدفوعا بالمهمة التربوية وليس بتقدير الشكل الوثائقي. لقد كانت أفلام جريرسون الوثائقية تحمل نية خبيثة، وهي تدعيم مصالح من كانوا يمولونها وخنق الإبداع، وقد ذهب وينستون إلى أن المخرجين لا بد أن تكون لديهم الحرية لسرد القصص التي يعتبرونها مهمة، دون ذلك الادعاء الرنان بأنهم يؤدون خدمة اجتماعية، أو تلك الادعاءات الروحانية بأنهم يوفرون مدخلا فريدا للحقيقة.
وقد أكدت إليزابيث ساسيكس، التي حاورت الكثير من أنصار وثائقيات جريرسون البريطانية، أن رؤية جريرسون لشكل فني يمكنه أن يجعل المشاهدين على وعي بسياقهم الاجتماعي ظلت حية بالفعل ونقلت إلى جيل آخر لكي ينفذها على نحو مختلف. وفيما يعد لفتة رائعة لرجل كان يفتخر بتغييره للعالم، قال روثا لاحقا: «لا أعتقد أن الأفلام في حد ذاتها لها أدنى أهمية، المهم هو نوعية الروح الكامنة وراءها.»
التفت النقاد لاحقا لهذه الأهمية؛ لأن الحركة التي دشنها جريرسون وروج لها بحماس بالغ تركت بصمة كبيرة على صناعة الأفلام الوثائقية، وقد أصبحت كتابات هذه المجموعة نصوصا أساسية لصناع الأفلام الطموحين. أيضا كان للمؤسسات التي أنشأها جريرسون، أو كان ملهما لإنشائها، خاصة المجلس القومي للسينما بكندا، أهمية لصناع الأفلام الوثائقية، وكان مفهوم الفيلم الوثائقي كمشروع ذي هدف اجتماعي في صميمه، ومفهوم المخرج الوثائقي كسفير للتقدم الاجتماعي، مقنعين لأبعد الحدود مهما كانت الظروف، وأصبح نموذج العمل للدعم الحكومي أو المؤسسي مع التوزيع غير التجاري وغير السينمائي مقبولا على نطاق واسع. لقد جعل فلاهرتي تجسيد الواقع فضيلة جمالية، وجعلها جريرسون مهمة اجتماعية.
دزيجا فيرتوف
العلم المؤسس الثالث في مجال الوثائقيات هو المخرج الروسي الثوري دزيجا فيرتوف (دينيس أركاديفيتش كوفمان). كان فيرتوف مخرجا وكاتبا معارضا نيابة عما كان يسمى في روسيا الأفلام «الواقعية»؛ فقد كان مناصرا لقيمة الحقيقة الفريدة ل «تسجيل الحياة كما هي»، أو اللحظة التي لم يسبقها أي استعداد، وكان يؤمن بأن الفيلم الوثائقي هو الوسيلة الإعلامية المثالية للثورة، الذي لا يجب أن يزدهر فحسب، بل لا بد للفيلم الروائي أن يندثر باعتباره إنكارا لقدرات هذا الشكل الفني. ومع تحول الثورة الروسية إلى ديكتاتورية، أصبح فيرتوف غير ذي نفع للنظام، وتعرضت أعماله للتجاهل في عهد الاتحاد السوفييتي، ولكن ظل فيرتوف لعشر سنوات بعد قيام الثورة علما مؤسسا للسينما في روسيا وعلى المستوى العالمي على حد سواء. على الرغم من أنه قد أصبح «نكرة» في تاريخ سينما بلاده خلال العصر الشيوعي، فقد ظل مصدر إلهام مستمرا للفنانين الطليعيين ومخرجي الأفلام الوثائقية في كل مكان.
مزج فيرتوف - باندفاع - ادعاءات الفن والعلم للفيلم الوثائقي، الذي كان يعتبره أساس الفيلم كوسيط. كان حلمه أن «تقدم صناعة السينما الأفلام «الواقعية» على الأفلام التمثيلية، وأن تستبدل التوثيق بالتمثيل، وأن تتحرر من ساحة المسرح، وأن تدخل إلى ساحة الحياة نفسها»، وقد كان ينظر إلى الكاميرا باعتبارها «العين الميكانيكية ... الآلة التي تظهر العالم كما هو، الذي لا أستطيع أن أرى سواه». كانت الكاميرا ملحقا افتراضيا للقدرة البصرية الإنسانية الضعيفة؛ فقد كان بإمكانها رؤية مناظر بانورامية من ارتفاعات شاهقة، والتحديق من نوافذ الطابق الثاني، والسفر لمسافات بعيدة. كان يؤمن، ومعه آخرون، بأن الماركسية علم جديد للمجتمع، وكان يرى أن علم الكاميرا المذهل يجب أن يندمج مع تحليل ماركسي ثوري خلال عملية المونتاج، لخلق أداة علمية للثورة فيما سماه «فك التشفير الشيوعي» للمادة، وهكذا اقترنت قوة الآلة بقوة الأيديولوجية.
كانت السينما في اعتقاده الوسيط المثالي للمجتمع الشيوعي الجديد الذي كان يولد في روسيا، لأنها تصور حقائق الحياة الواقعية، ولا تكذب على الناس أو تلهيهم، ولأنها كانت تمثل الحداثة الرائعة المدفوعة بالآلة التي كانت الشيوعية السمة المميزة لها، وقد حط من شأن الفيلم «الفني»، الذي يعني فيلما ترفيهيا. كان فيرتوف أيضا فنانا طليعيا، وتلك هي الهوية التي لازمته.
كان الشاب دينيس كوفمان، اليهودي الذي كان يعيش في دولة معادية للسامية، لا يزال طالبا بالجامعة حين أطلق على نفسه ذلك الاسم الغريب دزيجا فيرتوف (بمعنى «الرجل الذي يصور من أعلى»)، وكطالب يدرس الطب في واحد من الأماكن القليلة التي كانت تقبل اليهود في مدينة بتروجراد (سان بطرسبرج) التي تميل إلى الأوروبيين، تشبع بالثقافة الفنية للحداثة، ليلتقي بعد ذلك بالمستقبلية، وهي حركة طليعية احتفت بالجديد والحديث والآلة، وكان عاشقا لأعمال الشاعر الأمريكي والت ويتمان.
أتاحت له الثورة فرصة العمل على «قطارات دعاية التهييج» التي دفعت بالدعاية الثورية إلى جبهات الصراع، وعمل في الجرائد السينمائية، وحرر عشرات الأعداد (تراوحت مدة كل منها ما بين عشر دقائق إلى عشرين دقيقة) من مجلة «كينو-برافدا» (1925)، أو سينما الحقيقة، وقد استوحت اسمها من الجريدة الحزبية «برافدا»، وكان إشارة أيضا إلى قوة الفيلم الوثائقي. كانت الجرائد السينمائية تنقل المشاهدين إلى أجزاء نائية من الاتحاد السوفييتي الجديد، وتجلب لهم أخبار المحاكمات السياسية، وتعرض لهم الدبابات القيصرية أثناء إعادة نشرها لبناء المرافق العامة، إلى جانب الأحداث الرياضية، والحوادث، وعمليات توصيل الكهرباء التي كانت من الأشياء المفضلة لدى الجمهور، وكانت تحتفي بعجائب الحضارة والحداثة والآلات، وكانت تعرض في جميع أنحاء البلاد قبل بدء عروض الأفلام السينمائية، وكذلك في الأندية، وأماكن العمل، والمناطق الريفية، ورأى فيرتوف الدهشة والانبهار على وجوه الفلاحين الذين لم يسبق لهم أن شاهدوا أي أفلام من قبل.
وبينما كان يعمل في الجرائد السينمائية، أدرك فيرتوف المزيد والمزيد من الإمكانات المثيرة في هذا الوسيط؛ فأصبح مبشرا للفيلم الواقعي أو الوثائقي. كون مع مونتيرته وزوجته فيما بعد إليزابيث سفيلوفا وشقيقه ميخائيل كوفمان «مجلسا ثلاثيا»، جمع المجلس الثلاثي من حولهم مجموعة من الأنصار المتحمسين، وأطلقوا على أنفسهم عيون السينما، وقد أصدروا بيانات وتصريحات هجومية استفزازية مثل بيان «نحن: بيان رسمي من شكل مختلف»، الذي دعا المشاهدين إلى العزوف عن «العناق العذب للقصص الغرامية، وعن سموم الرواية النفسية، وعن براثن سينما الخلاعة، والإعراض عن الموسيقى» والتوجه نحو «الواقع المفتوح، ونحو الأبعاد الأربعة (ثلاثة زائد الزمن) بحثا عن جوهرنا، وعن مقياسنا وإيقاعنا.»
على الرغم من أن فيرتوف أكد تأكيدا قاطعا غير قابل للشك على الإعجاز العلمي لعين الكاميرا وقدرتها على إخبار الحقيقة على نحو يتجاوز الأبعاد البشرية، فقد حذا حذو فلاهرتي وجريرسون حين ذهب أيضا إلى أن الراوي البشري كان له أهمية بالغة: «ليس كافيا أن تعرض أجزاء من الحقيقة على الشاشة أطرا منفصلة للحقيقة. ولا بد من ترتيب هذه الأطر حسب الموضوع بحيث يشكل الكل حقيقة أيضا.» ومثل «العين البريئة» للفنان التي نادى بها فلاهرتي، وادعاء جريرسون أن الفيلم الوثائقي «معالجة خلاقة للواقع»، كان ادعاء فيرتوف بحق المونتير في تنظيم فوضى الحياة الواقعية في واقع شيوعي بمنزلة تصريح لمخرج الفيلم بأن يفعل كل ما يحلو له. لقد أطلقوا جميعا ادعاءات متطرفة لقيمة الحقيقة في أعمالهم، وفي نفس الوقت صوروا صانع هذا العرض الصادق فنانا يحتاج إلى الحرية لكي يبدع.
أراد فيرتوف أن يروي قصة عن روعة المجتمع الشيوعي، وأهمية ونبل الكفاح والتضحية لبنائه، لقد كان أكثر ثورية من كثيرين آخرين في تلك الفترة، في سياق السياسة والفن على حد سواء؛ فعلى خطى تروتسكي، طالب فيرتوف بتأميم كامل للاقتصاد وتحويله إلى الاشتراكية، وقد أعلن فيلمه الوثائقي الأول «عين السينما» (1924) عن نفسه للمشاهدين باعتباره «الاستكشاف الأول للحياة كما هي، وأول عمل سينمائي غير مصطنع بدون سيناريو، أو استوديو، أو ممثلين». فمن خلال مجموعة صور متلاحقة خضعت لعملية مونتاج حادة ويصعب متابعتها، استنكر الفيلم الدلائل المستمرة على وجود الرأسمالية والفساد في المجتمع. بعدها أخرج ثلاثة أفلام أخرى في تتابع سريع، أبرز كل منها تجارب في المونتاج استخدمت أسلوب تجاور المتناقضات لإقامة صلات بينها وبين الفيلم الواقعي.
كانت أعمال فيرتوف تأسر النقاد وتضعهم في حيرة، وتثير حنق الأصدقاء، وتثير جدالا عنيفا بين صناع الأفلام بما احتوته من تحد وبابتعادها المتعمد عن التقليدية، فخلق الكثير من العداوات، وفقد عمله بموسكو، ووصل الجدال إلى ذروته مع ظهور عمله الرائع «الرجل ذو الكاميرا السينمائية»؛ فبالتعاون مع زوجته وشقيقه المصور السينمائي مايكل، أبدع واحدا من أكثر أعماله السينمائية إذهالا وإثارة للفكر على الإطلاق. أعد هذا الفيلم لكي يكون بانوراما شاملة لأمة في طور التحول، صارت فيها الحياة اليومية للأشخاص العاديين جزءا من قصيدة معاصرة رائعة دون وعي منه بذلك. لو أن والت ويتمان سمع أمريكا تغني، فإن دزيجا فيرتوف سمع الاتحاد السوفييتي يغني.
ينتمي فيلم «الرجل ذو الكاميرا السينمائية» إلى أفلام سيمفونيات المدن، ويتبع أسلوب تصوير يوم في حياة إنسان مدعوما بخيال سينمائي؛ فالمشاهد يدخل مع رواد إحدى دور العرض، وينتهي الفيلم بخروجه، وفيما بين اللحظتين يستخدم المصور السينمائي سحر الكاميرا لاصطحاب المشاهد إلى داخل مواقف خاصة جدا (كميلاد طفل، أو طلاق زوجين) عبر مناظر طبيعية رائعة، وداخل أماكن عمل وصالات ألعاب رياضية، وقد عرض المصور والمونتيرة طرائف مرئية، وهي مؤثرات خاصة مصممة من أجل إضفاء المتعة على عرض عجائب هذه التكنولوجيا الجديدة التي تمكنت من إبرازها من خلال التجسيد.
وفي النهاية، علق الفيلم على قدرة واستمتاع مخرج الفيلم بنفس القدر الذي علق به على الإنجازات الاستثنائية للمجتمع الروسي الجديد، وكان هذا تقليدا متوافقا مع نظرية فيرتوف التي دافع عنها بضراوة عن القدرة الفائقة للفيلم الوثائقي، ليس فقط على رصد المجتمع، بل أيضا على رؤيته وتخيله على نحو يختلف عن كونه مجموعة من البشر فقط. وقد تباهت الإشادات الاستهلالية للفيلم بما يتطلع إلى تحقيقه: «هذا العمل التجريبي موجه لخلق لغة سينمائية بحتة حقيقية وعالمية، مختلفة تماما عن لغة المسرح والأدب.»
كان العمل مصدر إبهار وبهجة للفنانين والنقاد في جميع أنحاء العالم، وهو ما يعزى في جزء منه إلى كون ألغازه وغموضه قد أثارت فضولهم بشكل ممتع للغاية، وبالطبع عززت أيضا من تقدير الفنانين لأنفسهم. أما الجماهير الروسية، التي أخذت تختار بشكل متزايد بين الأعمال الكوميدية والدرامية الترفيهية من الأفلام الإقليمية وكذا الأفلام الدولية الرائجة، فقد شعروا بالعكس؛ فقد اشتكوا من أنهم لم يستطيعوا معرفة ما يدور حوله الفيلم، وهكذا كان الفيلم سببا في تدمير مستقبل فيرتوف الذي كان مهددا بالفعل داخل الاتحاد السوفييتي الذي كان يزداد صرامة وقسوة، حيث تعرض التجريب السياسي والفني على حد سواء للقمع. وبعد تجربة مثيرة شكليا في الصوت من خلال فيلم «الحماس» أو «سيمفونية دون بيسين» (1931)، وجد فيرتوف صعوبة في العمل في مجال تسيطر عليه الحكومة، ولم يلق مذهبه التجريبي الصارم والدقيق قبولا، وحلت محله الأعمال المبتذلة التي يسهل استيعابها، وفي سنواته الأخيرة جرى استغلاله في مونتاج الجرائد السينمائية والأفلام الوثائقية المملة التي تمجد ستالين.
وعلى الرغم من أن أعمال فيرتوف قد ولدت طاقة هائلة بين الدوائر الفنية والسياسية في الاتحاد السوفييتي، فإنها لم تحظ بمشاهدة واسعة هناك، فلم يعرض فيلم «عين السينما» (1924) جماهيريا سوى مرة واحدة فقط، فيما عرض فيلم «إلى الأمام أيها السوفييت» (1926) لفترة قصيرة في ثلاث دور عرض وبدون دعاية، أما فيلم «سدس العالم» (1926)، فلم يعرض على شاشات العرض الأول، فيما عرض فيلم «العام الحادي عشر» (1928) لآلاف المتفرجين الأوكرانيين، وعرض فيلم «الرجل ذو الكاميرا السينمائية» محليا، ولكن لم يلق تقديرا من الجماهير العامة، وقد وجد الرائد السينمائي، وأحد أوائل المعجبين بفيرتوف، سيرجي أيزنشتاين، نفسه يزداد سخطا من جراء ما سماه «عبث الكاميرا الخالي من أي دافع» لفيرتوف (وهو ما رد عليه فيرتوف بقوة بأن على أيزنشتاين أن يحترم قوة الواقع بدلا من تزييف الحقيقة من خلال الحكي).
شكل 1-5: جرب الفنان الثوري الروسي دزيجا فيرتوف أساليب شكلية صادمة في فيلمه «الرجل ذو الكاميرا السينمائية». الفيلم من إخراج دزيجا فيرتوف عام 1929.
وعلى الرغم من التلويث الذي طال سمعة فيرتوف في الاتحاد السوفييتي، فقد بقيت سمعته حية، والفضل في ذلك يرجع جزئيا إلى حماس فناني الغرب له، وقد كان أيضا علما مهما للكتاب المناهضين للشيوعية، مثل هيربرت مارشال الذي أرخ لمشواره الفني كواحد من كثير «من السير الذاتية الإبداعية المقيدة» للاتحاد السوفييتي، وأحيا سمعته الباحثون والخبراء، ومن أهمهم المؤرخ السينمائي جاي ليدا الذي شهد السنوات الأولى للسينما الروسية، والباحثة السينمائية آنيت مايكلسون، التي نشرت وحللت أعمال فيرتوف بالإنجليزية.
ظلت تحديات وتجارب فيرتوف مستفزة لأجيال من المخرجين الطليعيين: فقد تخيل شكلا سينمائيا يتجاوز الأفق الضيقة للسرد والحكي البسيط. لقد كانت نوعية الواقعية التي اختارها روبرت فلاهرتي، والتي تروي قصة عن صراع الإنسان للبقاء سواء ضمنيا أو صراحة، ممقوتة لفيرتوف وللمخرجين الذين أرادوا استخدام الفن لتحطيم التوقعات بشأن الوضع الراهن، وكانت أعماله وأعمال أيزنشتاين تشكل أهمية لجون جريرسون، الذي انجذب لادعاءاتهم بأنه بإمكان الفيلم أن يخدم التغيير الاجتماعي. وقد كان المخرجون في فترة الستينيات الذين تحرروا مما صار تقاليد تمثيلية في الفيلم الوثائقي يتخذون من فيرتوف بطلا أسطوريا؛ فقد صرح مارتن سكورسيزي، بعد أن اختار عشوائيا فيلم «الرجل ذو الكاميرا السينمائية» في أحد محلات الفيديو، بأنه قد افتتن بالإمكانيات التي فتحها أمامه. ولا تزال تجارب فيرتوف شبه المتماسكة التي تتسم بالغموض والثقة الجامحة في نفس الوقت، تدهش المتفرجين وتلهم صناع الأفلام.
لقد وضع الأعلام المؤسسون الثلاثة ثلاث مجموعات متباينة من التوقعات بين كل من صناع الأفلام والمشاهدين للفيلم الوثائقي: الترفيه الذي يسمو بالنفس (فلاهرتي)، والحكي النافع اجتماعيا (جريرسون)، والتجربة المثيرة للفكر (فيرتوف)، وقد أصبحت أسماؤهم مرادفا لهذه المناهج، وتحول ثلاثتهم إلى رموز أيقونية للأجيال التالية من صناع الأفلام الوثائقية.
سينما الواقع
تعرضت التقاليد والممارسات التي دشنها الثلاثي الأسطوري المؤسس للفيلم الوثائقي لتغيير جذري عنيف خلال ثورة الستينيات التي تعددت تسمياتها ما بين سينما الواقع، والسينما المباشرة، وسينما المراقبة والرصد؛ فقد خرج هذا الشكل إلى حد بعيد عن التقاليد والممارسات الوثائقية المعمول بها آنذاك؛ من التخطيط المسبق، وكتابة النص، والتمثيل، والإضاءة، وإعادة التجسيد، والمقابلات الشخصية. كانت كافة هذه المناهج متوافقة مع مواطن القصور التي شابت أجهزة ال 35 ملليمترا التي اتسمت بالضخامة وثقل الوزن، وكانت ملائمة أيضا لتوقعات الجمهور في ذلك الوقت، أما سينما الواقع (من منطلق استخدام مصطلح شامل شائع)، فقد وظفت تكنولوجيا ال 16 ملليمترا، التي صارت أكثر شيوعا ووجودا بعد أن نشرها الجيش خلال الحرب العالمية. كانت سينما الواقع تتحدث بصوت جديد عن موضوعات غالبا ما كانت مختلفة، وكان مخرجو سينما الواقع يصطحبون أجهزة ال 16 ملليمترا الأخف وزنا داخل أماكن لم تر من قبل - كبيوت العامة من الداخل، وساحات الرقص مع المراهقين، والغرف الخلفية في الحملات السياسية، وفي الكواليس مع المشاهير، وعلى خط الهجوم مع المهاجمين، وداخل مستشفيات الأمراض العقلية - ويصورون ما يرونه، وكانوا يأخذون كميات ضخمة من المشاهد المصورة إلى داخل غرف المونتاج، ومن خلال المونتاج كانوا يجدون قصة لسردها. وقد استخدموا ابتكار الصوت المتزامن - حيث أصبح بإمكانهم لأول مرة تسجيل الصورة والصوت في آن واحد في شريط 16 ملليمترا - لاستراق السمع على المحادثات العادية، وفي أغلب الأحيان كانوا يستغنون عن السرد.
ويعمل الممارسون الآن على توسيع المجال، بمن فيهم المخرجون الذين سبقت أعمالهم ظهور هذه الحركة، مثل المخرجة الفرنسية الأسطورية أجنس فاردا («جامعو القمامة وأنا» 2000)، والمخرجون الذين تشكل أعمالهم التقليد الحالي المعمول به مثل البريطاني كيم لونجينوتو، والصينية وانج بينج («غرب المضامير» 2003)، وغيرهما من المخرجين الصاعدين. ومن أحد مظاهر شيوع اختيار المخرجين الطموحين هذا الأسلوب مشروع خطوات نحو المستقبل (2002)، تناول هذا الإنتاج العالمي المشترك بين تليفزيون جنوب أفريقيا الوطني والعديد من تليفزيونات الخدمة العامة الأوروبية موضوع الإيدز المثير للجدل في جنوبي أفريقيا، وقد نتج عن ذلك حوالي ثمانية وثلاثين فيلما نفذ أغلبها على يد مخرجين جدد، وباستخدام تقاليد سينما الواقع.
التطور
بدأت هذه الثورة في الأسلوب في فترة تصاعد انعدام ثقة المستهلكين في سلطة الإعلام الرأسي المتجه من أعلى لأسفل، الذي يحتمل أن يكون قد تأجج بفعل تجربة العامة مع دعاية الحرب العالمية الثانية، وتأجج بالتأكيد بصعود الإعلان كلغة عالمية للإقناع وقوة تأثير وسائل الإعلام، وقد كان لانعدام الثقة ذاك في حد ذاته جذور راسخة في تيار أكثر اتساعا للحركات الاجتماعية المناصرة للعدالة، والمساواة، والانفتاح السياسي، والاحتواء؛ فقد وصلت هذه الحركات لكل ركن في العالم وأسفرت عن انتهاء الاستعمار، وتغيرات في الحكومات، وانتصارات في مجال حقوق الإنسان للجماعات التي كان يمارس ضدها تمييز، والتي تتراوح من الطبقات المنغلقة المتدنية إلى النساء وذوي الإعاقة.
في الواقع لم يكن لبوادر هذه الحركة علاقة بالتكنولوجيا؛ فالأفلام التي انبثقت عن حركة السينما الحرة البريطانية في أواخر الخمسينيات تتميز بالسخرية من التفويض الجاد لجريرسون بالتوعية والتعليم في خدمة الوحدة الوطنية، لقد حررت حركة السينما الحرة نفسها بالفعل من ذلك التفويض تماما، ففي فيلم «أرض الأحلام» (1953) لليندساي أندرسون، وفيلم «ماما لا تسمح» (1956) لكاريل رايس وتوني ريتشاردسون، يصطحب المشاهد في إجازة مع أطفال من الطبقة العاملة يذهبون إلى مكان ترفيهي وأحد أندية الجاز. لم تكن الأفلام تقيم شخصياتها ضمنا أو تملي على المشاهدين ما عليهم استنتاجه مما يشاهدونه، ولم تخبر مشاهديها بأن ما يشاهدونه مهم، لقد كانت الأفلام فرصا لإنعام النظر في لحظات الاستمتاع في حياة الأشخاص العاديين، وتعبيرات صريحة عن الاهتمامات الشخصية لمخرج الفيلم. ثمة أعمال أخرى اتخذت موقفا أخلاقيا متمردا قويا يخالف الأوضاع الراهنة؛ على سبيل المثال، قدم المخرج الفرنسي جورج فرانجو فيلم «دماء الوحوش» (1949)، وفيلم «فندق العاجزين» (1949) وصور من خلالهما جانبا من مجزر ودار لرعاية المحاربين القدامى على التوالي، وقد كشف «دماء الوحوش» النقاب عن الوحشية الكامنة خلف عملية التوريد الروتيني للحوم، وأقام مقارنات ضمنية بين ذبح الحيوانات وذبح البشر، أما الفيلم الثاني، فكان معارضا للنفوذ العسكري والإكليروسي معارضة صريحة.
وسرعان ما طبق المخرجون في كندا والولايات المتحدة وفرنسا الابتكارات التكنولوجية للترويج لطريقة جديدة في تنفيذ الأفلام الوثائقية، وقد مولت شركة تايم لايف برودكاستينج تجارب لروبرت درو، الذي عمل مع المهندس دي إيه بينبيكر، والمخرجين ديفيد وألبرت مايسلز وريتشارد ليكوك (وقد أصبح ليكوك مهووسا بالأفلام الوثائقية من خلال عمله مع فلاهرتي في فيلم «قصة لويزيانا»). وبمساعدة مخرج الأفلام الوثائقية والمهندس الفرنسي جان بيير بوفيولا، نجح هؤلاء المخرجون المبتكرون في تطوير نظام يسجل الصوت المتزامن مع اللقطات دون أن يتطلب ذلك الجمع بين أبطال الفيلم وجميع الأجهزة معا.
ازدهرت هذه التجارب في الولايات المتحدة، وإن لم يحالفها النجاح دائما، فقد تتبع فريق درو معركة انتخابية بين جون كينيدي وهوبرت همفري في فيلم «الانتخابات الأولية» (1960)، الذي رفض القائمون على البرامج في شبكة إيه بي سي إذاعته لما انتابهم من حيرة بشأنه، قائلين إنه يشبه «النسخ المتعجلة» (المعروف اليوم بالمشاهد غير الممنتجة)، أما اليوم فصار يبدو محكم الصنع، على الرغم من أنه ينقل نوعا من الفورية حابسة الأنفاس، كما ذكرت جين هول، ولا تزال شبكة إيه بي سي تعمل في هذا الشكل الفني، على الرغم من أنها تعيد تصوير المادة بحرية لتناسب أغراض الشبكة وأهدافها؛ على سبيل المثال، حين أنتج ريتشارد ليكوك فيلم «عيد أم سعيد» (1963)، وهو فيلم عن ميلاد التوائم الخماسية، أظهر سمات تجارية بالغة للاحتفالات العامة بالمواليد، أعادت شبكة إيه بي سي المشاهد لتحوله إلى قصة مؤثرة لبلدة تتحد لمساعدة الأسرة (وقد طرح ليكوك النسخة الأصلية فيما بعد).
أثارت سينما الواقع (التي تسمى أحيانا السينما المباشرة، أو سينما المراقبة والرصد، أو العين الصريحة، على اسم أحد المسلسلات التليفزيونية في كندا) حماس المخرجين بإمكانياتها، فقد أنتج ديفيد وألبرت مايسلز سلسلة من الأفلام الوثائقية المدهشة احتفي بها في دوائر الروائع الفنية التي كانت آنذاك شريانا حيويا في الثقافة السينمائية؛ ففي فيلم «البائع» (1968)، تتبع الأخوان مجموعة من بائعي الأناجيل الذين كانوا يعيشون تناقضات الحلم الأمريكي، وهم يبيعون كتابا مقدسا بإلحاح. لقد حولت مونتيرة الفيلم تشارلوت زويرين لقطاتهما إلى تراجيديا أمريكية، فكان الفيلم تعبيرا حزينا ومثيرا للمشاعر عن انهيار حلم انطلق في ذروة الانقسامات الاجتماعية في البلاد حول حرب فيتنام والقيم الثقافية، وعلى الرغم من أن فيلم «البائع» قد احتوى على معان اجتماعية ضمنية حادة، فقد تفادت معظم أعمال الأخوين مايسلز الموضوعات السياسية.
شكل 1-6: حول فيلم «البائع»، أحد كلاسيكيات سينما الواقع، بيع الأناجيل إلى حكاية رمزية عن الحلم الأمريكي. الفيلم من إخراج ألبرت وديفيد مايسلز عام 1968.
وفي المجلس القومي للسينما بكندا، أصبحت سينما الواقع - التي بدأت كصفعة على وجه الأخلاقيات الاجتماعية - أسلوبا أساسيا لوحدة من المفارقة، من المفارقة أن جون جريرسون هو من أسسها. وقد كان واحد من الأفلام الرائدة في هذا الاتجاه صورة لمحبوب المراهقين بول إنكا، وهو فيلم «الصبي الوحيد» (1961)، الذي أطلق الشرارة لفئة كاملة من الأفلام التي تتناول كواليس حياة المشاهير. وقد تبنى برنامج تحدي التغيير التابع للمجلس القومي للسينما بكندا - الذي أطلق في عام 1966 على يد كولين لو وجون كيمني لتشجيع ظهور أصوات وقضايا جديدة في الأفلام الوثائقية الكندية، وهو ما كان يحدث جزئيا من خلال تدريب الهواة على استخدام الكاميرا - سينما الواقع كلغة طبيعية له، وعلى الفور سارع جريرسون، المتلهف دائما لإظهار تأثيره، إلى الادعاء أن برنامج تحدي التغيير لم يكن إلا محاكاة لتقليده الخاص بتوثيق المشكلات الاجتماعية.
استغل المخرجون في جميع أنحاء العالم فرص العرض السينمائي الواقعي التي أتاحها هذا المنهج؛ على سبيل المثال، أخرج ناجيزا أوشيما للتليفزيون الياباني فيلم «الجيش الإمبراطوري المنسي» (1963) عن المحاربين الكوريين القدامى بالجيش الياباني الذين وجدوا أنفسهم وسط صراع بين كوريا واليابان ودون الاستعانة بخدمات المحاربين القدامى. قدم أيضا المخرج المعروف كون إيشيكاوا فيلم «أوليمبياد طوكيو» (1965)، وهو إشادة ساخرة بعمل الألمانية ليني ريفينشتال الذي نفذ بإتقان وحرفية لمصلحة الحكومة النازية، فقد راقب إيشيكاوا الرياضيين عن كثب وصورهم لا كرموز للأمة كما فعلت ريفينشتال، ولكن كأفراد يكافحون من أجل مجدهم الشخصي. وفي الهند، أنتجت «السينما الموازية» أفلاما وثائقية على طريقة سينما الواقع، كان من بينها فيلم «الهند 67» (1967) لإس سوكديف.
داخل المؤسسات
أنتج فريد وايزمان - وهو محام ولد ببوسطن وتحول إلى مخرج، وكانت أعماله تقدم في الأساس على شاشة التليفزيون العام - أعمالا ذات طابع ثابت ومختلف تماما، وقد بدأ مشواره السينمائي الذي يكشف النقاب عن التجربة التي عاشها مع المؤسسات بفيلم «حماقات تيتيكت» (1967)، الذي يصطحب المشاهدين إلى داخل مستشفى للأمراض العقلية بماساتشوستس. ومن ضمن الموضوعات العديدة لأفلامه مدرسة ثانوية، ومستشفى، ومعسكر لتدريب المجندين الجدد، وحديقة حيوان، وفرقة باليه، وقاعة محكمة، ومشروع إسكان، ومجلس تشريعي، وهي عادة ما تؤرخ لعلاقات تبرز ضحايا النظم الاجتماعية المجردة المطبقة بصرامة، ومن يعملون على تطبيق هذه النظم. ولا يرى المشاهد مخرج الفيلم قط، ولا يوجد سرد؛ فالمشاهد يدخل ببساطة إلى عالم المؤسسات وحسب، ولكن من خلال مونتاج حاد واختيارات حادة للموضوع، انطلق بقسوة في تقييم نظام ومجتمع يعاملان البشر كمشكلات يجب السيطرة عليها. وفي فيلم «حماقات تيتيكت»، ربما كان هذا الاتهام الضمني القاسي هو ما حدا بسلطات ولاية ماساتشوستس لحظر الفيلم، حتى بعد أن فاز بجوائز؛ إذ دفعوا بأن وايزمان لم يحصل على إذن من عدد كاف من الأشخاص في الفيلم لتجسيدهم تجسيدا قانونيا على الشاشة، وربما كان للفيلم أيضا تأثير في إغلاق المؤسسة التي جسدت فيه، ومنذ ذلك الحين بدأت أعمال وايزمان تعرض عرضا دائما على التليفزيون العام الأمريكي، حيث كانت دليلا مهما على مزاعم التليفزيون العام فيما يتصل بالابتكار والأهمية.
ولكي نرى مدى الاختلاف الذي قد يستخدم به منهج الملاحظة بالمشاركة في المؤسسات، يمكن أن نقارن الصورة التنديدية لفيلم «حماقات تيتيكت» بأفلام أخرى تركز على مؤسسات الصحة العقلية؛ ففي واحد من أشهر أفلام المخرج الوثائقي آلان كينج، وهو فيلم «واريندال» (1967)، يقضي المشاهدون وقتا في مدرسة للشباب المضطربين نفسيا. كان فلاهرتي هو المثل الأعلى الأول لآلان كينج؛ فقد كان كينج معارضا لنموذج جريرسون «الدعائي»، الذي كان شائعا للغاية في دول الكومنولث؛ إذ إن جريرسون في اعتقاده قد ألبس الشكل «سترة قيد سياسية». ويعكس منهج فيلم «واريندال» وجهة نظره الإنسانية، ففي حين كان تيتيكت مكانا مرعبا، يبدو واريندال - الذي كان تجربة أثارت إعجاب كينج - كسجن وملاذ يأخذ فيه المرضى على عاتقهم مسئولية الاسترداد المؤقت لعافيتهم مستعينين بمساعدة. لقد صور كينج واريندال كمنظومة معيبة تتألف من أشخاص معيبين، ولكنهم لطفاء عموما.
أخيرا، يمكننا النظر إلى فيلم «النحفاء» (2006)، الذي يجسد عيادة أمريكية تتعامل مع اضطرابات الأكل. أخرج الفيلم المصور لورين جرينفيلد، وأنتجه آر جيه كاتلر، أحد التلاميذ النوابغ لإيه بينبيكر، وهو يصحب المشاهدين إلى داخل العيادة فترة من الوقت، ويطلعهم على وجهات نظر كل من المرضى وفريق العمل. وعلى عكس أحكام وايزمان أو تعاطف كينج، يضفي الفيلم سحر استراق النظر على موضوعه.
الإثارة
استخدم بعض المخرجين التقنيات الجديدة للإثارة والحث مثلما استخدموها للملاحظة، كما أشار إريك بارنو، ففي فرنسا استخدم جان روش - وهو مخرج وعالم أنثروبولوجيا أراد أن يترك أبطاله يروون قصصهم بأنفسهم - تكنولوجيا أفلام 16 ملليمترا الجديدة (وفي غضون ذلك عمل فريقه على صقل التجديدات في تقنية الصوت المتزامن) لسبر أغوار الوعي فيما بعد الحرب والاستعمار في باريس. وقد استعارت مجموعته مصطلح «سينما الواقع» من مجلة «كينو برافدا» أو سينما الحقيقة التي كان يحررها دزيجا فيرتوف، وقدموا فيلم «تاريخ صيف» (1961).
يرصد الفيلم التفاعلات بين مجموعة صغيرة من الشباب اختيرت من بين أصدقاء المخرج المشارك إدجار مورين في مجموعة صغيرة من الراديكاليين السياسيين. يجري الأصدقاء لقاءات مع غرباء في الشارع ويصورون حواراتهم الخاصة. يصدم الطلاب الأفارقة بقصة أحد الناجين من الهولوكوست، ليكشفوا بدورهم العنصرية اليومية التي تمارسها بلادهم تجاه المستعمرين، فيما تبحث سيدة إيطالية مريضة بالعصاب عن السعادة العادية بلا جدوى. وفي داخل الفيلم، تعلق الشخصيات على الأجزاء السابقة من الفيلم، ويدور جدل بين المخرجين حول المناهج المختلفة.
دوت أصداء هذه التجربة الصغيرة بين الناشطين الذين يعملون بمجال الإخراج، فقد استخدم المخرج الراديكالي كريس ماركر تقنيات الفيلم لمواجهة الفرنسيين بأسئلة على غرار: «هل تعتقدون أننا نعيش في ديمقراطية؟» في فيلم «مايو الجميل» (1963)، وأجرى المخرج التشيكي جان أبتا استطلاعا للرأي بين الشباب أمام الكاميرا عن أحلامهم وآمالهم، وذلك في فيلم «الأمنية الكبرى» (1964)، أما في فيلم «الرأي العام»، فقد سجل المخرج البرازيلي أرنالدو جابور آراء سكان ريو دي جانيرو من الطبقة الوسطى، وهو صوت لم يسمع من قبل في السينما والتليفزيون البرازيليين.
الجدال
أصبحت سينما الواقع مصدرا للجدال والخلاف الشديد، ويرجع ذلك جزئيا إلى الطبيعة التعميمية لادعاءات أنصاره بشأن الحقيقة؛ (فقد قلل روبرت درو من شأن معظم الأفلام الوثائقية السابقة بأسلوب مرح في كلمة بسيطة: «مصطنعة».) في مارس من عام 1963، وخلال مؤتمر للسينما عقد في ليون بفرنسا، ناقش صناع الأفلام المنهج الجديد، وقد وجه المتحمسون له نقدا لاذعا للنموذج الأبوي والوعظي لأفلام جريرسون الوثائقية، واحتفوا بنزاهة ودقة سينما الواقع، ورفض آخرون ذلك.
عبر المخرج والناشط الهولندي جوريس إيفينز عن استيائه من الادعاء الضمني في مصطلح «سينما الواقع» بأنها كانت بالفعل تخبر الحقيقة، بينما الأشكال الأولى من الأفلام الوثائقية لم تكن تفعل ذلك، وتابع قائلا إن الادعاء تعامل بسطحية مع أسئلة لها أهميتها؛ مثل «أي حقيقة؟ ولمن؟ من الذي يراها؟ ولمن تعرض؟» وقال إن الإمكانيات الرائعة للمعدات خفيفة الوزن جازفت أيضا «بلمس الواقع على السطح بدلا من اختراقه». وأنت تحتاج في بعض الأحيان - على حد قوله - للتوقف من أجل الملاحظة وتقديم «أفلام نضالية»، واتهم المخرج الراديكالي الفرنسي جان لوك جودار مؤيدي سينما الواقع بأنهم قد اختاروا حرمان أنفسهم من ميزة الاختيار والتأمل: «وهكذا، ونظرا لحرمانها من الوعي، تفقد كاميرا ليكوك، بالرغم من أمانتها، سمتين أساسيتين للكاميرا: الذكاء والإدراك.»
ومنذ ذلك الحين، لم تتوقف المجادلات، حتى الاسم الذي اتخذه هذا المنهج كان مثيرا للجدل؛ فعلى الرغم من أن روش قد أعطى سينما الواقع اسمها، فقد بدأ مع مخرجين فرنسيين آخرين في تسمية أعمالهم ب «السينما المباشرة». في غضون ذلك في المملكة المتحدة، حيث منشأ السينما المباشرة، أصبحت سينما الواقع جامعة لأي فيلم لا يشتمل على سرد، ويصور بكاميرا يدوية محمولة، ويسجل حدثا، مثلما كانت في الولايات المتحدة.
يرفض بعض المخرجين هذا المصطلح، ويرفض آخرون المنهج بأكمله؛ فقد قال المخرج الألماني فيرنر هيرتزوج لدي إيه بينبيكر: «سينما الواقع هي سينما المحاسبين.» وأطلق فريد وايزمان على أفلامه «خيالات الواقع»، لافتا إلى أنه لم يكن يعتزم تجسيد الواقع بموضوعية، بل عرض «ما» يراه وما يجده مثيرا فيه. وحتى هذه العبارة - على حد قوله - كانت «مصطلحا ساخرا منمقا» ابتكر للسخرية من ادعاءات سينما الواقع، وشن المخرج الوثائقي الأمريكي إيرول موريس هجوما عنيفا على سينما الواقع لادعائها «أنك بشكل ما إذا تلاعبت بكاميرا بين يديك، وتسللت عبر أركان الغرف، واختبأت خلف الأعمدة، فسوف يحل اللغز الديكارتي كنتيجة لذلك، وأن نظرية المعرفة بشكل ما لن يعود لها دور فيما تفعله، وأن هذه هي سينما الواقع، تجسيد الواقع كما يتكشف أمام الكاميرا!» أما ليندساي أندرسون، أحد رواد السينما الحرة، فكان يعتقد أن السينما المباشرة لم تكن «إلا عذرا لكيلا تكون مبتكرا ولا تصبح إلا صحافيا مدعيا!»
لا يزال المخرجون الذين يتباهون بإطلاق مسمى سينما الواقع على أعمالهم تحيرهم مسألة أي نوع من الحقيقة تقدمه سينما الواقع، فقد صرح جان روش بأن عملية صناعة الفيلم هي «نوع من الحفز يتيح لنا - على نحو يشوبه بعض الشكوك - الكشف عن جزء خيالي من أنفسنا جميعا، ولكنه من وجهة نظري هو الجزء الأكثر واقعية من أي فرد». وقد تفادى المصور السينمائي والمخترع الكندي مايكل برولت القضية ببراعة حين أخبر الناقد بيتر وينتونيك قائلا: «لا يمكن أن تقول الحقيقة، بل يمكنك أن تكشف عنها.» أما المخرج الكندي وولف كونيج («الصبي الوحيد»)، فقد عاد إلى حجة مألوفة حين أخبر وينتونيك قائلا: «إن كل لقطة بمنزلة كذبة، ولكنك تقول كذبة لكي تخبر بالحقيقة.» إن هذه الالتفافات الكثيرة في العبارة تعيد إلى الأذهان التعليق الساخر للمنظر نويل كارول: «لقد فتحت السينما المباشرة علبة من الديدان ثم أكلتها فيما بعد.»
تحدى النقاد الادعاء القائل إن صناع الأفلام يعرضون حقيقة صريحة بلا تنميق، حتى ولو كانت شخصية؛ فقد أوضحت جين هول كيف كان دي إيه بينبيكر، في الواقع، يشكل الفيلم الوثائقي لنقل انتقادات المخرج للإعلام، وذلك في فيلمه الرائد «لا تنظر للخلف» الذي يقدم صورة واقعية لبوب ديلان في أسفاره، كذلك وجه كل من توماس بنسون وكارولين أندرسون اتهاما لأفلام فريد وايزمان بأنها تنطوي على تناقض؛ حيث إنه يلعب دور المؤلف، وقدم عملا مليئا بالمضمون، ولكنه بعد ذلك يخفي مضمونه عن الجمهور، ومن ثم يزيل الغموض عن الحقائق ويضفي غموضا على دوره. واستكشف إيه ويليام بلوم احتمال أن يكون من الممكن لعفوية وعاطفية سينما الواقع أن يحجبا الإدراك.
وأشار آخرون إلى أن المنهج قد يكون له نتائج مختلفة عن تلك التي قد يأمل فيها المخرجون الوثائقيون، فقد تجاهل فيلم «ميدل تاون» (1982) لبيتر ديفيز، الذي يفترض أنه ملخص لبحث اجتماعي، استنتاجات البحث في سبيل التركيز على الأزمة ولحظات الذروة خلال فترة من حياة البلدة. لقد فضل منهج سينما الواقع الذي اختاره - كما ذكر براين وينستون - الصراع اليومي على الرؤى الاجتماعية للبحث. وبعد عام 1968 ذهب المخرج والمنظر الراديكالي الفرنسي جاي هينبل إلى أن بعض التقاليد التي تبدو شفافة - مثل المشاهد الواقعية لعمال يتحدثون، التي يعتقد النشطاء السينمائيون أنها قد تعبئهم من أجل حدث ثوري - يمكن ببساطة أن تلخص «الوعي الزائف» للعمال أنفسهم، وقد صرح قائلا: «من الأفضل أن تعترف صراحة بالمعالجة وتجعلها مستساغة للعين والأذن من خلال الاستفادة من الترسانة الكاملة لأدوات السينما.»
لطالما أثير الحديث عن الضوابط الأخلاقية لعلاقة المخرج الواقعي بأبطاله؛ فالمخرجون قد يغيرون الواقع الذي يصورونه عن غير قصد، وقد يعانون في تحديد قدر التدخل اللازم، فقد تعقب صناع فيلم «أحلام الطوق» (1994) - من إنتاج شركة كارتمكوين فيلمز - عائلتين فقيرتين من الزنوج على مدى أكثر من خمس سنوات، وأحيانا ما كانوا يساهمون في دخل الأسرة؛ فقد كانوا يعتقدون أن المساهمات المتواضعة هي جزء من علاقة قائمة على النوايا الحسنة مع العائلات المكافحة، وكانت الأم في عائلة لاود تشكو من أن عائلتها قد لا تستطيع محو آثار الدعاية التي حظوا بها في فيلم «عائلة أمريكية» (1973)، وبالفعل ظلت عائلة لاود هدفا لاهتمام غير مرغوب فيه لعقود. وعندما صور الأخوان مايسلز حفلا لفريق رولينج ستون للفيلم الذي أصبح عنوانه «أعطني مأوى» (1970)، دفع لهيز إيجلز من أجل حفظ النظام، ولكن حدثت مشاجرة مع أحد أفراد الجمهور أسفرت عن حالة وفاة، وصورها فريق الفيلم في الفيلم، مما أدى إلى توجيه قدر من الانتقاد. أما فيلم «كرامب» (1995) لتيري زويجوف، فقد عرض الحياة الخاصة لعائلة رسام الكاريكاتير آر كرامب المضطربين نفسيا على سبيل الترفيه السينمائي؛ لقد حصل زويجوف على موافقة كرامب وعائلته، ولكن البعض شكك في قدرة أفراد العائلة الأكثر اضطرابا على تقديم تلك الموافقة.
شكل 1-7: استخدمت كارتمكوين فيلمز سينما الواقع لسرد قصص مجهولة، بما في ذلك قصص الأطفال الزنوج («أحلام الطوق» 1994). الفيلم من إنتاج كارتمكوين فيلمز.
لم تعد سينما الواقع ثورية؛ فقد صارت اللغة الافتراضية للأفلام الوثائقية الموسيقية، وجميع أنواع الأفلام الوثائقية التي تصور ما يحدث ما وراء الكواليس؛ إنها جزء من تركيبة الأعمال البوليسية والمسلسلات الوثائقية، وجزء من أدوات المصداقية لبرامج تليفزيون الواقع، إنها جزء ثابت في التوقعات الخاصة بأعمال الفيديو الموجهة للعامة لتوسيع نطاق التعبير، مثل مشروع محطة بي بي سي «يوميات مرئية» في التسعينيات. واعتمدت عليها أعمال المخرج البريطاني نيك برومفيلد، الذي لاقت تأملاته المثيرة في حياة المشاهير وسيئي السمعة نجاحا عالميا. يشيع استخدام تقنيات سينما الواقع في الإعلانات والدعاية السياسية أيضا لإضفاء الحيوية والمصداقية. لقد فقد المنهج جدته، لكنه لم يفقد قدرته على إقناع المشاهدين بأنهم حاضرون ويشاهدون شيئا غير مصطنع وحقيقيا بلا نزاع.
الفصل الثاني
الأنواع الفرعية
اتفقنا على أن الفيلم الوثائقي نوع من الأفلام يحتوي على تعهد للمشاهد بأن ما سوف يراه ويسمعه هو عن شيء حقيقي وصادق، ودائما يلزمنا أن نفهمه، غير أن المخرج لا بد أن يستخدم مجموعة كبيرة من الحيل من أجل تأكيد هذا الزعم، والكثير من المخرجين ينفذون أعمالهم في بيئة تجارية أو شبه تجارية تحجم اختياراتهم، ومع تطور الفيلم الوثائقي، تطورت أيضا المعايير والعادات والتقاليد والقوالب الشائعة المتعلقة بكيفية تنفيذ المخرجين لأعمالهم.
ننتقل الآن للحديث عن العديد من الأنواع الفرعية لنرى مدى الاختلاف بين المخرجين في معالجة مشكلات تجسيد الحقيقة داخل نطاق العديد من الموضوعات.
الشئون العامة
من الجيد أن نبدأ في استعراض الأنواع الفرعية العديدة للفيلم الوثائقي بالأفلام الوثائقية التي تتناول الشئون العامة، التي لا تزال باقية في البرنامج العلمي «نوفا» التابع للتليفزيون العام، وهو مجموعة برامج تليفزيونية تناقش قضايا مثل الفقر، وبرامج الدعم الحكومي، والفساد المؤسسي، والرعاية الصحية، وغير ذلك من برامج الخدمة العامة. تعتمد مثل هذه الأفلام الوثائقية عادة منهجا استقصائيا أو موجها نحو معالجة المشكلات، وتبرز عرضا جادا مصحوبا بسرد، وأحيانا بمذيع، وتستعين بمشاهد مصورة خلفية أو القطع المتبادل (تناوب عرض المشاهد لأحداث تقع في آن واحد)، وتركز على الأفراد الممثلين للمشكلة وهم يقدمون أمثلة أو شرحا توضيحيا للمشكلة. وهذه الأفلام الوثائقية تتعهد بتقديم رؤية موثوقة تتسم في الغالب بطابع اجتماعي علمي لإحدى القضايا، بحيث تتحدث كصحفيين محترفين نيابة عن جمهور متأثر بالمشكلة.
كان هذا النوع مؤثرا من الناحية الاجتماعية، وقويا من الناحية الجمالية، وكان أيضا ثمرة للتجارب المبكرة لصناع الأفلام الوثائقية ومن مناهج وتقاليد الصحفيين، وهو أيضا مصدر للكثير من آمال المشاهدين في الموضوعية والجدية في الفيلم الوثائقي، والسبب وراء اندهاش الكثيرين من التنوع الشديد في الأعمال التي قدمت خلال التاريخ القصير للفيلم الوثائقي.
كانت الفترة ما بين منتصف الخمسينيات إلى منتصف الثمانينيات هي أوج ازدهار أفلام الشئون العامة الوثائقية التليفزيونية، وكانت تعرض في أغلب الأحيان في التليفزيون التجاري، وكان الممولون الأساسيون لأفلام الشئون العامة الوثائقية هم شركات البث، التي كانت تنتج هذه الأفلام من أجل نيل الجوائز والحظوة، وتبرير استخدامها لموجات البث التي كانوا يحصلون على رخصة استغلالها من الحكومة، وكجزء من تكليفات الخدمة العامة الرسمية التي فرضها المراقبون صراحة. وحين أصبح التليفزيون الوسيلة الأساسية التي يتعرف الناس من خلالها على العالم البعيد عن نطاق خبرتهم، تزايدت قدرة المذيعين التليفزيونيين على التأثير على الرأي العام، ومن ثم قرارات النخبة، ومع توسعه، أصبح مسئولو التليفزيون التنفيذيون أكثر تدخلا في سياسة النخبة من أي وقت مضى.
تطورت أفلام الشئون العامة الوثائقية كنسخة أكثر نضجا ورصانة من الأخبار؛ نوع من المقال التحليلي لعناوين الأخبار. ويرى فريد فريندلي - المنتج الأسطوري الذي تعاون مع إدوارد آر مورو وأصبح فيما بعد رئيسا للتليفزيون العام - أن المهمة هي: «التفسير، وتقديم المعلومات الأساسية، والفهم في وقت يتعذر فيه الفهم أمام تواتر الأحداث.» كان الرجال والنساء (بمعدل أقل كثيرا) الذين ينتجون هذه الأفلام الوثائقية يعتبرون أنفسهم صحفيين، بل صحفيين استقصائيين في الغالب، وقد كانوا يؤمنون بدور الصحافة كسلطة رابعة؛ رقيب على السلطة. في الوقت نفسه، كان المنتجون التنفيذيون الحذرون بحاجة إلى تحقيق نسب مشاهدة عالية من أجل البقاء، وكانوا على وعي تام بالتدقيق البالغ الذي يمارسه الساسة ذوو النفوذ، الذين كانوا يملكون القدرة على سحب التراخيص والتكليفات.
التاريخ والثقافة
أدى ظهور التليفزيون في الخمسينيات إلى تغير حاد في الفرص والتحديات الماثلة أمام المخرجين الوثائقيين؛ فقد كانت الأفلام الوثائقية الأولى تنفذ على يد مخرجين؛ أما الآن، فالناس يتدفقون إلى التليفزيون من الإذاعة والصحافة المقروءة. أطلقت قناة بي بي سي برنامجي «تحقيق خاص» (1952-1957)، و«بانوراما»، الذي لا يزال مستمرا، وأطلقت قناة جرانادا تي في، وهي قناة تجارية بريطانية، برنامج «العالم يتحرك» (1963-1998)، وفي الولايات المتحدة، كان لكل من الشبكات الثلاث برامج: برنامج «شاهده الآن» (1951-1958) لشبكة سي بي إس، أعقبه في عام 1959 برنامج «تقارير سي بي إس»، وبرنامج «الورقة البيضاء» لشبكة إن بي سي، أعقبه بعد ذلك برنامج «من قريب!» لشبكة إيه بي سي (1960-1963). كذلك أطلقت هيئة الإذاعة الأسترالية أيضا برنامج «رقعة الشطرنج» (1970-1972)، وبرنامج «الأركان الأربعة»، الذي لا يزال يذاع، ونظرا لأنها أنتجت في حلقات مسلسلة عبر قنوات إخبارية ومعلوماتية كبرى، فقد كانت مثل هذه الأفلام الوثائقية التي تتناول الشئون العامة تؤكد ضمنا أن الموضوعات التي تغطيها كانت أهم موضوعات الساعة.
تعرضت برامج الشئون العامة الوثائقية للتهديد مع كل تطور تجاري في التليفزيون تقريبا، فقد رفع تزايد عدد الجماهير من المخاطر المتعلقة بنسب المشاهدة، وأدت المنافسة المترتبة على ظهور التليفزيون المشفر متعدد القنوات، والأقمار الصناعية، والإنترنت، إلى صعوبة أكبر في تبرير ارتفاع الميزانيات. كذلك أدى إسقاط القيود الحكومية والخصخصة إلى تقليص الالتزامات بخدمة المصلحة العامة على نحو كبير للغاية. وفي السبعينيات والثمانينيات هجرت الشبكات الأمريكية البرامج المسلسلة واتجهت إلى البرامج ذات الحلقات المنفصلة، وفي بعض الأحيان كانت تعهد بها إلى مخرجين مستقلين، تراوحوا من ديفيد ولبر ذي المنهج الهوليوودي البحت، وحتى المخرج المستقل جون ألبرت.
شهدت السبعينيات أيضا ظهور برامج المجلات الإخبارية، مثل «60 دقيقة» و«20 / 20»، وساهمت هذه البرامج عالية التنظيم في الحد من أفلام الشئون العامة الوثائقية التليفزيونية، واعتمدت في نفس الوقت على سمعتها، وقد كان المنتج توم سبين - الذي بدأ مشواره بالعمل في مسلسل «القرن العشرين» من إنتاج شبكة سي بي إس تحت قيادة ريتشارد بالي - يعتقد أن «الأيام الخوالي» - تلك التي أطلق عليها آخرون «العصر الذهبي» - قد ولت «حين بدأ برنامج «60 دقيقة» في إدرار مكاسب ... فقد اعتبرنا أنفسنا ككلاب السيد بالي المهذبة؛ فقد كان بإمكانه أن يحركنا للتباهي بنا، ويجعلنا نقوم بحيل، ونكون سلعة جذب». وبحلول التسعينيات أصبحت أفلام الشئون العامة الوثائقية التي تتبع نموذج «العصر الذهبي» نادرة الوجود في التليفزيون التجاري في كل مكان، واستمر تليفزيون الخدمة العامة في إنتاج برامج وثائقية عن الشئون العامة بإمكانيات عالية، ولكن بدأ المنتجون أيضا في البحث عن طرق لتقديم أعمال ذات قيمة بميزانيات أقل بكثير وبنماذج مختلفة؛ على سبيل المثال: استمر برنامج الشئون العامة الأمريكي «الخطوط الأمامية»، الذي كان مبتكرا دائما، في إنتاج برامجه الرائعة، وعمد أيضا إلى تجربة إنتاج برامج ذات ميزانية منخفضة، كانت تعرض أحيانا على شبكة الإنترنت، ونفذت بأحدث الأجهزة الرقمية.
التليفزيون العام
جاء ظهور الأفلام الوثائقية بالتليفزيون العام في الولايات المتحدة، جزئيا، بفعل الإحباط الذي اعترى المسئولين التنفيذيين للمؤسسات الكبرى من قلة أفلام الشئون العامة الوثائقية في التليفزيون التجاري. مولت مؤسسة فورد محاولة لاقت قبولا في البيت الأبيض، وبحلول عام 1967، أنشئ كيان لضخ تمويلات فيدرالية (غير أنها لم تتجاوز أبدا خمس التمويل الموجه للتليفزيون العام) لمئات المحطات المحلية عبر جميع أنحاء البلاد. مولت المؤسسة أفلاما وثائقية مثيرة للجدل، من بينها «البنوك والفقراء» (1970)، الذي انتقد سياسات الإقراض البنكية التي استثنت أحياء كاملة، وكان أحد البنوك المقرضة التي تعرض لها الفيلم بالنقد مساهما أساسيا في حملة ريتشارد نيكسون الرئاسية، مما حدا بنيكسون إلى شن حرب ضد برامج الشئون العامة الوثائقية في التليفزيون العام، ولم تتوقف إلا بلائحة اتهام.
خلفت هذه التجربة حالة من الحذر والريبة لمديري المحطات التليفزيونية من جميع برامج الشئون العامة. مولت المؤسسات المخرجين الوثائقيين الذين استطاعوا التغلب على مخاوف هيئة الإذاعة العامة والمحطات التابعة لها، ونفذ صحفيون خبراء مثل بيل مويرز، وروجر وايزبرج، وهيدريك سميث، وألفين بيرلموتر، أعمالا تميزت بالبحث المكثف والاحترافية العالية عن موضوعات كبرى مثل التعليم، وتطوير المناطق السكنية، وحتى الموت والاحتضار. وقد كانت الصحافة الاستقصائية عن الموضوعات السياسية المهمة في ذلك الوقت أكثر إثارة للجدل وأصعب في تمويلها.
ومع تحفيز الإنتاج الأقل تكلفة لجيل متمرد في السبعينيات، نظم المنتجون المستقلون صفوفهم وأصروا على الحصول على مساحة في التليفزيون العام، ونتج عن ذلك برامج مثل «الخطوط الأمامية» الذي أبرز الصحافة الاستقصائية، وبرنامج «وجهة نظر» الذي عرض أعمالا بوجهات نظر شخصية. وفي عام 1991، نجح المنتجون المستقلون أخيرا في تخصيص تمويلات فيدرالية داخل التليفزيون العام لهيئة الإذاعة المستقلة التي تنتج أفلاما وثائقية على نطاق واسع.
التأثير والأهمية
كانت أفلام الشئون العامة الوثائقية التليفزيونية تجذب غالبا اهتماما هائلا، وقد ثار جدال حامي الوطيس حول العديد من حلقات برنامج «شاهده الآن» التي تحدى فيها إدوارد آر مورو الترهيب المخالف للديمقراطية الناتج عن حملات اضطهاد الشيوعيين، وفي النهاية هاجم السيناتور جوزيف مكارثي، أحد أكثر من اشتهروا باضطهاد المخالفين، (ويعتمد الفيلم السينمائي «ليلة سعيدة وحظ سعيد»، إنتاج 2005، على هذه القصة.) وكشفت حلقة «الجوع في أمريكا» من برنامج «تقارير سي بي إس» لعام 1968، عن إخفاقات منظومة الدعم الفيدرالي وأثارت قدرا كبيرا جدا من رد الفعل العام، حتى إن مجلس الشيوخ عقد جلسة استماع وزيدت تمويلات البرامج. هناك أيضا فيلم «دفاع الولايات المتحدة» (1980) ذلك الفيلم المرعب من إنتاج شبكة سي بي إس عن السياسة العسكرية النووية الأمريكية، وحظي بمشاهدة واسعة في أوروبا، وربما يكون قد أثار الحكومات الأوروبية ضد الخطط العسكرية الأمريكية. أيضا لعب عمل المخرج البريطاني أدريان كويل للتليفزيون التجاري البريطاني عن تدمير الغابات البرازيلية المطيرة - وهو مسلسل «عقد من الدمار» (1980-1990) - دورا في تحريك حملة ناجحة من المنظمات غير الحكومية لإصلاح السياسات البيئية للبنك الدولي. أثار أيضا فيلم «قوة الكوابيس» (2004) لآدم كرتيس، من إنتاج شبكة بي بي سي، ضجة عالمية، لما ذهب إليه من أن ظهور المسلمين الأصوليين كان مدعوما من متطرفين من المحافظين الجدد في الولايات المتحدة. في الوقت نفسه، غالبا ما كان المذيعون يتجنبون أن يكون لهم السبق في إثارة أي قضية، فقد انتظر إدوارد مورو ، على سبيل المثال، عامين كاملين قبل أن يهاجم مكارثي، وترددت شبكة بي بي سي في عرض «قوة الكوابيس» وأذاعته في البداية بدون دعاية. وحتى أواخر الستينيات كانت الشبكات الأمريكية تتعمد تجنب حرب فيتنام، وتجنبت أيضا إبداء أي اهتمام بالوثائقيات التي أنتجت في كل أنحاء العالم، بما فيها تلك التي أنتجت في كوبا وفيتنام، عن الموضوع. فلم تعرض الكثير من الأفلام الوثائقية الكندية التي قدمها صحفيون إذاعيون معروفون عالميا، مثل مايكل ماكلير وبيريل فوكس، في الولايات المتحدة، ربما لأن المسئولين التنفيذيين قد اختاروا ألا يثيروا غضب الساسة، أو لأنهم هم أنفسهم كانوا يشاركون في نفس الدوائر الاجتماعية واكتسبوا كراهية النخبة السياسية للمعارضين.
وأخيرا جاء فيلم «فيتنام في عيون مورلي سيفر» بشبكة سي بي إس ليكسر الصمت بمشاهد غير مصحوبة بتعليق، ولكنها بشعة تعرض حربا مختلفة كل الاختلاف عن تلك التي جسدتها الحكومة، ويبدو أن هذا الفيلم قد فتح مجالا جديدا، فقد تعاقدت شبكة سي بي إس مع الصحفي الإذاعي فيليكس جرين لتقديم فيلم عن فيتنام الشمالية، ولكن يبدو أن الشبكة قد فقدت شجاعتها بعد ذلك وألغت العقد، غير أن هيئة الإذاعة العامة الجديدة استأنفت المشروع. أظهر فيلم جرين «داخل فيتنام الشمالية» (1968) أشخاصا لديهم عزم بل ينعمون بالسعادة، كان في طموحاتهم القومية تذكرة لبعض النقاد بتطلعات المستعمرين الأمريكيين، وقد أثار الفيلم حفيظة بعض نواب الكونجرس، حتى إن أحدهم هدد بقطع التمويل عن التليفزيون العام.
ومع تنامي الاحتجاجات ومناهضة الرأي العام للحرب، استجمعت الشبكات الأمريكية مزيدا من الشجاعة؛ ففي عام 1971 أذاعت شبكة سي بي إس فيلم «بيع البنتاجون»، الذي كان ينظر إليه بوصفه أوج هذا النوع من أفلام الشئون العامة الوثائقية. كشف الفيلم عن حجم آليات العلاقات العامة للجيش الأمريكي، وانتقد تورط الشبكة (من حين لآخر) في ذلك. أثار عرض الفيلم قدرا هائلا من الاهتمام - بما في ذلك غضب الحكومة والبنتاجون - حتى إن عرضا ثانيا للفيلم جذب مشاهدين أكثر من العرض الأول، وقد سحب البنتاجون بعض مواد العلاقات العامة التي انتقدت في التقرير .
في غضون ذلك كان المخرجون المستقلون يقدمون أعمالا مختلفة تماما لم تكن تليفزيونية. كانت أعمالهم غالبا ما تتجنب الموقف الموضوعي المتزن وادعاء الشمولية الذي تدعيه الأفلام الوثائقية التليفزيونية. وقد استخدم الناشطون المناهضون للحرب الفيلم الوثائقي الكندي «أغنية الجلد الأصفر الحزينة» (1969) لمايكل روبو، الذي يتعقب فيه طاقم العمل الصغير ثلاثة صحفيين أمريكيين حول سايجون، لحشد التأييد لقضيتهم. وقد صنع إميل دي أنطونيو قصة تحليلية لحرب فيتنام كاستمرار للسياسة الإمبريالية، وذلك في فيلم «في عام الخنزير» (1968) الذي عرض في دور السينما، وفي عام 1974، قدم بيتر ديفيز - الذي أنتج فيلم «بيع البنتاجون» - فيلم «قلوب وعقول»، وهو توثيق حاد وموحش يعرض ما كان ديفيز يعتقد أنه خيانة للمعتقدات والمثل الأمريكية الأساسية في حرب فيتنام. وفي حين أن الفيلم الذي أنتجته محطة سي بي إس كان تقريرا عنيفا وكئيبا، كان «قلوب وعقول» تعبيرا عن الحزن والغضب.
التقاليد والانتقادات
تبوح الاختلافات في الأسلوب والنبرة بين «بيع البنتاجون» و«قلوب وعقول» بالكثير عن تقاليد أفلام الشئون العامة الوثائقية. لقد كانت الأفلام الوثائقية التي تعرض على الشبكات التليفزيونية أعمالا ذات طابع مؤسسي ومصطنعة بحرفية عالية، فقد أنتجت بحرفية باستخدام الإضاءة، والمونتاج، وتقنيات السيناريو المستمدة من صناعة الأفلام في هوليوود، وكانت شخصيات منتجيها - وأحيانا أسماء - المسئولين عنها ممتزجة مع الهوية المؤسسية للشبكة التي تذيعها، والتي كان يمثلها المذيع.
طور المنتجون مجموعة من التقاليد للإيحاء بالثقل، والانفتاح، والتوازن، والدقة، والأهمية، وغالبا ما كانوا يستعينون بمحاور أو مذيع يستطيع التعبير عن كل من الثقل والانفتاح، وقد كان إدوارد مورو نموذجا، بأكمامه المشمرة، وسيجارته، ونبرته شديدة الجدية، تحيطه المعدات التليفزيونية والهالة التي ألقتها عليه سمعته في الإذاعة، وكان أسلوبه يعكس المعرفة لكن دون نخبوية. كانت البرامج تستخدم الكثير من مشاهد القطع المتبادل والمواد الرمزية، ومع تسارع الإيقاع التليفزيوني، شرعت في استخدام مشاهد المقابلات الشخصية كعناصر قصصية، وذلك بقص تعليقات وإقحامها في الخط الدرامي، وكان الصوت هو العنصر الأكبر؛ إذ كان السرد والموسيقى التصويرية يقودان المشاهد عبر التحليل.
وهكذا كانت صدمة للمسئولين التنفيذيين بالشبكات الأمريكية حين طرح روبرت درو مصور مجلة لايف وفريقه في عام 1959 على شبكة إيه بي سي، طريقة مختلفة تماما لتقديم أفلام الشئون العامة الوثائقية، فمن خلال استخدام معدات أخف وزنا وأكثر قابلية للنقل، وعدوا المشاهدين بتجربة ترصد كل شيء على الطبيعة بدلا من تحليل مؤسسي، وعمد واضعو البرامج إلى تجربته وبداخلهم شكوك رهيبة، وبالتدريج ظهرت تأثيرات سينما الواقع في أفلام الشئون العامة الوثائقية التليفزيونية دون الإطاحة بالمنهج القائم على الاصطناع والسرد، كذلك عمدت شبكة بي بي سي وشركة الإذاعة الكندية إلى تجربة أفلام الشئون العامة الوثائقية القائمة على الرصد والمراقبة، أيضا بدون التخلي عن النموذج المصطنع القائم على التحليل. وظهرت أشكال جديدة. وفي عام 1964، أذاعت قناة جرانادا تي في التجارية البريطانية فيلم «سفن آب»، وهو بداية لسلسلة أفلام جرى فيها تتبع أطفال من أوضاع اجتماعية اقتصادية مختلفة في نفس الفصل الدراسي على فترات مدتها سبع سنوات على مدار حياتهم، احتوت السلسلة على عناصر كل من الملاحظة وتجربة الاهتمام بالعامة المميزة لسينما الواقع، والسرد، والمقابلات الشخصية، والتوجه نحو المشكلات المميزة لأفلام الشئون العامة الوثائقية.
كان لأفلام الشئون العامة الوثائقية التليفزيونية في عصر ما قبل القنوات المشفرة تأثير كبير، ولكنها أيضا فتحت جراحا؛ ففي منطقة أبالاتشيا الريفية، التي كانت محط تركيز العديد من الوثائقيات التليفزيونية التي تتناول الفقر وعدم المساواة، استاء كثيرون من تحولهم إلى نماذج «للفقر»، واعتقدوا أن قيمهم الثقافية قد قلل من شأنها. في الوقت نفسه أنشئ مركز إقليمي للفنون، هو مركز أبالشوب، بتمويلات فيدرالية من مبادرة المجتمع العظيم لليندون جونسون. وأصبحت الأفلام الوثائقية التي تستكشف الثقافة الجبلية للمنطقة هي الأولوية الأولى له. فيكشف فيلم «الغريب ذو الكاميرا» (2000)، الذي نفذته إليزابيث باريت، إحدى مؤسسي أبالشوب، عن الانعكاسات الأخلاقية طويلة المدى للسكان المحليين وصناع الإعلام؛ إذ يلقي الفيلم الضوء على حادث وقع في عام 1967 حين أطلق صاحب أرض عدواني غاضب من وجود الإعلاميين الغرباء النار على مصور صحفي كندي حر كان يصور فيلما وثائقيا تليفزيونيا من أفلام الشئون العامة.
خضعت الأفلام الوثائقية التليفزيونية للدراسة من الصحفيين وباحثي الصحافة أكثر من باحثي الدراسات السينمائية (وقد يعزى هذا جزئيا إلى أن الهوية المؤسسية لهذا النوع الفرعي تضفي تعقيدا على منهج العديد من باحثي السينما المتسم بالتركيز على المخرج باعتباره المؤلف الحقيقي للفيلم). وقد ذهب الصحفي الإذاعي الأسترالي المستقل جون بيلجر بقوة إلى أن الحيادية المبالغ في تقديرها للأعمال الوثائقية التليفزيونية التقليدية هي «التعبير عن سياسة إجماع لدى الطبقة الوسطى» من شأنها أن تمنح امتيازا للسلطة، وبدلا من ذلك، اقترح أنه لا بد أن يكون الصحفيون رقباء يقظين على السلطة ومدافعين عن المصلحة العامة. وقد خضعت تقاليد صحافة الشئون العامة التليفزيونية للتحليل من باحثي الاتصالات، فقد أوضح توماس روستك كيف أن تغطية برنامج «شاهده الآن» عن مكارثي قد وضعت بدهاء لتكون متحاملة على السيناتور في الوقت الذي تبدو فيه متوازنة وموضوعية. حلل ريتشارد كامبل أيضا شكل المجلات الإخبارية كنسخة مصغرة من مهمة أفلام الشئون العامة الوثائقية، مشيرا إلى أن حلقات برنامج «60 دقيقة» قد بنيت على نسق القصص البوليسية، ومن ثم لا تستطيع المجلات الإخبارية أن تتناول قضايا لا تندرج تحت نموذج القصة البوليسية ولا يمكن حلها «بإيجاد الشرير»، فمعظم المشكلات الاجتماعية، من الاحترار العالمي إلى الأزمات المرورية، عموما ليست خطأ شخص شرير.
فقدت أفلام الشئون العامة الوثائقية أكثر رعاتها جودا وسخاء، وهم الشبكات التجارية ذات الأسلوب القديم، ومؤسسات البث القومية؛ إذ يواجه كلاهما منافسة ضارية تتسبب في تخفيض الميزانيات، كذلك يدخل دور الصحفي الإذاعي الموثوق في إطار الشك، ولكن نمط الأعمال الوثائقية، التي تشتمل على اصطناع وسرد ومذيع يطرح قضية محل اهتمام للتقصي والفهم وتبرز مذيعا معروفا وجديرا بالثقة، يظل نموذجا ثابتا، فلا يزال هذا اختيارا تلقائيا في الصحافة الإذاعية في جميع أنحاء العالم، وغالبا ما يحاكى أيضا في الأعمال التي تنتجها المؤسسات غير الربحية التي تناضل من أجل الشرعية والموثوقية في أي موضوع.
الدعاية الحكومية
على الطرف الآخر من ادعاءات أفلام الشئون العامة الوثائقية، التي تعتمد في موثوقيتها وتأثيرها على خبرتها الصحفية ، تقف الدعاية الحكومية؛ ذلك المصدر المهم من مصادر التمويل والتدريب للمخرجين الوثائقيين في العالم، وتكون أحيانا مصدرا لتأثير قوي على الرأي العام.
تهدف الأفلام الوثائقية الدعائية إلى إقناع المشاهدين بوجهة نظر أو قضية مؤسسة ما، وتروج هذه الأفلام لقناعات المؤسسة لا صانع الفيلم، مع أن بعض المخرجين يدعمون القضية دعما تاما، وعلى الرغم من أن مثل هذه الأعمال يمكن أن ينفذها أي شخص، بمن فيهم المعلنون والناشطون، فإن مصطلح «دعاية» يشير ضمنا إلى الحكومات في أغلب الأحيان. وقد كانت الأفلام الوثائقية تمثل قيمة للحكومات تحديدا لادعاءاتها بالمصداقية ودقة التجسيد للواقع، وقد وصلت أهمية الوثائقيات الدعائية إلى أوجها في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية وأثنائها وبعدها مباشرة، حين كان الفيلم هو الوسيط السمعي المرئي السائد.
استعانت الحكومات بالأفلام الوثائقية للتأثير على الرأي العام منذ نشأة الفيلم، فمع انتقال الصراع إلى نموذج «الحرب الشاملة» خلال الحرب العالمية الأولى، استخدمت الحكومات وسائل الإعلام لتحفيز قواتها، وتعبئة المدنيين، وإقناع الآخرين بقوتها، ومن الأمثلة المعروفة لذلك الفيلم البريطاني «معركة سوم» (1916)، الذي عاد نجاحه مع الجماهير البريطانية في دور العرض إلى حد بعيد لعرضه مشاهد من المعركة الحقيقية.
بعد الحرب العالمية الأولى، نظرت الحكومات في جميع أنحاء العالم إلى الفيلم الوثائقي كأداة جديدة وفعالة، فعزز الحزب النازي - الذي اعتلى السلطة في ألمانيا عام 1933 - الرقابة على إنتاج، وتوزيع، وعرض جميع الأفلام، وقد دعمت شرعيته السياسية مباشرة من خلال الدعاية. وفي اليابان، صدقت الحكومة على قانون ألزم صناع الأفلام بالعمل وفقا للخط الحكومي، وألزم دور السينما بعرض أفلام وثائقية في كل حفل سينمائي، وفي العام التالي، فرضت الحكومة عملية اندماج بين شركات الأفلام الإخبارية لتعزيز اتساق الرسالة من أجل تشجيع توافق السلوك، كذلك أممت الحكومة السوفييتية الوليدة أيضا جميع وسائل الإعلام لخدمة الأهداف الحكومية، وشهدت العشرينيات طفرة فنية هائلة، كما ظهر من مسيرة دزيجا فيرتوف، أعقبها رزوح تحت وطأة الواقعية الاشتراكية الستالينية الصارمة.
أنشئت وكالات للدعاية في بريطانيا والولايات المتحدة، ولكنهم اضطروا للتفاوض مع المنتجين والموزعين والعارضين التجاريين من أجل توصيل رسائلهم لمواطنيهم، ما عدا أفراد القوات المسلحة. أنشأت بريطانيا وزارة للإعلام اكتنفتها السياسات المتناقضة من البداية. لم يحظ مكتب معلومات الحرب الأمريكي قط بالدعم الكامل من الرئيس روزفلت، وكان كل جناح من القوات المسلحة يسيطر على إنتاجه من أفلام الدعاية، كذلك سارت الأعمال الدعائية الأمريكية في خط مضاد لهوليوود، حيث كانت الاستوديوهات تحبط كل محاولة لتنفيذ أعمال حكومية قد تنتهك حرمة المجال.
وفي بريطانيا، قدمت فرق جريرسون بعضا من أكثر الأفلام الوثائقية قيمة وإثارة للإزعاج للنقاد. ويعد فيلم «أنشودة سيلان» (1934) لبازيل رايت مثالا ممتازا، فلم يضف رومانسية على الحياة فيما قبل الاستعمار في واحدة من المناطق الأساسية المنتجة للشاي في بريطانيا فحسب، ولكنه احتفى أيضا بالعملية الصناعية الرائعة التي يصل بها الشاي إلى مطابخ البريطانيين، وهكذا أضفى سحرا على تناول الشاي، كما أشار ويليام جويين، جاعلا فعل تناول الشاي بمنزلة مشاركة في نظرة حنين لثقافة غريبة، محتفيا في الوقت نفسه بحيوية وقوة بريطانيا.
تعامل برنامج روزفلت للإصلاح الاقتصادي مع الأزمة الاقتصادية باستثمار - وتدخل - حكومي جديد صادم في حياة المواطنين، وهو تغيير تطلب إقناعا؛ لذا وظفت الهيئات المختلفة مخرجين وثائقيين، وكانت غالبا تستعين بالفنانين الراديكاليين الذين كانوا ينتجون الأفلام الوثائقية النضالية. وكانت أكبر هذه الهيئات هيئة إعادة التوطين، حيث أصبح الكاتب والمحلل بير لورنتز هو المنتج للكثير من الأفلام الوثائقية الشهيرة.
ناضل لورنتز لتقديم أعمال فنية لخدمة الأهداف الحكومية التي كان لديه إيمان عميق بها، مثلما فعل جريرسون في بريطانيا وفيرتوف في الاتحاد السوفييتي، وأظهرت مشروعاته تأثير مجادلات الفنانين الأوروبيين والسوفييت، فقد استخدمت هذه المشروعات الصوت كعنصر مستقل، لا مجرد عنصر للخلفية، وخلقت روابط من خلال القصائد المرئية والصوتية، وحاكت شكل أفلام سيمفونيات المدن، وكان كل فيلم من أفلام لورنتز يوائم ما بين التحليلات - الثورية في الغالب - لمخرج الفيلم وبين التعليمات الرسمية، وقد صرح ويليام ألكساندر بأن لورنتز قد خفف من حدة التحليل الاجتماعي، خاصة فيما يتعلق بتوجيه أصابع الاتهام إلى الرأسماليين الجشعين.
كان فيلم «المحراث الذي حطم السهول» (1936) - الذي اتهم بتشجيع الدعم العام لبرامج المساعدة التابعة لهيئة إعادة التوطين (هيئة الأمن الزراعي فيما بعد) - نظرة حزينة وكئيبة للوراء على الكيفية التي دمرت بها الحياة البيئية في السهول الوسطى بفعل اختيارات الناس، مما نتج عنه هجرة جماعية، وقد رفضت شركات هوليوود إطلاع لورنتز على أي مشاهد مصورة، ورفض الموزعون الكبار عرض الفيلم في دور العرض الخاصة بهم، ولكن دور العرض المستقلة صنعت منه نجاحا صغيرا. أما فيلم «النهر» (1937)، فقد ناقش بأسلوب شاعري الحاجة إلى تدخل الحكومة في إدارة المياه والحفاظ عليها بالنظر إلى القوة المدمرة للميسيسيبي، وكان لورنتز أحيانا يطلق عليه «أوبرا»، ووزعته شركة باراماونت وجنت من ورائه الكثير من الأموال، ولكن ظلت الاستوديوهات على عدائها لصناعة الأفلام الحكومية.
أصبحت الأفلام التي أخرجها لورنتز أو أشرف عليها، من الكلاسيكيات بين طلاب السينما؛ لما تحويه من تجارب فنية جريئة، واحتفظت بجاذبيتها لدى المؤرخين، لأنها تصور لحظة اضطلعت فيها الحكومات في جميع أنحاء العالم فجأة - لأغراض طيبة أو خبيثة - بمشروعات ضخمة في الهندسة الاجتماعية والفيزيائية.
أهداف مختلفة، أساليب مختلفة
من شأن مقارنة بين ثلاثة أفلام وثائقية للدعاية الحكومية أن تظهر كيف أن الدعاية تختلف وفقا للتكليفات الحكومية والسياق الثقافي والفنان أيضا، فقد اختار ثلاثة مخرجين وثائقيين ثلاثة مناهج أسلوبية مختلفة للتعامل مع تحدي تشكيل أيديولوجية المشاهدين من خلال الواقع.
كان فيلم «انتصار الإرادة» (1935) للمخرجة الألمانية ليني ريفينشتال تمثيلا ممتازا لهدف أفلام الدعاية النازية وهو: مزج هتلر بالأمة، وتجسيد الحزب والحكومة فيما بعد كقوة ضاربة وموحدة ولا تقاوم. وكانت الأفلام الوثائقية مجرد واحدة من مجموعة كبيرة من الأدوات الرمزية لتحقيق هذا الهدف، وقد كان الهدف من هذه القوة الرمزية، التي أجادت ريفينشتال توظيفها، هو إبهار المؤيدين وترهيب الآخرين، بمن فيهم الأعداء الخارجيون.
نفذ فيلم «انتصار الإرادة» (1935) بهدف توثيق المؤتمر الشعبي للحزب النازي في عام 1934 وتولى تمويله استوديو «يو إف إيه» الوطني الألماني، وهو تجسيد استعراضي مبهر لحدث صاحبه بالفعل استعراضات مبهرة. يمجد الفيلم هتلر بصورة مرئية؛ إذ يظهره المشهد الافتتاحي وهو يهبط من بين السحاب، ويجسد الشعب الألماني جمهورا منظما ومقدسا إلى أعلى درجة، يعملون بهدف واحد: خدمة هتلر باعتباره مكافئا للأمة. ومن خلال لقطاته للوجوه المبتهجة وهي تؤله هتلر، ومشاهد تدافع الجماهير التي تعكس الرهبة والخشية، والموسيقى الفخمة المثيرة، ولقطات للأفراد شبابا وشيوخا وهم يتشاركون نفس الحركات والانفعالات، يخلق الفيلم وحدة سياسية مثيرة على نحو إيجابي، كما أشار فرانك توماسولو. وعلى الرغم من أنه يؤرخ لمؤتمر سياسي شعبي، فإن الفيلم يبتعد بحذر عن الجدال السياسي؛ فالفيلم يدور حول مشاعر الانتماء القوية؛ أن تكون جزءا من شيء تاريخي مجيد.
مع بداية الحرب العالمية الثانية، واجه البريطانيون تحديا مختلفا تماما عن ذلك الذي واجهه الألمان، كان الفوز ب «الحرب الشعبية» وشيكا من خلال تعبئة الناس، ولكن الأمة كانت قد خسرت الحرب تقريبا في الهجوم الأول. كان البريطانيون يحتاجون إلى الثقة في قدرتهم على المقاومة، وبعد بداية عصيبة اتخذت طابعا توجيهيا ورقابة شديدة، اكتسبت الدعاية البريطانية سمعة قوامها الأمانة والمصداقية؛ إذ كانت تقدم للبريطانيين الحقائق الواقعية، ومشاهد المعارك الحقيقية، وأخبار الحرب الحقيقية، والأشخاص الحقيقيين.
قدمت فرق جريرسون عشرات الأفلام الوثائقية، ولعل من أكثر الأفلام التي جسدت منهج الدعاية البريطانية في الاحتفاء بقدرة الأشخاص العاديين على الحفاظ على ثقافتهم تحت وطأة الضغوط هو فيلم «استمع لبريطانيا» (1942) لهمفري جينينجز، الفنان الذي ينتمي للطبقة العليا، وقدم العديد من الأفلام الوثائقية الشهيرة في فترة الحرب، تميزت جميعها بالافتتان بالتفاصيل الصغيرة المعبرة، وقد عمل في فيلم «استمع لبريطانيا» مع المونتير الرائع ستيوارت مكاليستر، الذي عمل معه في أفلام أخرى أيضا. «استمع لبريطانيا» قصيدة مرئية تشاهد عبر لمحات من لحظات الحياة اليومية في بريطانيا التي تترقب الطائرات والقنابل على نحو مستمر، وفيما يبدو أن المشاهد يسترق السمع للأصوات المتواصلة للحياة اليومية - رقص الأطفال في أحد الأفنية، أنشودة تراثية جماعية ينشدها عمال الإسعاف، حفل موسيقي للطبقة الراقية، جندي أمريكي يدرس «وطن في خطر» لزملائه من جيش الحلفاء - والكاميرا تتجول عبر الشوارع وتحملق داخل الغرف، يظهر رجال محملون بالحقائب يشقون طريقهم عبر الشوارع المقصوفة بالقنابل والمكسوة بالأنقاض في طريقهم إلى العمل، وتتولى النساء مهام المراقبة دون شكوى.
رأى البعض أن جينينجز قد لعب بأسلوب ساخر على أسطورة أن بريطانيا الممزقة طبقيا تتوحد بسعادة أمام تحدي الحرب، وقال آخرون إنه يبرز بحذق بارع وقائع التوترات الطبقية من خلال صوره المتناقضة. وبصرف النظر عن طريقة قراءتك للعمل، فإن جينينجز قد أنتج فيلما قصيرا حظي بشعبية كبيرة وأحدث فهما جماعيا بين البريطانيين، حتى إنهم كانوا سيقومون بكل ما يتطلبه الأمر من أجل الانتصار بلا شكوى ودون التخلي عن هويتهم، وقد كان منهجه ملائما لنوعية الرسالة التي أراد أن يبعث بها، وكان من المخطط ألا يبدو أسلوبه الهادف لتخفيف التوتر دعائيا على الإطلاق.
وواجهت الولايات المتحدة تحديات مختلفة، فلم يكن لدى الحكومة الفيدرالية وزارة قائمة بذاتها للدعاية، ولا وحدة لإنتاج الأفلام الوثائقية، لقد دخلت الولايات المتحدة الحرب متأخرة، وكان الكثير من الناس في الولايات المتحدة يرفضون دعم الحلفاء حتى قصفت اليابان ميناء بيرل هاربور. علاوة على ذلك، كان الشباب الذين يعبئون للالتحاق بالقوات المسلحة يأتون غالبا من المزارع أو البلدان الصغيرة، وكان تعليمهم ضحلا؛ فلم يكن لديهم أي فكرة عن السبب الذي يدفعهم للمجازفة بحياتهم.
كان العمل المميز لدعاية الحرب الأمريكية هو سلسلة أفلام «لماذا نحارب» (1943) الذي أنتجه مخرج هوليوود المعروف (والمهاجر من صقلية) فرانك كابرا لقسم المعلومات والتعليم بالجيش، التي خاطبت كلا من أنصار سياسة الانعزالية والأميين. نفذت هذه السلسلة المكونة من ثمانية أجزاء، التي تعاقد عليها الجيش الأمريكي، لكي تشرح للقوات الأمريكية أسباب تورط البلاد في هذه الحرب. اعتمد كابرا على أفلام سلاح الإشارة الأمريكي، واستخدم علاقاته بهوليوود بكل حرية، ولكن الأساس لمشروعه كان أعمال مخرجي الأفلام الدعائية في الدول الأخرى، خاصة أعمال ريفينشتال. وقد مزج صورا من أفلام هوليوود (بعد التغلب على رفض الاستوديو)، والخرائط المتحركة من استوديوهات ديزني، ومشاهد مصورة للجيش الأمريكي، ودعاية للعدو حولت إلى صورة للخطر المحدق. فقد أصبحت قدرة ريفينشتال على إرباك المشاهد الألماني جرس إنذار بعد إعادة صياغتها بأعين أمريكية.
إن سلسلة أفلام «لماذا نحارب» هي مجموعة من المناقشات التوجيهية والقوية عاطفيا تدعم دخول الولايات المتحدة الحرب، ويتميز الأسلوب بالمرح والثقة بل والتهور، معتمدا على الثقافة الشعبية الأمريكية المؤلفة من الصحف، والإذاعة، والسينما، التي كانت تمثل الوسائل الإعلامية الأساسية للشباب الأمريكي. المناقشات السياسية في الفيلم مبسطة لدرجة تصل أحيانا إلى حد التزييف؛ فلم يتسلل أي ذكر للتمييز العنصري - على سبيل المثال - إلى الصورة الوردية للديمقراطية الأمريكية، وقد أضفى كابرا ميله الشعبوي المميز له تجاه «أسلوب الحياة الأمريكي» على العمل؛ فقد وضعت الأزمة السياسية المعاصرة آنذاك في سياق القيم الشعبية والديمقراطية الأمريكية ممزوجة بطابع الحياة في البلدة الصغيرة، ولم يكن له سوى القليل من السيطرة على الرسائل السياسية الصريحة، التي وضعها المسئولون العسكريون.
لقد استخدمت هذه الأفلام الثلاثة أساليب مختلفة جذريا؛ هي: العرض المبهر، والتصريح المكبوح المتعمد، والخطاب المباشر الصريح. إن أعمالهم تعكس السياقات الثقافية والمهام السياسية المتمايزة أيضا، غير أن المخرجين الثلاثة اشتركوا في استراتيجية جوهرية هي: ربط الأزمة الحالية بما يمكن للمشاهد أن يراه باعتباره قيمهم الثابتة وتراثهم الثقافي.
الفاعلية
هل الأفلام الوثائقية الدعائية فعالة؟ خلص نيكولاس ريفز، معتمدا على الأدبيات الثرية عن تأثيرات الإعلام، إلى أن هذه الأفلام، شأنها شأن الجهود الدعائية للحكومات عموما، نجحت حيث استطاعت تعزيز المعتقدات، والأفلام الدعائية لم يكن لها فاعلية كبيرة قط في تغيير الرأي العام. والادعاءات الخاصة بقدرة أي عمل دعائي على تسميم عقول المشاهدين أو السيطرة عليها يبدو أن هناك مبالغة فيها عموما. علاوة على ذلك، فإن كل فيلم وثائقي يشكل جزءا من صورة أكبر للإقناع ووضع الأهداف الخفية، مما يخلق توقعات ويعيد تدريجيا رسم الخرائط الذهنية لما هو طبيعي.
افتقدت الأفلام الدعائية أيضا جاذبية الأفلام الروائية التجارية؛ فإبان الحرب العالمية الثانية، كانت الأفلام الدعائية غالبا ما تعرض في جهات عرض غير سينمائية أكثر مما تعرض في دور السينما. وفي اليابان، حيث كانت الأفلام الوثائقية تنفذ بالتكليف الرسمي، أظهرت دراسات فترة الحرب أن الأفلام الوثائقية جذبت عددا قليلا نسبيا من النساء. ففي الفيلم الألماني «انتصار الإرادة»، وعلى الرغم من الترويج الصريح من جانب حكومة هتلر له لدى أصحاب دور العرض، فقد كان غالبا ما يعرض لمدة أسبوع واحد فقط في دور العرض بسبب قلة أعداد الجماهير، ويبدو أن الفيلم لم يحسن الرأي العام الذي كان ثائرا بفعل الأنباء الاقتصادية السيئة والانزعاج من التطرفية النازية المعادية للسامية. ولعل الإنجاز الذي حققه «انتصار الإرادة» - على مستوى أعمق - لم ينعكس في صناديق الانتخاب، بل في ربطه للنازيين الجدد بالتقاليد التاريخية والثقافية العميقة.
شكل 2-1: قدم فيلم «انتصار الإرادة» دعاية ليس فقط للنازيين، ولكن أيضا للحلفاء عندما أعيد تقطيع مشاهده. الفيلم من إخراج ليني ريفينشتال عام 1935.
وفي بريطانيا، استمرت الأفلام الوثائقية المبنية على فكرة «الحرب الشعبية» لفترة أطول في دور العرض من أفلام الدعاية الوقتية ذات الطابع التوجيهي، وكان فيلم «لندن تستطيع الصمود» (1940) لهمفري جينينجز هو أول فيلم يحقق نجاحا على مستوى شباك التذاكر؛ فقد جسد ريبورتاجا لصحفي أمريكي، بفكرة رئيسية ضمنية مفادها أن الألمان لا يستطيعون «قتل روح أهل لندن وشجاعتها؛ فهما لا يقهران». وكان «استمع لبريطانيا» من الأفلام الأخرى التي حققت نجاحا جماهيريا، ولكنه كان استثناء. كانت هناك عروض متنقلة أيضا للأفلام الوثائقية استخدمت فيها أجهزة عرض 16 ملليمترا للعروض المنظمة.
أما في الولايات المتحدة، فقد عرضت سلسلة أفلام كابرا لكل جندي سواء في الوطن أو بالخارج، وأظهرت الدراسات أن تلك الأفلام أثرت على آراء الجنود عقب مشاهدتها مباشرة وفيما بعد. ومن خلال احتفاء الأفلام البسيط بالحلفاء، لاقت رواجا أيضا عند الحكومتين البريطانية والروسية، اللتين أمرتا بعرضها في دور العرض، غير أن نجاحها كان أقل في دور العرض الأمريكية؛ إذ لم يرغب أصحاب دور العرض في عرض سلسلة أفلام «لماذا نحارب»، وهو ما كان يعزى في جزء منه إلى تجاربهم السيئة مع الأفلام الوثائقية، وفي جزء آخر إلى إعادة السلسلة استخدام مواد كثيرة - خاصة الجرائد السينمائية - سبق عرضها في دور العرض من قبل.
لا يستسلم المشاهدون بسهولة للدعاية التي يستطيعون تمييزها ، وقد تمكن كثيرون من استخدام «انتصار الإرادة» للدعاية المضادة بفاعلية للغاية، لأن تأثيره على المشاهد غلب عليه التسلط والاستبداد؛ فقد أصبح وصفا مرئيا لإرادة الغزو والسحق، ولعل أحد الأسباب التي جعلت فيلم «استمع لبريطانيا» يظل محبوبا لهذه الدرجة أنه يخلق انطباعا بين المشاهدين بأنه لا يحاول التحكم في عقولهم، ولكن يدعوهم لملاحظة واقع قائم.
من الممكن أن تكون نتائج الفيلم الدعائي مختلفة كثيرا عن المتوقع، كما تبين من إعادة استخدام فيلم ريفينشتال؛ فقد قدم مخرج هوليوود الأمريكي جون هيوستون فيلما خلال فترة الحرب للقوات المسلحة الأمريكية، وهو فيلم «معركة سان بيترو» (1945)، لتوعية الأمريكيين بالحاجة إلى خوض المعركة التي خلفت خسائر بالغة في الأرواح في إيطاليا، ونظرا لاعتماده البالغ على الصور، قررت الحكومة عدم استخدام فيلمه خلال الحرب خوفا من بث الرعب بين الجماهير، وإن كانت قد ألغت قرارها ذاك بعد انتهاء الحرب. والفيلم، بصوره الفريدة للمعركة، قد استخدمه الناشطون المناهضون للحرب وغيرهم لإظهار التكلفة البشرية الباهظة للحرب.
أما عمل أكيرا إيواساكي، كما يتذكره إريك بارنو، فهو قصة ساخرة عن فيلم دعائي أعيد ترتيبه وحظره، فبعد أن أجبر إيواساكي على العمل كمخرج لدى الحكومة اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية، أصبح لديه الأجهزة والمهارات لتسجيل آثار قصف هيروشيما وناجازاكي، غير أن حكومة الاحتلال الأمريكية سارعت لمصادرة عمله وإخفائه، وحين أفرج عن العمل، أنتج إريك بارنو فيلما قصيرا ومؤثرا بقوة، هو فيلم «هيروشيما-ناجازاكي، أغسطس 1945»، وحين شاهد إيواساكي الفيلم، رأى المشاهد التي التقطها على الشاشة لأول مرة.
الأخلاقيات
إذا كان الفيلم الوثائقي يتعهد بأن يعرض للمشاهدين تجسيدا صادقا للواقع، فهل يستطيع مخرج أمين أن ينتج فيلما دعائيا ويسميه فيلما وثائقيا؟ إن كثيرا من الصحفيين الإذاعيين يعتبرون أن إبرام عقد مع الحكومة بمنزلة تدمير لحياتهم المهنية. يقدر المخرجون المستقلون أيضا استقلاليتهم عن الإملاءات والرقابة الحكومية، وفي الوقت نفسه، تتكسب الكثير من شركات إنتاج الأفلام من أعمال وثائقية تدريبية وترويجية للحكومات، على الرغم من اعتبار تلك الأعمال عادية وخالية من الإثارة بوجه عام.
غالبا ما كان المخرجون في زمن الحرب العالمية الثانية يعتقدون أنهم لا يملكون الحق في إنتاج أفلام دعائية فحسب، بل هو التزام واجب عليهم، فقد كان جريرسون يؤمن بأن المفكرين عليهم التزام بالعمل من أجل مجتمع قوي وموحد على أن يظل مفتوحا في نفس الوقت. وكما أوضح آنذاك: «بتعبير بسيط: الدعاية هي التعليم. إن «المعالجة» في أفلامنا تجمع الجماليات مع أفكار الإصلاح الديمقراطي. نحن معالجون استؤجرنا للقيادة والتوجيه، فنحن نقدم لكل فرد تصورا حيا للمجتمع الذي يملك امتيازا خاصا لخدمته.» وكان التوفيق بين الاثنين هنا حقيقة قاسية وميزة أيضا، وقد قال ذات مرة عن غياب الصراعات الطبقية في مشروعاته الحكومية: «القاعدة الأولى في صناعة الأفلام هي ألا تضرب اليد التي تمسك بالمحفظة.»
لم ير فرانك كابرا تناقضا في العمل لمصلحة الجيش الأمريكي، على الرغم من أنه غالبا ما كان يغضب من الصعوبات ويحبط من الطلبات المتضاربة من السلطات العسكرية. لقد وضع كابرا مواهبه وكله فخر في خدمة محاربة الفاشية مثلما فعل العديد من مواهب هوليوود الرائدة، الذين كان لدى بعضهم معتقدات سياسية يسارية وكانوا يعتبرون الفاشية التهديد الرئيسي لبناء مستقبل أكثر عدالة على الصعيد الاجتماعي. وبعد الحرب، قدم المنتج والكاتب السينمائي ستيوارت شولبرج سلسلة من الأفلام الوثائقية للترويج لمشروع مارشال للإعمار الاقتصادي الأوروبي.
على الجانب الآخر، وهو جانب الإخفاق، وجدت ليني ريفينشتال، التي قضت أربعة أعوام في برنامج لاستئصال النازية بعد الحرب العالمية الثانية، أن ارتباطها بهتلر قد وصمها لما تبقى من حياتها، وقد حاولت أن تجادل بأنها كانت تقدم فنا وليس دعاية لا أكثر، ولكنها أجبرت على تقديم أفلام دعائية. وحتى وفاتها عن عمر يناهز 101 عام في 2003، ظلت مصرة على أنها لم تكن يوما نازية، وأنها لم تكن تملك خيارا سوى العمل لحساب هتلر، وأنها كانت فقط تقدم أجمل عمل يمكنها تقديمه تحت تلك الظروف.
الإرث
لا تزال الدعاية - التي تعرف أيضا بالمعلومات المضللة، والدبلوماسية العامة، والتواصل الاستراتيجي - تشكل أداة مهمة لدى الحكومات، ولكن لم يعد الفيلم الوثائقي القائم بذاته جزءا مهما من حملات العلاقات العامة الموجهة للجمهور العام. وعلى الرغم من ذلك، فالدعاية الحكومية كانت محط انتباه المخرجين الوثائقيين، كما في فيلم الشئون العامة الوثائقي التليفزيوني «بيع البنتاجون»، وفيلم «المقهى الذري» (1982) لجين لودر وكيفين وبيرس رافيرتي، وهو نظرة ساخرة للدعاية الحكومية عن العصر النووي، وفيلم «بيكيني المشعة» (1987) لروبرت ستون عن حملة العلاقات العامة الحكومية غير العادية التي صاحبت تفجير أول قنبلة هيدروجينية.
ازدهرت مؤسسات الدعاية الحكومية التي أنشئت خلال الحرب في وقت السلم، فقد بدأ المجلس القومي للسينما بكندا خلال فترة الحرب، وساهم دعم الحكومة اليابانية للأفلام الدعائية خلال الحرب العالمية الثانية إسهاما كبيرا في توسيع نطاق المجال وتجهيزه لإنتاج ما بعد الحرب ذي التمويل الخاص.
إن دعاية جيل هي كنز دفين لجيل آخر، فقد أصبحت أرشيفات الجرائد السينمائية، والأفلام الوثائقية، والأفلام التدريبية، وغير ذلك من مشاهد الواقع المصورة موردا للأفلام المجمعة والمسلسلات التليفزيونية فيما بعد؛ فعلى سبيل المثال، اعتمد المسلسل التليفزيوني الأمريكي «انتصار في البحر» (1952-1953) اعتمادا كبيرا على مواد فيلمية لسلاح البحرية. اعتمدت الأفلام الوثائقية التي تتناول الحرب العالمية الثانية والتي تعرض على القنوات المشفرة أيضا، على مشاهد ذات ملكية عامة تابعة للحكومة من الحرب العالمية الثانية، وازدهرت شركات خاصة من خلال تصنيف وفهرسة المواد الحكومية الأمريكية. تتيح شركة برلينجر أرشيفز أيضا الأفلام الحكومية في صيغة رقمية مجانية قابلة للتحميل عبر الإنترنت.
وعلى الرغم من أن الأفلام الوثائقية لم تعد الوسائل الأساسية للدعاية الحكومية، لا تزال الحكومات تستثمر في السينما والفيديو لغرض مختلف تماما؛ المراقبة والرصد. ويمكن لهذا النمط واسع الانتشار أن يصبح مادة خام للمخرجين الوثائقيين أيضا؛ ففي أوروبا الشرقية، وبعد سقوط حائط برلين في عام 1989، أصبحت أرشيفات الحكومة مادة خام للأفلام الوثائقية التي تعيد تمحيص التاريخ. في فيلم «الأشرطة السرية» (2002) للمخرج البولندي بيوتر موراوسكي، يستعيد المخرجون الذين كانوا يعملون لدى الشرطة السرية ذكريات أعمالهم، وكان التعليق مركبا على مشاهد من علبة كرتونية مهملة بغير قصد. تنبع الكوميديا الماكرة للفيلم من حنين المخرجين الواضح لوظائفهم السابقة. كذلك عرضت تسجيلات الرشا غير القانونية لرئيس الاستخبارات البيروفي فلاديميرو مونتيسينوس بالتليفزيون، وهو ما أسفر عن الفيلم الوثائقي اللاذع «الجاسوس» (2002) لسونيا جولدنبرج.
تلقي الأفلام الوثائقية الدعائية الضوء على مشكلات تجسيد الواقع الذي يعد مكونا أساسيا في الفيلم الوثائقي كشكل فني، فهي تستخدم نفس التقنيات التي تستخدمها الأفلام الوثائقية لأي غرض آخر، وشأنها شأن الأعمال الوثائقية الأخرى، تعد بهدف عرض شيء على المشاهد يستطيع التصديق بأنه حقيقي؛ فالحقائق التي تعرضها توضع في سياق أيديولوجي ملائم لها يعطي معنى للفيلم، وليس بالضرورة أن تقدم بغرض خبيث؛ فغالبا ما يكون صناعها أشخاصا وطنيين بحق يرون أنهم يساهمون في المصلحة العامة بمهاراتهم، بل قد تكون هذه الأفلام صادقة، أو على الأقل تعرض حقيقة يؤمن المخرج بصحتها.
يكمن وجه الاختلاف بين الأفلام الوثائقية الدعائية وغيرها من الأفلام الوثائقية الأخرى في داعميها، الذين يعملون ممثلين للحكومة؛ تلك المؤسسة الاجتماعية التي تسن قواعد المجتمع وتطبقها بشكل أساسي من خلال القوة، وهؤلاء الداعمون يتحكمون في الرسالة، وتلك الاختلافات من شأنها أن تجزئ أهمية الأعمال الوثائقية الدعائية، بما أن تصوير الحقيقة مدعوما بمثل هذه القوة الهائلة. وتثبت هذه الأفلام الوثائقية بقوة أنه ما من فيلم وثائقي يشكل نافذة شفافة على الواقع، وأن المعنى المصاغ وراءه دافع، وتذكرنا أيضا بأهمية دراسة ظروف إنتاج أي تعبير ثقافي.
أفلام القضايا
تثير الأفلام الوثائقية، التي ينتجها المناصرون والناشطون من أجل قضايا سياسية، مشكلات مماثلة لما تثيرها أفلام الدعاية الحكومية الوثائقية، ولكنها تعمل في سياق مختلف.
ما الذي يميز فيلما ينتصر لقضية سياسية مثل أحد أفلام سلسلة ملفات اتحاد الحريات المدنية الأمريكية أو سجلات منظمة سييرا كلوب (وكلاهما متوافر على موقع إيه سي إل يو دوت تي في
aclu.tv ) عن فيلم دعائي مثل أعمال فرانك كابرا الحربية؟ كلاهما نفذ على يد منتجين لمصلحة منظمات من أجل الترويج لأهداف المنظمة، والاختلاف الأكبر يكمن في طبيعة المنظمات الراعية؛ فالحكومة لها نفوذ وسلطة على مواطنيها، وآلية الإقناع الخاصة بها غالبا ما تكون أداة في يد جهازها القمعي.
وعلى النقيض، نجد أن ترويج منظمات المجتمع المدني لآرائها ومواقفها (مع بعض الاستثناءات مثل الخيانة والفحش) ينظر إليه في أي مجتمع منفتح باعتباره مساهمة في مجال عام حيوي، وكلما اتسع نشاط مجموعة كبيرة من منظمات المجتمع المدني في التعبير عن مواقفها ومخاطبة جمهور ما للانخراط والمشاركة معها، اعتبر هذا المجتمع صحيا. والقانون الأمريكي يرسي هذا على نحو خاص في التعديل الدستوري الأول، الذي يؤيد فكرة أن علاج التعبير السيئ هو مزيد من التعبير، على حد تعبير لويس برانديس، قاضي المحكمة العليا الأمريكية.
ما الذي يميز فيلما ينتصر لقضية سياسية مثل «سيلزيوس 41,11»، إنتاج منظمة المواطنين المتحدين الأمريكية المحافظة، عن فيلم مستقل يطرح رؤى مثيرة مثل «فهرنهايت 9 / 11» الذي أنتج الأول للرد عليه؟ الإجابة: كلاهما يتبع منظمة ما، ويركز على دعم نشاط المنظمة بحشد حراك منظم ومفيد من المشاهدين. قد تختلف أو تتفق مع مايكل موور، ولكنه شخص واحد، وإن كان شخصا مشهورا. إن حجج موور تحفز الحوار، وقد تقود بعض المشاهدين للتعبير عن اختلافهم مع السياسة الخارجية (وتدفع آخرين لشجب مايكل موور والليبراليين). إنها تدخلات مباشرة في الحوار العام. وعلى النقيض، نجد أن أفلام القضايا أدوات لمنظمة لحشد حراك من أجل قضايا أو أهداف معينة.
وغالبا ما كان المناصرون والناشطون يختارون الأفلام الوثائقية لكونها وسيلة منخفضة الميزانية لمقاومة الوضع الراهن كما يعبر عنه في الإعلام السائد، وقد كانوا يعانون في التعامل مع مسائل الموضوع والشكل في بحثهم عن أكثر الطرق فاعلية للوصول للمشاهدين، وغالبا ما تكون أفلام القضايا مركزة إلى حد بعيد ومعدة بهدف تحفيز المشاهدين لاتخاذ إجراء معين؛ ومثل أفلام الدعاية الحكومية الوثائقية، قد ينفذها بنوايا حسنة أشخاص يتفقون بعمق مع أهداف منظمة ما؛ ومثل أفلام الدعاية أيضا، تستحق الانتباه من أي شخص يرغب في فهم أساليب الإقناع، ولا شيء بإمكانه أن يقنع أكثر من الواقع.
الأفلام «الموجهة»
خلال فترة الثلاثينيات المضطربة، حين زعزع الكساد العظيم إيمان الكثيرين بمستقبل الرأسمالية، كان الكثير من الجماعات السياسية اليسارية والكثير من أندية الأفلام المكتظة بشباب من ذوي التوجهات اليسارية الحديثة، ينظرون إلى الفيلم الوثائقي كأداة لتحدي الأوضاع الراهنة، وأرادوا تقديم أفلام «موجهة»: أفلام تدعم تغييرا اجتماعيا، بل ثوريا.
وفي القارة الأوروبية، والمملكة المتحدة، واليابان، والولايات المتحدة، كان الشباب المتحمس يناقش أحدث أعمال فيرتوف، وأيزينشتاين، وفلاهرتي، وفرق جريرسون في أندية السينما في كل أرجاء العالم، واقتداء بجريدة عين السينما السينمائية، قدموا جرائد سينمائية عارضت الجرائد السينمائية الرائجة التي كانت تعرض في دور العرض التي غالبا ما كانت ذات توجهات يمينية. وفي الولايات المتحدة، قدم اتحاد السينما والتصوير سلسلة من الجرائد السينمائية الموجهة للعمال تجسد الإضرابات والمظاهرات، وقد حظيت بمشاهدة واسعة. كانت هذه الجرائد تسجيلات بسيطة للأحداث، صورت بعين حملت تعاطفا تجاه العمال. وقد عرض المخرجون الجرائد السينمائية بعضهم لبعض، وللأعضاء المستجدين، وأمام الجماعات السياسية والمؤتمرات الشعبية السياسية.
كانت هذه الأحزاب السياسية والأندية السينمائية حاضنة للمخرجين الوثائقيين، فقد بدأ المخرجون الذين اتجهوا إلى العمل مع بير لورنتز في إدارة روزفلت من هناك، وكذلك فعل المخرج الناشط الهولندي جوريس إيفينز، وثمة فيلم قصير يضرب مثالا على النبرة الحادة لهذه الأعمال، هو فيلم قصير قدمه إيفينز مع رئيس نادي السينما البلجيكي هنري ستورك بعنوان «بوريناج» (1933)، يصور عمال المناجم كأشخاص دفعوا بوحشية في هوة الفقر نتيجة لأزمة رأسمالية قديمة حدثت بسبب تضخم الإنتاج، الذي تحدث عنه ستورك فيما بعد قائلا: «لقد أردنا أن نطلق صرخة للتعبير عن سخطنا من خلال استخدام أفظع الصور الممكنة.» الفيلم اتهام غاضب وذو طابع توجيهي، وقد استخدم إعادة التجسيد وتجاور المتناقضات الهادف إلى النقد والاتهام.
مع تفاقم أزمة الكساد العظيم اكتسب الحزب الشيوعي، المنتمي للاتحاد السوفييتي، مصداقية في الكثير من الدول. كان للحزب الشيوعي تأثير قوي على السياسة التقدمية على المستوى العالمي، وعلى الأعمال الثقافية المرتبطة بها، بما في ذلك السينما؛ على سبيل المثال، كان الكثير من مخرجي اتحاد السينما والتصوير أعضاء في الحزب الشيوعي، وكانت المنظمة جزءا من «الجبهة الثقافية» للحزب الشيوعي بصفة غير رسمية.
كانت الصلة بالحزب الشيوعي بالغة الأهمية؛ فقد كانت تبني مجتمعا، وتسمح للناس بتجميع الموارد، وتحشد الجماهير، وتشكل الرسائل. ولعل في الحرب الأهلية الإسبانية مثالا جيدا على ذلك؛ فقد اندلعت الحرب الأهلية في عام 1936 حين تمرد القادة العسكريون، من بينهم فرانسيسكو فرانكو، ضد حكومة الجبهة الشعبية الجمهورية اليسارية. قاوم الجمهوريون بدعم من الحزب الشيوعي المدعوم من الاتحاد السوفييتي، ومارس قادة الحزب الشيوعي قمعا وحشيا ضد الفصائل السياسية الأخرى، بما فيها الفوضويون. وبحلول عام 1939، انتصر فرانكو بمساعدة النازيين، وقد نظر البعض، على المستوى العالمي، إلى الحرب ككفاح ضد الفاشية يتطلب تضامنا عالميا، ورأى آخرون، وهم المناهضون للحزب الشيوعي، أنها قضية قومية لا يجوز التدخل فيها.
على المستوى العالمي، احتشد صناع الأفلام لتقديم أفلام عن الحرب من أجل حشد الوعي والأموال للقوات المناهضة لفرانكو، وقد مارست هذه الأفلام التعتيم على الشقاق الحزبي الداخلي، وشجعت الدعم الدولي للجمهوريين، بما تلاءم مع الحزب الشيوعي. من أشهر هذه الأفلام فيلم «الأرض الإسبانية» (1937). نفذ الفيلم على يد فريق عالمي - إيفينز للإخراج، وهيلين فان دونجن للمونتاج، والقصة والحوار لإرنست همنجواي - لمصلحة منتجين من هوليوود. يظهر الفيلم معالجة فنية للمصداقية السياسية، ويبين على نحو تصادفي الطلاقة الفنية الجمالية المتنامية لدى إيفينز، الذي صار مخرجا نشطا رائدا ومعلما لكثيرين آخرين حتى وفاته في عام 1989.
من خلال معالجة تعيد إلى الأذهان الواقعية الرومانسية لروبرت فلاهرتي، يصحب الفيلم المشاهدين إلى داخل الحياة اليومية لقرية تقع بالقرب من مدريد. صور الفيلم في وسط الحرب، وهو يوثق لبناء قناة ري تشكل أهمية قصوى للمحاصيل التي ستطعم مدريد التي تستعد للحرب. إن تركيز الفيلم على إيقاعات الحياة اليومية يبحر بالمشاهد داخل عمل القرويين وعاداتهم. والآن نرى الحرب وقد أصبحت جزءا أيضا من حياة القرويين اليومية؛ فنراهم يعلقون البنادق على أكتافهم، ويقفون في نوبات حراسة، ويتفقدون الدمار بعد انفجار قنبلة، نرى أيضا الدعم السخي للقرويين لقضية مناهضة فرانكو منسوجا داخل قيم ونسيج الحياة اليومية.
نجح إيفينز، بمساعدة سرد همنجواي الغني، في تجاوز التساؤلات السياسية المبلبلة عن الصراع الحزبي، لقد كان الفيلم ينقل عاطفة إنسانية، لا معلومات سياسية ؛ فقد استخدم إيفينز تقنيات الواقعية لإثارة مشاعر المشاهدين وإبرازها على السطح، وعلى الرغم من أن الفيلم لم يحظ إلا بعرض سينمائي متواضع، فقد جمع مبلغا كبيرا من المال للجمهوريين المناوئين لفرانكو في عروضه، في كل من دور العرض والأندية السينمائية وأيضا في حفلات العرض الخاصة.
أظهر فيلم «الأرض الإسبانية» أيضا رد فعل لجدال شاع بين المخرجين الناشطين في ذلك الوقت: هل يجب على المرء أن يصنع أفلاما «نضالية» لتعبئة أنصاره للتحرك، أم يجب أن يحاول الوصول إلى قطاع أعرض من الجماهير لإقناعهم بوجهة نظر معينة؟ وهذا الملاذ الثاني يتطلب مزيدا من البراعة الفنية، التي نجح فيلم «الأرض الإسبانية» في توظيفها. أيضا اتبع مخرجو نيويورك الذين أسسوا مجموعة نيكينو لصناعة الأفلام بعد انفصال سياسي وفني عن اتحاد السينما والتصوير هذا النهج الثاني في تقديم فيلم آخر من أفلام القضايا الشهيرة، وهو فيلم «الوطن» (1942). اعتمد الفيلم على تحقيق للكونجرس في انتهاكات الحريات المدنية، مستخدما إعادة التجسيد الدرامي، وجاهد من أجل الحث على مطالبة أوسع بالعدالة الاجتماعية والإنصاف والمساواة في المعاملة أمام القانون. على الرغم من ذلك، لم يستطع الفيلم منافسة قيم الإنتاج الهوليوودية، وبحلول عام 1942 كانت رسالته قد انزوت لمصلحة الحركة الوطنية في فترة الحرب.
وجاءت الحرب العالمية الثانية لتضع نهاية للكثير من التجارب في مجال صناعة الأفلام الموجهة؛ فقد قامت الحكومة في ألمانيا واليابان بقمع وحشي لأندية السينما. وساهم اضطهاد الشيوعيين والتبرؤ من الشيوعية السوفييتية بعد الإعلان عن فظائع الستالينية عام 1956 والغزو السوفييتي للمجر، في إبعاد الكثير من المفكرين والفنانين عن سياسات الحزب الشيوعي. «السينما الثالثة»
في الستينيات، كانت حركات الحقوق المدنية وحقوق الإنسان، والكفاح ضد الاستعمارية، والأسلحة النووية، وسباق التسلح خلال فترة الحرب الباردة، كلها علامات ميزت فترة من الاضطراب السياسي، وكان للطفرات التكنولوجية التي مكنت سينما الواقع وبزوغ فجر عصر الفيديو، مع ظهور أجهزة الفيديو المحمولة في عام 1967، دورهما في تحفيز الكثيرين للنظر مرة أخرى للفيلم الوثائقي كأداة داخل الحركات السياسية.
كان المخرجون الناشطون - الذين غالبا ما كانوا طلابا أو طلابا سابقين في مجتمع جامعي - ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم طليعة الحركة الثقافية للتغيير، ومن ثم كونوا جماعات مشتركة كانت تتقاسم العمل والفوائد بالتساوي؛ ففي الولايات المتحدة، نشأت جماعات لإنتاج الجرائد السينمائية المخصصة لرفع الوعي بالظلم الاجتماعي بين العمال في نيويورك وسان فرانسيسكو وشيكاغو. وفي فرنسا، خلال الفترة التي وصلت لذروتها مع الإضراب العام الذي حدث في عام 1968، كون جان لوك جودار وآخرون جماعة دزيجا فيرتوف التي اكتسبت شهرة واسعة لكنها لم تستمر طويلا، وقامت بتجربة مناهج السينما الطليعية. كون كريس ماركر وآخرون أيضا جماعة إيسكرا الأكثر نضالا، التي سميت على اسم جريدة لينين السرية، وركزت أكثر على قضايا العمل. وفي الجماعات البريطانية مثل لندن فيلم ميكرز ولندن ويمينز فيلم، كان الأعضاء يناقشون أي الأساليب تتميز بالفاعلية، ونوعية الجماهير التي يجب استهدافها.
وغالبا ما كانت حلقات الوصل على مستوى عالمي، ففي جنوب أفريقيا وجميع أنحاء العالم، استخدم الناشطون المناهضون للتمييز العنصري فيلم «نهاية الحوار» (1971) لحشد الدعم الدولي. نفذ الفيلم على يد مجموعة من المنفيين في لندن، وكان يكشف بأسلوب عنيف عن التباينات الحادة بين الحياة اليومية للأثرياء البيض والحياة اليومية للسود في جنوب أفريقيا، أم في الهند، فقد تعاون المخرج الناشط آناند باتواردهان مع المتظاهرين لتوثيق كفاحهم ضد الفساد الحكومي، وهرب المشاهد التي صورها وحصل على وظيفة في كندا، وهناك قدم بالتعاون مع المقاومين لحكومة الطوارئ الهندية فيلم «أمواج الثورة» (1975). عرض الفيلم عالميا (ولكن حظر عرضه في الهند)، واستخدمته المنظمات السياسية لحشد المعارضة للطوارئ.
وفي أمريكا اللاتينية من أدناها إلى أقصاها، عمل صناع الأفلام في مجموعات مستمدين الإلهام من مقاومة الثورة الكوبية للهيمنة الأمريكية، ومن ثم نشأ مفهوم «السينما الثالثة»، وهو مصطلح جاء لوصف السينما النضالية في العالم، واستغل صناع الأفلام في العالم النامي هذه الفكرة مثلما فعل صناع الأفلام في جميع أنحاء العالم الذين شعروا بأنهم مهمشون أو رأوا أنفسهم تجسيدا للمضطهدين.
اشتق مصطلح «السينما الثالثة» من مفهوم «العالم الثالث» الذي يشير إلى الأمم والحركات الثقافية التي طالبت بالاستقلال عن نزاع الحرب الباردة بين القوتين العظميين، وقد وعدت برؤية للتغيير السياسي لم تكن مقيدة بالحزب الشيوعي السوفييتي الذي أصبح سيئ السمعة آنذاك، وكان المفكرون والفنانون في جميع أنحاء العالم ينظرون إلى الثقافة باعتبارها ذراعا لهذه الحركة. لقد كانت السينما الأمريكية اللاتينية المستقلة والمنشقة - «السينما الجديدة» أو «سينما نوفو» في البرازيل - تتولى القيادة، وكان الفيلم الوثائقي، كما ذكر مايكل شانان، ملمحا مهما لها.
كانت كوبا - حيث أممت صناعة السينما بحلول عام 1960 - مركزا للإنتاج والدعم للمخرجين المستقلين الذين كانوا يتعرضون للقمع والهجوم في بلادهم (فقد تعاون جوريس إيفينز مع بعض رواد صناعة الأفلام في كوبا في الستينيات)، وأطلق المصور والمخرج الكوبي سانتياجو ألفاريز النسخة الكوبية من جرائد عين السينما السينمائية، وقدم العديد من الأفلام الوثائقية. لا تعرض هذه الأفلام ثورة الغضب المتقدة ضد الظلم فحسب، ولكنها تعرض أيضا الدعم الحماسي للثورة. كان من أوائل التجارب الوثائقية لألفاريز فيلم «الآن» (1965)، وهو فيلم مثير نظرا لإعادة استخدامه صورا نادرة؛ ففي هذا الفيلم، شكل ألفاريز استنكارا واتهاما للعنصرية في الولايات المتحدة من خلال مجموعة من الصور في المجلات والصحف للصراع العرقي، وكانت الموسيقى التصويرية أغنية للينا هورن عن الحرية.
أما في الأرجنتين، فقد أسس فرناندو بيري مدرسة سينمائية كان لها دور اجتماعي، وكان أول فيلم لهذه المدرسة «ألق لي بدايم» (1960) الذي يظهر كيف كان الأطفال الصغار يجمعون المال من أجل إطعام أسرهم بتسول قطع النقود من المارة في القطارات. يخلو الفيلم من التعليق إلى حد بعيد، متبنيا الأسلوب الواقعي الحديث الذي درسه بيري في إيطاليا، ويتعقب الصغار في لقطات متحركة وهم يركضون بجوار القطار: إنه يستنكر من خلال الإفشاء. ومع ظهور الاستقطاب السياسي في الأرجنتين، شارك المخرجون الذين تعلموا على يد بيري أو استمدوا منه الإلهام في حركة المقاومة المنظمة أو الكفاح المسلح، وغالبا ما كانوا يضطهدون، بل إن الكثير منهم قد «اختفى».
كان من أكثر مخرجي الحركة تأثيرا المخرج الأرجنتيني فرناندو سولاناس وعالم الاجتماع الأرجنتيني أوكتافيو جتينو، اللذين أصدرا معا بيانا عاصفا شديد التأثير يدعو ل «سينما ثالثة» (كانت السينما الأولى هي هوليوود، والثانية هي «السينما التجريبية» أو «سينما المؤلف»)، وقد أكدا أن السينما لا يجب أن تكون مجرد «مطرقة»، كما وصفها جريرسون، ولكن يجب أن تكون فعلا يؤدي إلى «التحرر من الاستعمار» في حد ذاتها. كان هدفهما هو «مزج جماليات الفن بحياة المجتمع»، مما يجعل المفكرين مرتبطين بالثورة شأنهم شأن الجماهير. نظريا، من المفترض أن ينفذ مثل هذه الأفلام فريق عمل ثوري، وأن تعرض في «مساحة محررة»، ويختفي المتفرجون، ويقوم عمل فني أنتج إنتاجا جماعيا بحث المشاهدين على التحرك. ومثل هذا النوع من السينما يشن حربا ضد العدو الأقوى على الإطلاق؛ ذلك العدو الموجود بداخلنا جميعا الذي يقاوم خلق «الإنسان الجديد» الثوري مثلما كان الكوبيون يفعلون.
جرب سولاناس وجتينو نظريتهما في فيلم «ساعة الأفران» (1968) في إطار حركة سينما جماعة التحرير. يتناوب الفيلم في ثلاثة أجزاء مجموعها أكثر من أربع ساعات، ما بين الهجوم والجذب والشرح والتأمل، وهو مناقشة يديرها أستاذ جامعي ساخط يهز طلابه من طية صدر ستراتهم. يتناول الجزء الأول الاستعمار الجديد في الأرجنتين، ويتناول الثاني صعود الرئيس الأرجنتيني خوان بيرون، الذي أرسى نظام المؤسسات والذي حظي بحب جارف من الطبقة العاملة، وكذلك المعارضة للانقلاب الذي أطاح به في عام 1955، أما الجزء الثالث، فيتناول الطرق لمستقبل ثوري. وقد استخدمت أدوات لإثارة مشاعر القلق والصدمة منها: العناوين الداخلية مع كلمات قابلة للتضاعف، والشاشات البيضاء، وتركيز مدته خمس دقائق كاملة على الوجه الميت لتشي جيفارا الذي أهدي إليه هذا الفيلم.
عرض الفيلم خلسة في الأرجنتين وفي دول أخرى من دول أمريكا اللاتينية، وعرض على نطاق واسع في مختلف أنحاء العالم في المهرجانات السينمائية وفي دور العرض. وفي الولايات المتحدة، حظي فيلم «ساعة الأفران» بشعبية ورواج لدى الجماعات السياسية الراديكالية؛ ففي شيكاغو، على سبيل المثال، عرضته جماعة يانج لوردز - التي نشأت في بورتوريكو كتشكيل عصابي ثم تحولت إلى جماعة ضغط - وسرعان ما أرسل سولاناس وجتينو وكثيرون آخرون إلى المنفى.
ثمة أفلام أخرى رائعة تنتمي إلى «السينما الثالثة» تم الانتهاء منها في المنفى، مثل فيلم «معركة تشيلي»، وهو ملحمة من ثلاثة أجزاء للمخرج التشيلي باتريشيو جوزمان (1975-1979). كان جوزمان واحدا ممن تدربوا على يد جوريس إيفينز. صور فيلم «فالباريسو، حبيبتي»، لإيفينز عام 1969، الذي يعقد مقارنة لاذعة بين الأجزاء الفقيرة والغنية للمدينة المينائية التشيلية (وقد كتب كريس ماركر السرد لهذا الفيلم الذي ينتمي لسيمفونيات المدن).
يتألف فيلم «معركة تشيلي» من مشاهد واقعية ثمينة كانت قد أنقذت من مشروع فيلم استغرق ثلاث سنوات يؤرخ لفترة رئاسة سلفادور أليندي، وهو المشروع الذي انهار حين أطاح انقلاب عسكري بأليندي؛ فقد هرب جوزمان المشاهد المصورة وفر إلى أوروبا، وحينئذ أصبح مشروعا عالميا لتعبئة معارضة ضد الحكومة العسكرية. استكمل الفيلم في فرنسا بمساعدة الأندية السينمائية اليسارية، وفي مؤسسة معهد الفن والصناعة السينمائية المؤممة في كوبا، وجرى تداوله في جميع أنحاء العالم عدا تشيلي. يوجه فيلم «معركة تشيلي» اتهاما لبعض قطاعات من الجيش التشيلي، والطبقة الوسطى التشيلية، والحكومة الأمريكية بالإطاحة بحكومة شرعية منتخبة، وكان للمونتاج المثير والسرد المعتدل دورهما في رسم الطريق نحو صنع تراجيديا الفيلم.
تجمع اهتمام المخرجين ب «السينما الثالثة»، وسينما الواقع، والقوة السياسية لشهادات العامة في مشروعات أطلقت عبر مختلف أنحاء العالم؛ ففي اليابان، وثقت جماعة لصناعة الأفلام بقيادة سينسكي أوجاوا احتجاجات الفلاحين المعارضين لبناء مطار ناريتا، وقد عرض أحد الأفلام، وهو فيلم «فلاحو القلعة الثانية» (1971) في قاعات محلية مؤجرة في جميع أنحاء اليابان بالتنسيق مع العديد من الجماعات اليسارية، وحظي بتوزيع عالمي واسع، وانتهى الحال بسينسكي أوجاوا بأن قضى حياته في مثل هذه الأعمال؛ فبعد سنوات من الحياة مع فلاحي ناريتا، ارتحل إلى قرية ماجينو الصغيرة وقدم العديد من الأفلام التي توثق الحياة اليومية هناك. وفي فيلم ياباني آخر، تعاون سكان قرية صيد صغيرة، تسممت بالزئبق الناتج عن تصريف مخلفات المصانع، مع المخرج نورياكي تسوشيموتو لتوثيق كفاحهم من أجل العدالة، وقد ساهم فيلم «ميناماتا» (1971) في رفع الوعي العالمي بالتسمم بالزئبق وأخجل الحكومة اليابانية فاعترفت بالمشكلة، واستمر تسوشيموتو في استخدام الفيلم لرفع الوعي العالمي، واستمر في التعاون مع فلاحي ميناماتا لمواصلة الضغط لمعالجة مشكلاتهم المتعلقة بالزئبق. وفي تايوان، كانت حكومة السبعينيات تأبى الاعتراف بالقمع الذي يمارس ضد سكان تايوان الأصليين؛ فأنتجت مجموعة من الفنانين مسلسلا وثائقيا تليفزيونيا هو «جزيرة الجوهرة العطرة»، الذي يحتفي بجمال الثقافة الأصلية. ولم يؤد المسلسل إلى إنتاج أجزاء متعددة منه فحسب، بل أدى أيضا إلى ظهور مفردات مشتركة للنقد الاجتماعي.
وفي عهد الأنظمة القمعية التي هيمن عليها السوفييت، حيث كانت حرية التعبير غائبة وتعرضت منظمات المعارضة للقمع، أقحم المخرجون الوثائقيون النقد على نحو مباشر أو غير مباشر في أعمالهم، ومن ثم تحايلوا على الرقباء. ازدهرت الأفلام الوثائقية المسماة «سوداء» أو منشقة في أوروبا الشرقية السوفييتية، فقدم المخرجون البولنديون مثل إدوارد زاكروتسكي وكرتزيزتوف كيسلوسكي أفلاما وثائقية حظيت بمراقبة حادة أعدت بهدف تقديم مرآة مثيرة للقلق لجماهيرهم.
جمعت أفلام القضايا في فترة الستينيات والسبعينيات، شأن نظيرتها في الحقب الأخرى، بين المثالية والبراجماتية، وقد استخدمت جميع المناهج التي أبدعها المخرجون الوثائقيون الأوائل؛ فاستراتيجيات الواقعية والواقعية الجديدة في منهج فلاهرتي، كتلك المستخدمة في فيلم «ألق لي بدايم»، كشفت للمشاهدين حقائق جديدة. سادت أيضا التكليفات الاجتماعية الجريرسونية المشروعات الفنية، ولكنها في تلك الفترة صارت في خدمة الإطاحة بالأنظمة وليس الحفاظ على الدولة، وكانت تحديات الشكل الضخمة لفيرتوف أساسا لتجارب جودار، وأظهرت الأفلام الوثائقية الكوبية تأثير المخرجين السوفييتيين، ودخل أنصار القضايا السياسية في جدال عنيف بشأن اختياراتهم للشكل، واستغلوا أيضا الابتكارات الجديدة التي يمكنها أن تجعل أعمالهم أكثر حيوية، وسرعان ما أدخلت أجهزة وتقنيات سينما الواقع. غير أن البراجماتية كان لها السيادة؛ على سبيل المثال، لو دعت الحاجة لاستخدام السرد في فيلم وثائقي ينتمي لسينما الواقع لتوصيل الفكرة، كان السرد يستخدم.
الموروثات
انتشر نموذج الفيلم «الموجه» أو «السينما الثالثة» أو الفيلم الراديكالي في صناعة الأفلام على نحو جيد، ولا يزال يعاود الظهور على السطح في أوقات الأزمات والفرص؛ ففي كوريا الجنوبية خلال السبعينيات، تعرف الشباب على الاتجاهات الراديكالية في المراكز الثقافية الفرنسية والألمانية، ومع التحول الديمقراطي في سول في عام 1989 الذي كان فترة هدوء سياسي، وقدموا «أفلاما للناس» عن مشكلات العمال والمشكلات الريفية، واضعة أساسا للمؤسسات السينمائية المستقلة، وقد كانت رؤية مؤسسة سول فيجوال كوليكتيف هي «تأمين الحقوق الاجتماعية للجماهير». وفي الصين وبعد عام 1989، تحدت حركة «الفيلم الوثائقي الجديد» التي أبرزت الواقعية وليس الاصطناع، تحديا غير صريح للمبدأ الثابت وعملت على تشجيع الانشقاق والتمرد، وكان فيلم «التسول في بكين» (1991) لوو وينجوانج، الذي يدور حول مجموعة من الفنانين المهمشين في المدينة الكبيرة، علامة تاريخية للناشطين المدنيين. وفي بداية القرن الحادي والعشرين في الأرجنتين، وبعد الانهيار المالي الداخلي، ظهرت الجماعات السينمائية على السطح كوسائل للتعبئة السياسية، لتقدم أفلاما مع الجماعات السياسية والعمالية.
انبثقت العديد من المؤسسات من رحم صناعة الأفلام النضالية؛ فهناك موزعون مثل مؤسسة «دي إي سي» الكندية، وموزعون أمريكيون مثل ويمين ميك موفيز (وهي مؤسسة توزيع نسائية)، وثيرد وورلد نيوزريل (التي تركز على الأعمال المهمة اجتماعيا التي يقدمها غير البيض)، وكاليفورنيا نيوزريل (التي تعرض قضايا ومشكلات الزنوج، والأفارقة، والقضايا العرقية والعمالية)، ومؤسسة نيو داي (وهي مؤسسة تشجع التوزيع الذاتي)، وكذلك الإيسكرا الفرنسية، وكلها مؤسسات وريثة لحركة صناعة الأفلام الموجهة التي ظهرت في الستينيات. وقد استمرت المؤسسات التي بدأت في عرض أصوات العامة والمحليين، مثل المؤسستين الأمريكيتين «دي سي تي في» وأبالشوب، وتولت تدريب أجيال جديدة من صناع الأفلام. يوجد أيضا مراكز الاتصال بالقنوات المشفرة، وهي ظاهرة أمريكية من القنوات المشفرة مخصصة لبث الأفلام التي يقدمها الجمهور المحلي وتقدم له، والتي نشأت من رحم الحركة النضالية الإعلامية في تلك الحقبة. وقد كان المخرج الأمريكي جورج ستوني، الذي تعلم الكثير من عمله في الأعوام من 1968 إلى 1970 مع برنامج تحدي التغيير الكندي، قائدا للحركة.
وأخيرا أخذ كثير من المخرجين وصناع الأفلام الآخرين مثاليتهم ومهاراتهم الإخراجية إلى ميادين أكثر تقليدية، خاصة في التليفزيون العام وتليفزيون الخدمة العامة والتعليم العالي، وبدأ كثير من المخرجين الوثائقيين مشوارهم في النضال السياسي واستطاعوا الوصول إلى قطاع أعرض من الجمهور؛ على سبيل المثال، قدمت باربرا كوبل، التي درست في أواخر الستينيات مع رائدي سينما الواقع الأخوين مايسلز، فيلم «مقاطعة هارلان، يو إس إيه» (1976) بالتنسيق مع العمال المضربين بمناجم الفحم بكنتاكي. كان للفيلم أهمية للعمال والنقابات العمالية، وفاز بإحدى جوائز الأوسكار في ذلك العام. واصلت كوبل العمل مع المؤسسات والمنظمات غير الهادفة للربح الساعية لتحقيق العدالة الاجتماعية، وفي نفس الوقت كانت تخرج أعمالا درامية للتليفزيون وتنتج أفلاما وثائقية تجارية مثل «بلوز الرجل الجامح» (1997)؛ وهو جولة موسيقية للمخرج وعازف الجاز وودي آلان.
شكل 2-2: كان التعبير عن أهداف التغيير الاجتماعي لشركة كارتماكوين فيلمز يختلف باختلاف الزمن؛ في الصورة، تتحدث نعيمة في القدس إلى خطيبها في الولايات المتحدة في مسلسل «الأمريكيون الجدد» (2004). إنتاج كارتماكوين فيلمز.
تطورت المؤسسات التي تأسست في هذه الفترة أيضا لتنتج أعمالا مختلفة تماما، فقد أسس ثلاثة خريجين من جامعة شيكاغو كانوا قد وجدوا الإلهام في أعمال جون ديوي وقدرات الكاميرا المحمولة التي ظهرت حديثا - شركة كارتماكوين فيلمز في شيكاغو، وكان أول أفلامهم، «منزل للحياة» (1966)، رؤية واقعية لمهانات الحياة في دور رعاية المسنين، وفشل الفيلم في تغيير أي من سياسات الرعاية الصحية. وفي خضم بحثهم عن مشروعات أكثر توجها نحو العمل الإجرائي، وبعد أن أصبحت مؤسسة سياسية، قدمت كارتماكوين فيلم «قصة مركز شيكاغو للأمومة» (1976) للاحتجاج على إغلاق آخر برنامج للتوليد المنزلي في شيكاغو، وكجزء من حملة ضد سيطرة الشركات على مجال الرعاية الصحية. بعد حل المجموعة، استمرت كارتماكوين في تقديم الأفلام وأصبحت موجهة نحو الجماهير العامة. وقد حظي فيلم «أحلام الطوق» (1994) لستيف جيمس بنجاح عالمي بعد فوزه بجائزة في مهرجان صندانس السينمائي، أما المسلسل التليفزيوني الملحمي «الأمريكيون الجدد» (2002)، وهو إنتاج تنفيذي مشترك لجوردون كوين وستيفن جيمس الشريكين المؤسسين لكارتماكوين، فقد تعقب مجموعة من المهاجرين إلى الولايات المتحدة من بلادهم الأصلية. وقد ظل نفس الاهتمام قائما بإعطاء الأبطال الفرصة للتعبير عن آرائهم ومشاعرهم، ودعوة المشاهدين في احترام لمعايشة تجارب هؤلاء الأبطال، وإثارة أسئلة عن الوضع الراهن، وكان بمنزلة الزخم الذي يحرك أعمال كارتماكوين الأصلية.
حينما تشاهد فيما بعد، تصبح أفلام القضايا شهادة تأييد للقضية من أجل التاريخ، كما في «الأرض الإسبانية» و«ساعة الأفران»، وبالفعل، فقد بعث فيلم «معركة تشيلي» من جديد في تشيلي بعد عودة الديمقراطية، وهو يستخدم الآن لتدريس التاريخ للتشيليين الذين محت الكتب في عهد بينوشيه كل أثر لسنوات حكم أليندي تقريبا.
في القرن الحادي والعشرين ومع ظهور أجهزة إنتاج أكثر تطورا، صارت المنظمات المدافعة توكل وتنتج أفلاما وثائقية كجزء من خطط اتصالاتها الاستراتيجية. إن فيلم «العراق للبيع» (2006)، إنتاج شركة بريف نيو فيلمز، عن جشع الشركات خلال حرب العراق، وفيلم «حرب الحدود» (2006)، إنتاج منظمة المواطنين المتحدين المحافظة، عن الهجرة إلى الولايات المتحدة، أعدا كليهما كأسلحة في حرب للأفكار، وعندما درس الكونجرس الأمريكي افتتاح المحمية الوطنية القطبية للحياة البرية من أجل التنقيب عن النفط، أنتجت منظمة سييرا كلوب وغيرها من المنظمات غير الربحية المهتمة بالبيئة فيلم «نفط على الجليد» (2004). يبحث هذا الفيلم، الذي يرويه بيتر كويوت، معركة التطوير النفطي في المحمية الوطنية القطبية للحياة البرية، وتأثير هذا التطوير على كل من البيئة والمجتمعات الطبيعية، وقد عرض في دور العرض، وعلى التليفزيون العام، وفي الكثير من الأماكن العامة، عرضت أيضا أسطوانة (الدي في دي) فيلما قصيرا ومجموعة أدوات تنظيمية، وقد أشاد المنظمون به لدوره في حشد الوعي والمقاومة في كل أنحاء البلاد، وهو ما ساهم في النهاية في إسقاط التشريع الخاص بالبدء في التنقيب عن النفط.
وأيا كان منظور المنظمات المدافعة والمنظمات غير الربحية فإنها تستفيد من التعهد الضمني للفيلم الوثائقي بسرد قصة مهمة عن الحياة الواقعية بصدق وأمانة. وأفلام القضايا تؤكد على أن التعهد لا يكون فقط من خلال مصداقية المنظمات المنتجة لها، ولكن أيضا من خلال الأدوات التي تستخدمها للإشارة إلى جدارتها بالثقة والاعتماد عليها. وتشمل هذه الأدوات (التي بالطبع لا تفرط فيها) الاستعانة برواة ذوي تأثير وثقل (مثل بيتر كويوت)، والتصوير الواقعي للحياة اليومية («الأرض الإسبانية»)، والمقارنة الجريئة (كتلك التي استخدمت في فيلم «بوريناج»)، واستخدام سينما الواقع («معركة تشيلي »)، والإحصاءات التي تخدم المناقشة («ساعة الأفران»)، ولقاءات مع الخبراء («العراق للبيع»، و«حرب الحدود»). غير أنه لو أصبحت الأفلام الوثائقية النزاعية سمة قياسية للحرب السياسية، لكان من الممكن أن تقوض من المصداقية التي اكتسبها هذا الشكل الفني من خلال ارتباطه بالقضايا والمشكلات النزاعية التي تقلل من شأنها وسائل الإعلام التي تعتمد على الإثارة وتهوى الشهرة.
الأفلام التاريخية
كتب المؤرخ آرثر شليسنجر الابن يقول: «التاريخ لا يصنع نفسه؛ فلا يمكنك أن تضع عملة في ماكينة فيخرج لك تاريخ.» إن التاريخ كله يكتب للناس في الحاضر، للبحث لهم عما يطلق عليه المؤرخون «ماض قابل للاستخدام»؛ قصة تستخدم في تكوين فهمنا لأنفسنا، كذلك يكتب التاريخ بناء على رواية سابقة، تارة مخالفة وتارة داعمة وتارة مؤكدة لحاضر لم يكن له أي وجود فيما سبق.
يواجه مخرجو الأفلام الوثائقية الذين يروون التاريخ من خلال فيلم جميع التحديات التي يواجهها نظراؤهم من المخرجين، فهم يواجهون مشكلات المؤرخين في الحصول على البيانات، وغالبا ما يلجئون إلى تمثيل الأحداث التي لا يوجد أفلام لها، وغالبا أيضا ما يلجئون إلى تمثيل الأحداث باستخدام مادة لم تكن معدة كسجل تاريخي، فيلجئون إلى الصور الفوتوغرافية، واللوحات، والأشياء التمثيلية، وصور لوثائق مهمة، وإعادة التجسيد، وتصوير خبراء مشاهير أمام الكاميرا للاستعاضة بهم عن الصور. يسجلون أيضا موسيقى تستحضر العصر، ويبحثون عن مطربين لغناء أغنيات العصر، ويدمجون مؤثرات صوتية لتعزيز إحساس المشاهد بأن ما يعرض أمامه هو لحظة حقيقية من الماضي، وهم يعانون إشكالية تحديد الكم المناسب من إعادة التجسيد وكيف يمكن تنفيذه.
يواجهون أيضا مشكلات الخبرة؛ فعادة ما يصل مخرجو الأفلام الوثائقية إلى قطاع أكبر بكثير من الناس بأعمالهم مقارنة بالمؤرخين الأكاديميين، لكن المخرجين نادرا ما يكون لديهم مؤهلات المؤرخين، بل إن المخرجين غالبا ما يتجنبون استشارة مجموعة من الخبراء؛ فكثيرا ما قد يكون المؤرخون شديدي التمسك بالدقة في تسلسل الأحداث التاريخية، ومناقشة تأويلات متعددة، والحاجة لإقحام شخصيات ثانوية أو حقائق دقيقة، وهو ما يخالف هوى المخرجين، ويفسد وضوح القصة المصورة لقطاع عريض من الجماهير، وغالبا ما يشترط تليفزيون الخدمة العامة وجود هيئات استشارية متخصصة، ولكن أعمال التليفزيون التجاري نادرا ما تضع مثل هذه الاشتراطات.
أخيرا، وعلى عكس المؤرخين الكتاب الذين يستطيعون الاستطراد، وإضافة تعليقات، وهوامش، يعمل مخرجو الأفلام الوثائقية في إطار شكل تخلق فيه الصور والأصوات محاكاة لواقع هو في حد ذاته تأكيد لحقيقة ضمنية، مما يصعب عليهم تقديم أي تأويلات بديلة للأحداث، أو حتى فكرة أننا في واقع الأمر نؤول الأحداث.
وغالبا ما كان المخرجون الوثائقيون يختارون تجاهل تداعيات اختياراتهم: فقد يقبلون فكرة لا تتفق مع معايير النقد بأنهم يروون حقائق الماضي لا أكثر، أو قد يبنون نظرة متحزبة للماضي على نحو لا يتفق مع معايير النقد أيضا، غير أن أعمالهم غالبا ما تكون البوابة الأولى التي يمر من خلالها الناس لفهم الماضي.
القصص
يمكن توضيح حقيقة أن جميع الأفلام الوثائقية التاريخية هي قصص ل «ماض قابل للاستخدام» بأمثلة عديدة.
حين كانت الثورة الروسية في مهدها، قدمت المخرجة إسفير شب قصة نقدية عن تاريخ الحكم القيصري في فيلم «سقوط سلالة رومانوف» (1927)، معتمدة اعتمادا كليا على مشاهد من الأرشيفات القيصرية، بما في ذلك أفلام القيصر المنزلية الخاصة. لقد قدمت شب ما صار يعرف بعد ذلك ب «الفيلم المجمع». وبالفعل كانت عائلة القيصر ستصاب بالصدمة لرؤية تسجيلاتهم لحياتهم المترفة بجوار صور تجسد الفقر والبؤس، لقد حولت شب معنى المادة المصورة من خلال اختيارها للتجميع وتجاور المتناقضات، من تسجيلات محببة لعائلة موسرة إلى إدانة صريحة لحكومة أطيح بها.
تتضح أيضا «قابلية استخدام» التاريخ من خلال القصص التاريخية للحرب الباردة المأخوذة من جهات متضادة، واستخدام الأرشيفات الحكومية التي ازدهرت واتسعت من خلال الاستثمار الضخم للحكومات في الدعاية خلال الحرب العالمية الثانية. كانت القصص تروى بما يتناسب مع الجمهور - سواء أكان شيوعيا أو رأسماليا - وبما يتناسب مع الزمن؛ ففي ألمانيا الشرقية الجديدة، أنتج الثنائي الألماني أندرو ثورندايك (وهو ألماني يحمل الجنسية الأمريكية ولد ونشأ في ألمانيا) وأنيلي ثورندايك الكثير من الأعمال التي اعتمدت اعتمادا كبيرا على المشاهد الأرشيفية، كان من ضمنها فيلم «المعجزة الروسية» (1963)، وهو نظرة احتفالية وبانورامية على التاريخ الروسي. وفي الولايات المتحدة، تعاون هنري «بيت» سالومون، وهو ضابط متقاعد بالبحرية وكان يعمل بالعلاقات العامة بشبكات إن بي سي، مع البحرية واستخدم أفلامها المصورة لإنتاج «انتصار في البحر»، وهو مسلسل من ستة وعشرين جزءا يحتفي بدور البحرية في المحيط الهادي في الحرب العالمية الثانية، عرض لفترة طويلة. صور مسلسل «انتصار في البحر» - الذي جاء عنوانه ملائما تماما - الولايات المتحدة وحلفاءها وهم يحاربون بلا أنانية من أجل الحرية، ويظهرون بطولة لا حدود لها، وبالطبع ينتصرون في النهاية، وقد وضع له موسيقى من تأليف ريتشارد رودجرز لبناء استجابة عاطفية للفيلم الصامت. لقد اجتهد كل من المخرجين الألمانيين والمخرج الأمريكي لسرد قصص ذات معنى وثرية عاطفيا بصدق، وكانت أعمالهم أيضا متناسبة تماما مع المهام الأيديولوجية لحكوماتهم وعصرهم. وفي السنوات اللاحقة، حينما تغيرت الافتراضات الأيديولوجية للعصر ومن ثم برزت على السطح الافتراضات السابقة، نظر إليها باعتبارها مغرضة ومتحيزة.
كان مسلسل كين بيرنز «الحرب الأهلية» (1990) أيضا قصة مصطنعة بحرفية عالية، وليس مجرد سرد لحقائق. يخبرنا المسلسل، الذي يعد واحدا من أشهر العروض شعبية في التليفزيون الأمريكي العام، أن الحرب الأهلية صنعت لأول مرة هوية وطنية أمريكية متكاملة، وهو يوظف مشاهد تأملية بكاميرا متحركة لصور ثابتة وشهادة الخبراء لإقامة هذه الحجة. وواقعية الصور، من بين أشياء أخرى، تمنح المشاهدين الإحساس بأن ما يشاهدونه ليس سوى سرد لحقائق.
قد يفند بعض الجنوبيين صحة الفكرة الرئيسية لمسلسل «الحرب الأهلية»، ولكن الفكرة - كما كتب جاري إدجارتون في كتاب «أمريكا بعيون كين بيرنز» - عكست محور تاريخ التوافق في ذلك العصر؛ ذلك «المنظور الليبرالي التعددي» الذي ركز على الحفاظ على الوحدة، وقد واجه بيرنز نقدا من المؤرخين الذين كانوا يؤيدون تأويلات أخرى، ومن هؤلاء الذين قالوا إن خطيئة المسلسل الحقيقية هي إخفاء حقيقة أنه كان يسعى للتأويل والتفسير لا لسرد التاريخ، وتهرب بيرنز ببساطة من هذا النقد بوصف نفسه بأنه «عالم آثار عاطفي» لا مؤرخ؛ فقد قال إنه بحث في سجلات التاريخ عن «نوع العاطفة والتجانس الذي يذكرنا مثلا بما دفعنا للاتفاق كشعب على التماسك والتوحد بعكس كل التوقعات». بعبارة أخرى، لقد اختار شخصيات وأحداثا ساعدته على رواية القصة التي اختار أن يرويها عن الماضي.
تلعب الاعتبارات التجارية دورا في تشكيل قرارات المخرجين الوثائقيين بشأن كل من الموضوع والقصة، فغالبا ما كانت الأعمال الوثائقية التليفزيونية، التي تعد بهدف الترفيه والتسلية، تبرز الجانب الأكثر إشراقا من الحياة، بما في ذلك صناعة الترفيه نفسها، وقد كانت الأعمال الخفيفة، مثل «هوليوود: السنوات الذهبية» لديفيد ولبر (1961) والمسلسل الفرنسي «العشرينيات المجنونة»، أمثلة لأعمال عصر التليفزيون. وفي عصر التليفزيون متعدد القنوات، ملأت الأعمال الوثائقية التاريخية ساعات كثيرة من ساعات الإرسال بتكلفة زهيدة، ودون أي ادعاء بتقديم رؤى شاملة أو متوازنة، أو تغطية أهم وأبرز الجوانب لأي حقبة تاريخية، وقد أدت سلسلة مشاهدها المحبوكة معا والمستمدة من مواد ذات ملكية عامة من الحكومات، إلى جانب مواد أرشيفية زهيدة التكلفة (غالبا ما تكون مقترنة بسرد رائع) إلى ظهور المصطلح التجاري «القصة الحديثة المجمعة من مواد قديمة».
تضع محدودية الوصول إلى المادة أيضا قيودا على اختيارات مخرجي الأعمال الوثائقية التاريخية، فمع امتداد أجل حقوق النشر والطبع لأجيال في المستقبل، ازدادت تكلفة إنتاج الأفلام الوثائقية التاريخية التي تستعين بعدد كبير من المشاهد الأرشيفية التي لا تقع في نطاق الملكية العامة. وطالما كانت الأفلام الوثائقية التي تخضع لأبحاث رسمية جزءا من فئات الأفلام الوثائقية باهظة التكلفة، ولكن تكاليف إجازة حقوق النشر ارتفعت بسرعة صاروخية في نهاية القرن العشرين مع اندماج الأرشيفات ووضع شركات الإعلام الكبرى رقابة أكثر صرامة على مواردها في ظل التهديد الذي يشكله النسخ الرقمي، وقد أوضحت أنا وبيتر جاسزي في دراستنا «قصص لم ترو» أن بعض المخرجين الوثائقيين كانوا يتخوفون حتى من الاضطلاع بمشروعات طموحة، وقد عالج المخرجون الوثائقيون في الولايات المتحدة هذه المشكلة بكتيب «بيان صناع الأفلام الوثائقية لأفضل الممارسات في إطار الاستخدام العادل»، وهو دليل إرشادي أحدث زيادة مثيرة في قدرة المخرجين على استخدام حقوقهم في الاقتباس المجاني لقدر محدود من المواد التي لها حقوق نشر، ومن ثم توسيع نطاق إبداعهم.
أفلام السير الذاتية
تكشف وثائقيات السير الذاتية - وهي نوع خاص من الأفلام التاريخية - بجرأة نفس عملية اتخاذ القرار التي تظهر جميع الأعمال التاريخية كتفسير أو ترجمة لشيء ما. وتعد أفلام السير الذاتية نوعا من الأفلام الوثائقية التي تحظى بشعبية هائلة؛ فهي تسلط الضوء على شخص معين، متعهدة للمشاهدين بأنهم سيتعرفون على شخص معروف بأنه مهم (سياسي، شخص مشهور، فنان، بطل رياضي)، أو شخص ذي أهمية لا يشوبها شك (مخترع غير معروف، شخص مجهول يعمل في مجال الخدمة الاجتماعية، فنان بسيط)، أو شاهد على التاريخ (أحد الناجين من الهولوكوست، سكرتيرة هتلر). وهذه القصص تحركها الشخصيات بحكم التعريف، ولكن لا بد أن يفسر المخرج أو يعرف الشخصية للمشاهد.
وقد عرضت مسلسلات وثائقية كاملة عن السير الذاتية على شاشة التليفزيون، من أمثلتها: مسلسل «سادة أمريكا» بشبكة بي بي إس، ومسلسلات قناة بيوجرافي التابعة لشبكة إيه آند إي. وتتميز هذه المسلسلات بأساليب معروفة، ولم يكن بإمكانها أن تكون أكثر اختلافا، فيقدم «سادة أمريكا» قصة عن شخصية أمريكية في إطار لحظة اجتماعية معينة؛ فالقصص الفردية توضع في موقع اجتماعي تحيطها معلومات عن الأحداث والاتجاهات التي تشكل التصرفات والاختيارات الفردية وتثار من خلالها، ولا تقوم القصة على أحداث حياة الشخص فحسب، بل على أهمية تلك الأحداث في إطار أوسع وأشمل؛ فعلى سبيل المثال، يعرف فيلم «آندي وارهول»، لدايان فون فورستنبرج ودانيال وولف، الفنان الأمريكي الذي اشتهر بأعماله الفنية وحفلاته الماجنة كفنان جاد لديه شغف نقدي بالثقافة الأمريكية، يدعي الفيلم، الذي يتسم بالاحترام ولكنه لم يكن وقورا، أن المشاهد سوف يكون قادرا الآن على فهم أهمية وتراث آندي وارهول.
على الجانب الآخر، نجد أن أفلام السير الذاتية لشبكة إيه آند إي صور مبنية بناء محكما لملامح الشخصيات، وتأتي في نوعين: المحببة (وغالبا ما تضم مشاهير مجال الترفيه) والمنفرة (المجرمين في الغالب). ويشير الباحث ميكيتا بروتمان إلى أن القصص تجمل وتنقى لتقديم المشاهير كمواطنين محبوبين ومستقيمين، وتطمس الأدلة المناقضة لذلك؛ على سبيل المثال، في فيلم عن السيرة الذاتية لدين مارتن، الذي كان ضمن مسلسل عن فريق «رات باك» المكون من مجموعة من المشاهير التفوا حول فرانك سيناترا، يقدم مارتن كرجل مخلص لأسرته، على الرغم من وفرة الأدلة على ملاحقته للنساء وعربدته.
وعلى الرغم من اختلافها، فإن كل مسلسل من هذه المسلسلات يستخدم تقنيات فيلمية تهدف إلى مساعدة المشاهد على فهم الشخصية المجسدة، فيستشهد بذوي السلطة والتأثير لتعزيز الخط الدرامي، وتعرض بعض المشاهد التاريخية المختارة للتأكيد على الفكرة، وتجمع الأفكار معا في نهاية الفيلم حتى يعرف المشاهدون خطورتها، وأهميتها، ومعناها في إطار حياة هذا الشخص. في المقابل، تستخدم بعض أفلام السير الذاتية تقنيات الفيلم لجذب الانتباه للطبيعة البنائية لفيلم السيرة الذاتية، وتحدي افتراضات المشاهد الثابتة الخالية من أي شك؛ على سبيل المثال، يعتبر فيلم «دريدا» (2002) لكيربي ديك وآمي تزيرينج كوفمان، تحديا للشكل السائد لوثائقيات السير الذاتية؛ فهو يجسد بمهارة الفارق بين التجربة والتوثيق، ويوضح قدرة الراوي على تأكيد الحقيقة، وهو ما يحدث جزئيا من خلال توضيح مدى صعوبة بناء قصة؛ فقد رفض جاك دريدا - الذي انشغل خلال حياته المهنية ب «تفكيك» افتراضاتنا عن المعرفة - مرارا التعاون مع صناع الفيلم، مما دفعهم إلى الكشف عن وجودهم كبديل، وهذه التصرفات في حد ذاتها تكشف أيضا عن الشخصية ورؤيتها للفيلسوف. يضع الفيلم أمام المشاهد تحديا بأن يطرح الأسئلة التي طرحها دريدا عن الحقيقة والتعبير. وتظهر أعمال إيرول موريس أسلوبا جديدا لهدم الصلات الساذجة بين حقائق السيرة الذاتية للشخص والفيلم الوثائقي؛ على سبيل المثال، في فيلمه «ضباب الحرب» (2003)، يسمح موريس لروبرت ماكنامارا، وزير الدفاع في عهد الرئيسين كينيدي وجونسون، بوصف حياته الخاصة وقراراته السياسية والشخصية المثيرة للجدل بإسهاب، وبدون تعليق، ومن ثم تظهر تعقيدات وتناقضات حياة ماكنامارا أمام المشاهدين الذين سيصارعون حتما مع أحكامهم وآرائهم في ماكنامارا.
التعديلية
من الطرق المثيرة لرؤية مدى قوة الحكي أفلام التاريخ المعدل، وهي تلك الأفلام التي تتحدى النسخة السائدة من السجل التاريخي، وقد كان للأفلام الوثائقية التي شككت في المعرفة السائدة عن الحرب العالمية الثانية تأثير كبير على المعرفة العامة بهذه الفترة التاريخية، وفي غضون ذلك أنتجت وثائق جديدة من مصدر مباشر للمؤرخين، وفي بعض الحالات تكون بمنزلة سجلات فريدة لروايات بصيغة المتكلم عن التاريخ.
كان المسلسل البريطاني «العالم في حالة حرب» (1973)، الذي أنتجه جيرمي إيزاكس للشبكة التليفزيونية التجارية تيمز تي في (خلال حقبة كانت الشبكات التجارية البريطانية مطالبة فيها بالقيام بقدر كبير من أعمال الخدمة العامة) - علامة على تحول تاريخي في ترجمة الحرب العالمية الثانية. ولا يزال المسلسل المكون من 26 ساعة الذي يضم مشاهد تاريخية مع لقاءات مع شهود عيان، محبوبا في بريطانيا وعرض في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك قناة هيستوري، وقد كان المسلسل تعديليا من جوانب عدة؛ فقد تبنى «العالم في حالة حرب» نظرة عالمية للحرب، وليس نظرة قومية أو إقليمية، واعتمد على شهود العيان؛ فقد عثرت مجموعة من الباحثين التاريخيين المتفانين - بعضهم كانوا مؤرخين أكاديميين - على ضيوف لمحاورتهم استطاعوا الوصول لهدف إيزاكس المتمثل في توضيح «التأثير الفعلي للحرب على الأشخاص العاديين»، وقد كانت رسالته الأساسية هي أن الحرب جحيم، لا أن النصر كان حليفنا، وساعدت الصور الصادمة لمناظر الموت والفظائع الوحشية على إضفاء حيوية على تلك الرسالة، وقد كان له صدى قوي في فترة كان فيها الخوف من الحرب النووية التي تحركها القوى العظمى وواقع الحروب بالوكالة التي تحرض عليها القوى العظمى يمثلان جزءا كبيرا للغاية من روح العصر.
وفي نفس الوقت تقريبا أعاد مخرج الأفلام الوثائقية الفرنسية مارسيل أوفولس صياغة الفهم العالمي لتجربة فرنسا في الحرب العالمية الثانية. كان منهج أوفولس هو التقرير الصحفي الاستقصائي، الذي طبقه في «الحزن والشفقة» (1969) على إشكالية التعاون مع الهيمنة النازية، وكان قد وجد فيما سبق أعماقا لم تناقش لمسألة التعاون مع الفاشيين الذي لم يتطرق إليه أي شك. تألف الفيلم المثير للجدل - الذي مدته أربع ساعات ونصف - في الأساس من لقاءات في مدينة كليرمونت-فيراند، وأوضح أن الصورة البطولية للمقاومة الفرنسية كانت خرافة من وجهة نظر الطبقة الوسطى في فرنسا، وأن الطبقة العمالية الفقيرة هي من قاد جهود المقاومة (وقد انتقد مخرج الفيلم فيما بعد لاختياره مدينة كان تمثيل الحزب الشيوعي فيها ضعيفا على غير المعتاد؛ إذ كان الحزب الشيوعي منظما أساسيا لجهود المقاومة). وعلى الرغم من أن الفيلم كان إنتاجا مشتركا بين التليفزيون الحكومي الفرنسي بالتعاون مع كل من التليفزيون الحكومي بألمانيا الغربية وسويسرا وعرض في ألمانيا وسويسرا، فقد أصدر رئيس الوزراء الفرنسي أمرا بحظر عرضه على التليفزيون الفرنسي، وبعد جولة ناجحة له في الولايات المتحدة، عرض في دور العرض الفرنسية وعلى شبكة بي بي سي البريطانية.
وعلى خطى هذا الأسلوب من إعادة التمحيص الصارم لتاريخ الحرب العالمية الثانية، سار كلود لانزمان، وهو يهودي فرنسي، حين أنتج مسلسلا مدته حوالي عشر ساعات بعنوان «شواه»، بمعنى الهولوكوست، (1985)، فمن خلال الاعتماد الكلي على لقاءات مع الناجين من الهولوكوست والموظفين الباقين على قيد الحياة - أغلبهم من التقنيين والمسئولين - بحث لانزمان بأسلوب منهجي في مسألة كيف حدثت الهولوكوست بالضبط (أو على الأقل كيف يتذكرها الناس)، وليس كيف يمكن أن تكون قد حدثت. لقد قدم «شواه» سجلا عاما محددا على نحو غير مسبوق لآليات جريمة الاغتيال الجماعي تلك، ومن خلال أسلوبه الإجرائي، صدم الجماهير وحركهم، وأثار جدالا حول المبادئ الأخلاقية للقاءات الحوارية. هل كان لوجود الكاميرات الخفية ما يبرره لأبطال الفيلم العنيدين؟ هل كانت إعادة تمثيل اللقاءات ملائمة؟ ما مقدار السياق الذي يمكن منحه للمشاهد؟
لم تقدم التعديلية منظورا مختلفا لتاريخ الحرب العالمية الثانية مصحوبا بمعلومات جديدة فحسب، لكنها أدخلت أيضا عناصر جديدة للقصة؛ ففي اليابان، تتبع فيلم «الجيش الإمبراطوري العاري يتقدم» (1988) لكازو هارا - وعلى غرار أسلوب سينما الواقع - محاربا قديما مهووسا يحاول كشف انتشار أكل لحوم البشر بين القوات التي تركت في غينيا الجديدة بعد انتهاء الحرب، وتحميل الإمبراطور مسئولية جرائم الحرب التي أنكرت ببساطة بأسلوب مجازي غير صريح. ترمز قصة الفيلم أيضا برهبتها وتفردها إلى إنكار جرائم الحرب عموما. وفي الولايات المتحدة، أخرجت المخرجة الأمريكية الداعمة للحركة النسوية كوني فيلد فيلمها «حياة المرأة العاملة وأزمنتها» (1980)، وفيه سردت قصة خفية عن النساء اللاتي ساهمت وظائفهن خلال فترة الحرب في تغيير حياتهن، أرخ الفيلم أيضا للمحاولات الحكومية المنسقة لدفع هؤلاء النساء إلى التخلي عن وظائفهن والعودة إلى المنزل بعد الحرب. لقد أدخلت فيلد النساء والعمال من جديد إلى تاريخ هيمن عليه الجنود والسياسيون الذكور.
ومن أروع الأمثلة لإدخال عناصر جديدة على السجل التاريخي مسلسل «عيون على الجائزة» (1987، 1990) لهنري هامبتون. يتتبع هذا المسلسل - الذي يمثل طفرة وعرض على التليفزيون العام - حركة الحقوق المدنية كحركة تدعم أفضل القيم في الثقافة الأمريكية في مواجهة الأوضاع الراهنة آنذاك التي سيطرت عليها العنصرية ولا تخلو من الصراعات الداخلية العميقة، وقد صنعت فرق ثنائية من المنتجين الزنوج والبيض، كانوا يعملون مع المؤرخين الأكاديميين كمستشارين، قصصهم باستخدام مشاهد نادرة من أرشيفات كبيرة وصغيرة، ومجموعات المقتنيات الشخصية، وسراديب المحطات التليفزيونية المحلية. قدم المسلسل للمشاهدين المحليين صورا وحوادث شاهدها جمهور الأخبار التليفزيونية المحلية ربما مرة واحدة في الماضي. وقد خلق وعيا عاما على مستوى البلاد بالتأثير العميق لحركة الحقوق المدنية على التاريخ الأمريكي، وقد أصبح المسلسل مادة أساسية في المدارس الأمريكية وعمل كنموذج لمسلسلات التنقيح التاريخي اللاحقة مثل مسلسل «شيكانو!» (1996) ذي الأربع ساعات، و«مسألة مساواة» (1996)، الذي يتناول تاريخ حركات حقوق الشواذ والسحاقيات.
بالطبع قد يغفل مخرجو الأفلام الوثائقية المعدلة للتاريخ بعض المعلومات ذات الأهمية البالغة، سواء أكان ذلك عن عمد أم لا؛ على سبيل المثال، في الأفلام الوثائقية المستقلة التي نفذت في السبعينيات والثمانينيات والتي تسترجع تاريخ الحركات السياسية في الثلاثينيات - مثل التنظيم النقابي (فيلم «فتيات النقابة» 1976)، والإضرابات (فيلم «بالأطفال والأعلام» 1978)، والحرب الأهلية الإسبانية (فيلم «المعركة الجيدة» 1984) - غالبا ما كان المخرجون الوثائقيون المنتمون إلى جيل الطفرة السكانية يوضحون حدود دور الحزب الشيوعي في الأحداث، أو يأخذون التقارير الذاتية لأعضاء الحزب الشيوعي على علتها. واعتمادا على قصص التاريخ الشفهية لإنقاذ عناصر الماضي المطموسة، ومن منطلق رؤيتهم لأنفسهم باعتبارهم ورثة للناشطين السياسيين الذين يكنون لهم الإعجاب، كان بإمكان هؤلاء المخرجين بسهولة أن يصبحوا أسرى لقيود التاريخ الشفهي كمصدر وحيد للمعلومات.
أفلام الذكريات والتاريخ
مع تنامي أرشيفات الأفلام والفيديو المنزلية وظهور كاميرات فيديو أكثر بساطة، قدمت أفلام الذكريات أو الأفلام الشخصية إسهامات مهمة للفيلم الوثائقي التاريخي؛ ففي مثل هذه الأعمال، يكشف عن الأمور الشخصية والخاصة، وأحيانا ما توضع في مقارنة مع السجل الرسمي أو العام؛ إذ توضع الذكريات الفردية متجاورة مع التاريخ العام، وغالبا ما تتحداه، فتطفو قصص جديدة على السطح، وتسهم الخبرة الفردية في إثراء الفهم العام للماضي.
يستخدم المخرجون مجموعة متنوعة من التقنيات والأساليب لتجسيد الذكرى، وهناك عبارة مجازية، وفقا للمخرج ديفيد ماكدوجال، هي وضع «علامات الغياب» - صور لخسائر، أو أشياء مهجورة، أو صورة فوتوغرافية تحتاج إلى تفسير - في قلب الفيلم وقلب المشكلة التي ستحل من خلال الذكرى؛ على سبيل المثال، بحث صناع فيلم «في أحضان الغرباء» (2004)، عن «برنامج نقل الأطفال» الذي نقل الأطفال اليهود إلى خارج ألمانيا النازية، بالبحث عن الأشياء الفعلية التي أحضرها الأطفال معهم واستخدموها كرموز، بدلا من مجرد عرض شيء مشابه، وفي مرات عديدة، استخدم صناع الأفلام الشخصية أيضا مقاربة ساخرة أو تأملية للأشياء أو الصور المألوفة، مما يفرض إعادة تحليلها: الملصقات، والصور البيضاء، ونص يثير الخوف أو يطرح أسئلة، والتكرار، وهي أشياء تدفع المشاهدين إلى التأمل في معنى صوت أو صورة ما أو إعادة تفسيرهما.
في بعض الحالات، نهل المخرجون من صناعة الأفلام الطليعية والتجريبية من عصور سابقة، وتقدم أعمال المخرجة الطليعية الأمريكية إيفون رينر العديد من الأمثلة الجيدة لذلك. أيضا بنى المخرج الأمريكي المثلي ذو الأصل الأفريقي مارلون ريجز فيلمه «ألسنة غير معقودة» (1989) كقصيدة مرئية اتبعت البنية القصصية الهرمية لرحلته نحو الاعتراف بهويته، أما أعمال روس ماكيلوي التي تتناول حياته («مسيرة شيرمان» 1986؛ «نشرة أخبار الساعة السادسة» 1996؛ «الأوراق اللامعة» 2003)، التي تتبع تطور إحساس المخرج (أو الشخصيات) بذاته، فهي تعتمد على التدريب الذي تلقاه ماكيلوي بين مخرجي الأفلام التجريبية مستخدمة أفراد المجموعة وحياتهم الشخصية كموضوعات لها.
وقد ساهمت الأفلام الشخصية في تطور حركات الهوية الثقافية في جميع أنحاء العالم في الثمانينيات والتسعينيات؛ فقد أفرزت التغيرات السياسية والعولمة الاقتصادية حركات الآسيويين الجنوبيين، والآسيويين الجنوبيين الشرقيين، و«الصينيين بالخارج»، والأفارقة، وهي حركات جديدة ومشتتة وضخمة. وبدأت ثقافات مشتتة واعية ذاتيا في الظهور والبحث عن التعبير الذاتي في الأفلام بدعم من المؤسسات التي تشجع هذا التعبير الذاتي. وفي بريطانيا تضافرت احتجاجات المخرجين المستقلين، ومطالب الأقليات العرقية في أعقاب أعمال الشغب، وإطلاق تليفزيون القناة الرابعة الجديدة الخاصة (وإن كانت قد مولت بعائدات حكومية) - في تكوين ورش العمل الخاصة لتشجيع ورعاية الأفلام التي تصنعها الأقليات.
كان من ضمن النتائج الناجحة ما يسمى بورش عمل الأفلام السوداء، من بينها ورشة سانكوفا التي يعد إيزاك جولين واحدا من أشهر مخرجيها، وورشة بلاك أوديو كوليكتيف، وقد أثارت هذه الورش مجادلات سياسية ضخمة ومثمرة عن التجسيد الذاتي للأقليات المتعددة ودور النساء، وكان من أبرز نتائجها فيلم «أغنيات هاندسورث» (1986) لجون أكومفرا. أعاد هذا الفيلم التجريبي الجريء - بأسلوب شاعري - استخدام صور أحداث الشغب، والأحياء الفقيرة، والجرائد السينمائية، والمشاهد التاريخية من فترة الاستعمار في مقال شخصي عن التاريخ والهوية. من الأعمال الأخرى التي استقبلت بحفاوة فيلم «الجسد الجميل» (1990) لإنجوزي أونوورا، وهي ابنة لأب نيجيري وأم بريطانية. يجمع الفيلم ما بين الفيلم الروائي والفيلم الوثائقي، مستعينا بممثلة لتجسيد دور المخرجة، فيما تلعب الأم الحقيقية دورها في الفيلم. يعقد الفيلم مقارنة بين صورة الجسم بالنسبة للأم والابنة وتاريخهما الشخصي استنادا إلى تأثرهما بفعل التمييز العرقي والجنسي والعمري المألوف للمجتمع البريطاني.
أفرز أيضا عصر ما بعد الاستعمار وما بعد الحرب الباردة الكثير من الأعمال التي جمعت بين النزعة لدمج السيرة الذاتية وإعادة تمحيص التاريخ، واتجه المخرجون إلى شكل المقال الشخصي لتحدي فجوة الذاكرة الرسمية في أفريقيا. كان والد ديفيد أشكار، الذي كان مسئولا غينيا بارزا، قد أقصي من منصبه الرفيع وتوفي في السجن. ومزج أشكار في فيلمه «إرادة الله» (1991) إعادة التجسيد مع الخطابات العائلية، والأفلام المنزلية، وصور الجرائد السينمائية لتحدي الرواية الرسمية عن اختفاء والده. قدم الفيلم - الذي ينتمي لأفلام السيرة الذاتية بقدر ما ينتمي للأفلام التأملية - معارضة للهالة الأسطورية المحيطة بالقائد الثوري سيكو توريه، وأثار جدلا في غينيا وفي جميع أنحاء العالم. قدم أيضا المخرج الهاييتي راءول بيك، الذي كانت عائلته تخدم حكومة باتريس لومومبا في الكونغو، فيلم «لومومبا: موت رسول» (1992). يعتمد الفيلم - الذي قدم بيك فيما بعد نسخة روائية منه تحمل نفس الاسم - على الأفلام المنزلية لعائلة بيك ويومياته المصورة بالفيديو في بحثه الذي لم يثمر عن شيء عن صور لومومبا الأرشيفية التي أخفاها موبوتو قاتل لومومبا وخليفته في الحكم، بجانب اللقاءات والمقاطع الإخبارية. أما الكاميروني جان ماري تينو، فقد قدم سلسلة من الأفلام الشخصية المصحوبة بتعليق صوتي حاد تربط التاريخ الاستعماري بفظائع الحاضر، ومن بينها «أفريقيا، سوف أنهبك» (1992).
شكل 2-3: الصورة بالأعلى، ملحمة باتريشيو جوزمان «معركة تشيلي» (1976) عن سقوط حكومة أليندي، لم يعرض في تشيلي حتى عودته بعد 30 عاما، وهي الزيارة التي وثقت في فيلم «تشيلي، الذكرى العنيدة» (1997)، الصورة بالأسفل. من إخراج باتريشيو جوزمان.
أثارت نهاية الديكتاتوريات الأمريكية اللاتينية أيضا موضوع الذكريات والتاريخ؛ ففي فيلم «بعد عشرين عاما» والمعروف أيضا باسم «رجل على قائمة الموت» (1984)، عاد البرازيلي إدواردو كوتينو إلى مكان ما حيث دفن فريق فيلمه قبل عشرين عاما على عجالة شرائط فيلم كان ضمن مشروع لأفلام السينما الجديدة عن مقتل فلاح كان قائدا لإحدى حركات الإصلاح الزراعي للفلاحين، وتوقف المشروع فجأة بسبب تمرد عسكري. بعد ذلك توصل كوتينو لأرملة الفلاح وأبنائه الثمانية، وكانت النتيجة قصة عن جيل ضائع رويت من خلال تجارب عائلة محطمة. قدم المخرج التشيلي باتريشيو جوزمان في عام 1997 أيضا فيلم «تشيلي، الذكرى العنيدة»، وهو ترجمة لرحلته إلى الوطن لعرض فيلم «معركة تشيلي» - الذي كان محظورا حتى ذلك الحين - لأول مرة لبني وطنه.
كانت الأفلام الشخصية أيضا وسيلة لإحياء الذاكرة العامة لما لا يمكن تصوره أو تحمله، وكان إنتاج أفلام الهولوكوست وأفلام الذكريات غزيرا خلال التسعينيات، نذكر منها بين أفلام أخرى عديدة: «ألماس في الجليد » (1994) لميرا بينفورد، و«تانجو العبيد» (1994) لإيلان زيف، و«المقاتل» (2001) لأمير بار-ليف، و«الغميضة» (2004) لأورين رودافسكي ومناحم دوم. كان أحفاد الناجين من المحرقة، وأحيانا الناجون أنفسهم، يبحثون عن إجابات أو نهاية أو قرار من خلال العودة إلى مواقع الأحداث، أو مقابلة ناجين آخرين، أو حتى مواجهة مع هؤلاء المنتمين للماضي. من الأعمال، أيضا، التي تستكشف قدرة الذاكرة الخاصة على إثراء معرفة العامة بالماضي أعمال المجري بيتر فورجاش، الذي أعاد صياغة مشاهد عائلية ومشاهد بكاميرات هواة لخلق تأملات عن تاريخ أوروبا الشرقية خلال الثلاثينيات، الذي خضع للنسيان والطمس.
أخيرا، امتزجت الأفلام التي يكون فيها الراوي مشاركا في الأحداث والأفلام المنزلية في شكل أفلام تهدف إلى إعادة تمحيص الثقافة الشعبية، فتجد فيلم «دوج تاون وزي بويز» (2001) لستاسي بيرالتا، الذي يجسد تاريخا جذابا ومثيرا لثقافة التزلج بالألواح، ويتعقب تطورها من شوارع سانتا مونيكا الجانبية الحصوية إلى نشاط تجاري يقدر حجمه بالمليارات جاء بعض مشاهيره (منهم بيرالتا نفسه) من تلك الشوارع، وهو ينسج الأفلام المنزلية مع الذكريات ويقارن كليهما بمادة واقعية من عالم التزلج التنافسي ذي الإيقاع السريع والطابع التجاري. يصنع فيلم «تان تان وأنا»، للمخرج الدانماركي أندرز هوجسبرو أوسترجارد أيضا، سيرة ذاتية نفسية حساسة للكاتب والفنان البلجيكي هيرجيه، مزاوجا لقاءات صوتية شخصية للغاية من السبعينيات مع رسوم متحركة مستمدة من مشاهد مرئية حديثة لهيرجيه، إلى جانب إضفاء الحياة على رسوم كتبه الكوميدية. أيضا يساهم فهم رحلة هيرجيه من كاثوليكي شديد المحافظة إلى الانتماء لحركة العصر الجديد خلال فترة الحرب الباردة في إعادة تحليل كتبه الكوميدية الشهيرة.
وقد دفع نمو الأفلام الوثائقية الشخصية الباحثين والدارسين إلى استكشاف علاقة الذكرى بالحقيقة، فتذهب ليندا ويليامز إلى أن مثل هذه الأفلام تتحدى المشاهدين لإدراك أن الحقائق توجد داخل سياق معين، فيما يتعلق بالأكاذيب، وتختار من بين حقائق أخرى، ولكونها تتجاوز حدود التدبر الذاتي (بمعنى لفت الأنظار إلى حقيقة أن الفيلم هو فيلم)، تفترض مثل هذه الأفلام أن هناك حقائق مهمة يجب كشفها، وأنه من الممكن أن تكشف على الرغم من - أو حتى بلفت الأنظار إلى - تحيز إدراكنا. وهكذا فإن مثل هذه الأفلام تقدم مقاربة أخرى للإشكالية المتمثلة في كيف يمكن للمخرجين الوثائقيين أن يكونوا صادقين. ويوضح بيل نيكولاس أن الأفلام الوثائقية الشخصية غالبا ما «تعرض» الحالة الذهنية للمخرج وتداعي الأفكار لديه، موثقة نوعا حميما وشديد الخصوصية للواقع. ويكتب مايكل رينوف أن النبرة التطهيرية عادة للأفلام الوثائقية تدخل المشاهدين على نحو نشط وفعال إلى بنية معنى الفيلم، مما يعلي مستوى التعاطف والتوحد الوجداني.
قابل للاستخدام لمن ولأي شيء؟
أحيانا ما يغضب مخرجو الأفلام الوثائقية من فكرة أنهم لا بد أن يصبحوا مؤرخين لكي يقدموا أفلاما تاريخية، غير أن مسئولية المخرج تجاه المستخدمين مسئولية كبيرة، فكل فيلم وثائقي لا يؤخذ كتجسيد دقيق للتاريخ الذي يعرضه من جانب المشاهدين ثم المخرجين فحسب، بل إن المعرفة التاريخية أيضا تشكل إدراك المستخدمين لهويتهم في الحاضر؛ فقد قال جون إلس، من خلال إخراجه لفيلم «صحراء كاديلاك» (1997)، عن سياسات المياه في الولايات المتحدة، إنه على الرغم من أن الكثير من السدود تبدو متشابهة، فقد أصر على تحري الدقة المطلقة لمعرفته أن المخرجين فيما بعد سوف يقتبسون من أعماله بدلا من الرجوع إلى المصادر التي استخدمها في الأساس، فكل فيلم تاريخي تقع أحداثه داخل إطار أيديولوجي يستحق على الأقل استيعابه قبل تقديمه للمشاهدين.
إذا كان كل التاريخ قابلا للاستخدام، إذن ما الجوانب المناسبة في كل قصة، ولمن هي مناسبة؟ ولماذا؟ تلك أسئلة جيدة يجدر طرحها على صناع الفيلم والمشاهدين على حد سواء.
الأفلام الإثنوجرافية
الفيلم الإثنوجرافي هو مصطلح ذو دلالات عديدة، فالقائمون على وضع برامج المهرجانات، كالمسئولين عن مهرجان مارجريت ميد للسينما الذي يقام كل عام في نيويورك بالمتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي، والذي يرسي المعايير في هذا الصدد، غالبا ما يعرفون الفيلم الإثنوجرافي بأنه فيلم عن الثقافات الأخرى، أو الشعوب الغريبة، أو العادات والتقاليد، وعلى ضوء هذا المبدأ يتفق واضعو البرامج بالتليفزيون على الأفلام الوثائقية التي تعمل على الترفيه والتسلية، سواء بأسلوب ساحر أو صادم ، من خلال مادة تتناول الشعوب الغريبة. ويسعد صناع الأفلام المستقلون مثل ليس بلانك، الذي استكشف الثقافات الفرعية الموسيقية والغذائية حول العالم بتعاطف واحترام، بعرض أعمالهم تحت هذه المظلة، ويود علماء الأنثروبولوجيا لو يرون المصطلح يستخدم بطريقة أكثر علمية، فيذهب عالم الأنثروبولوجيا جاي روبي إلى أنه فقط لو أنتج الفيلم على يد عالم إثنوجرافيا مدرب، باستخدام الوسائل الميدانية الإثنوجرافية، وبهدف تقديم مادة إثنوجرافية يقيمها خبراء في المجال، لوجب أن يطلق عليه فيلما إثنوجرافيا.
والرابط بين هذه التفسيرات المتعددة هو فكرة الآخرية؛ فكرة أن الفيلم الإثنوجرافي هو نظرة من الخارج على ثقافة ما، مانحا إياك لمحة عما يدور داخله، ومثل هذا الادعاء من شأنه أن يزيد من المخاطر المتعلقة بالمسائل الأخلاقية المعتادة للفيلم الوثائقي؛ فالعلاقة بين مخرج الفيلم والبطل تكون مشحونة على نحو خاص في السينما الإثنوجرافية، لأن الأبطال في أغلب الأحيان يكونون أعضاء بجماعات ثقافية ذات نفوذ أقل في المجتمع والإعلام من مخرج الفيلم. ويجد علماء الأنثروبولوجيا متعة في القصة التي رواها عالم الأنثروبولوجيا والمخرج سول وورث عن سام يازي. كان وورث يدير مشروع أفلام نافاهو في السبعينيات، بالاشتراك مع جون أدير، وكان هدف المشروع تعليم هنود نافاهو تقنيات صناعة الأفلام دون فرض مرشحات جمالية أو أيديولوجية. عند وصف المشروع، تساءل العجوز سام يازي: «هل ستضر صناعة الأفلام بالأغنام؟» وحين طمأنه المخرجون بأن ما من ضرر سيلحق بالأغنام، تساءل يازي: «هل ستدر صناعة الأفلام منفعة على الأغنام؟» فأجابا: «حسنا، كلا.» فأجاب: «إذن لم نصنع أفلاما؟» وقد كتب وورث يقول: «لا يزال سؤال سام يازي يراودني.»
صنع المال
كانت الإجابة الأولى على سؤال «لم نصنع أفلاما؟» مباشرة وصريحة: من أجل صنع المال. في تلك الفترة، ترسخت أفلام المغامرات الغريبة المقترنة بنقاط تقاطع مع الممارسة الأنثروبولوجية (التأريخ للثقافات البدائية، والتعايش مع الأبطال، وإشراك الأبطال في صياغة القصة)، وكان «نانوك ابن الشمال» لفلاهرتي مصدر إلهام لصناع الأفلام الأنثروبولوجيين، فقام مريان سي كوبر، الذي كان قد شارك في إنتاج فيلم رحلات رائع ولكنه فشل ماليا ، وهو فيلم «المرعى» (1925)، عن إحدى القبائل البدوية، بتقديم فيلم «التغيير» في عام 1927 الذي حقق نجاحا على مستوى شباك التذاكر، وأنتج فيلم «كينج كونج» (1933) الذي حقق نجاحا ضخما. استوحي فيلم «التغيير» من الإقامة لمدة ثمانية عشر شهرا مع اللاويين في شمال تايلاند، وقد بنى قصة سهلة على المشاهد من واقع الحياة اليومية؛ إذ يقاوم القرويون تهديدات موجهة لهم من فهد ونمر، وبعد فرار جماعي للأفيال البرية (وهو حدث جرى تمثيله)، يروض القرويون الأفيال ويستخدمونها لإعادة بناء حياة يعمها السلام في الغابة.
وقد قادت أفلام المغامرات الغريبة إلى الأفلام السينمائية الزاخرة بالفانتازيا عن الأدغال، وكذلك «الأفلام الوثائقية الصادمة»، مثل فيلم «قصبة موندو» المنتج عام 1962 وأجزائه. في «قصبة موندو»، انتقلت الكاميرا من المشاهد الصادمة، مثل قيام رجال القبائل في غينيا الجديدة بضرب خنزير حتى الموت، إلى مشاهد هزلية مثل قيام الطلاب الأكبر سنا بتعلم رقصة الهولا بأسلوب أخرق ومرتبك مصحوبة بسرد وموسيقى تصويرية للتخفيف من التناقضات.
عرضت الأفلام الأعلى مستوى على المشاهدين تجارب تتعلق بالثقافات الأخرى، دون ادعاء أنها تقدم رؤية إثنوجرافية، وإن كانت غالبا ما تستفيد من هذه الصلة، ففي «الطيور النافقة» (1963)، عن الحياة والموت في إيريان جايا الغربية، استخدم الفنان روبرت جاردنر رخصة مكتسبة من فلاهرتي بنسج «قصة حقيقية» من «أحداث واقعية». استقبل النقاد حسه الشعري وقدرته على استعراض موضوعات عالمية بحفاوة، وغالبا ما كانوا يطلقون على أعماله إثنوجرافية (وهو الشيء الذي لم يسبق لجاردنر فعله قط). وفي فيلم «غابة النعيم» (1985)، عن طقوس الموت والحياة اليومية في بيناريس وما حولها، صنع جاردنر رؤية تأملية فريدة ولكنها جذابة، وأحيانا مرعبة، عن الموت ومعنى الحياة. وقد عرض للجماهير في نصف الكرة الشمالي، الذين كانوا يجهلون إلى حد بعيد الممارسات المعروضة في الفيلم، وقد حزن الآسيويون الجنوبيون، والهندوس، وعلماء الأنثروبولوجيا لغياب السياق الثقافي.
الصراع مع التقاليد
مع ازدهار سوق البث التليفزيوني في الستينيات والسبعينيات، ازدهرت أيضا المسلسلات التي تتناول الثقافات الغريبة؛ مثل مسلسل قناة جرانادا تي في البريطانية «عالم يختفي» (1970-1993)، ومسلسل محطة نيبون تي في اليابانية «عالمنا الرائع» (من منتصف الستينيات حتى عام 1982)، وغالبا ما كان المشاهدون يشجعون - على الرغم من صيحات الخبراء الأنثروبولوجيين وأحيانا أعضاء الجماعات الثقافية أنفسهم - على التصديق بأنهم يشاهدون عادات ثقافية خالصة من الممكن بلمسة واحدة من العالم الحديث أن تتعرض للدمار.
معظم الأفلام الوثائقية التي تتناول قضايا الاختلاف الثقافي اليوم لا تقدم ادعاءات واضحة بشأن هدفها، فهي عادة ما تعرض على الجماهير في نصف الكرة الشمالي متناولة أناسا في أجزاء أخرى من العالم، وبعض هذه الأفلام تعمل على الترفيه من خلال شخصيات حسنة الطلعة، وممارسات نابضة بالحيوية، وقصص تحركها الأزمات، أو الوحشية، أو الكوارث، وغالبا ما تدعي أنها تنقذ لمحة أخيرة لثقافة غريبة في طريقها للاندثار من أجل عرضها للمشاهدين المتحضرين، كما يفعل فيلم «قصة الجمل الباكي»، فيعرض مسلسل قناة ناشيونال جيوجرافيك «الممنوع» (منذ عام 2003 حتى الآن) للمشاهدين في أحد الأسابيع العادات الغريبة في تزيين الجسم حول العالم، ويعرض الأطعمة الغريبة التي يتناولها الناس في الأسبوع الذي يليه، وتجتهد أعمال أخرى لاصطحاب المشاهدين إلى داخل تجربة أحد الأشخاص بأسلوب بسيط بعيد عن التكلف؛ على سبيل المثال، يتتبع المخرج الهولندي ليونارد ريتيل هلمريش في فيلم «شكل القمر» (2004)، بأسلوب سينما الواقع، أرملة مسيحية في جاكرتا عند تحول ابنها إلى الإسلام، مانحا المشاهدين الغربيين لمحة عن الصراعات الثقافية التي ربما لم يكونوا يتخيلونها.
ويجد معظم المنتجين لأفلام موضوعات تباين الثقافات أنفسهم مقيدين بتقاليد وسائل الإعلام، التي تعمل ضد الرؤية التأملية، والتجريب، والتأويل المفتوح. وتعتبر أعمال الأستراليين روبين أندرسون وبوب كونيلي مشوقة باعتبارها صراعا صحيا مع قيود الإعلام التجاري؛ ففي فيلمهما الأول الذي حظي بعرض على نطاق واسع «اللقاء الأول» (1993)، أحضرا للقرويين في غينيا الجديدة مشاهد لأول لقاء جمعهم بالبيض، وكانوا مجموعة من المكتشفين الذكور، وهكذا جرت رؤية توثيق المكتشفين لرحلتهم الاستكشافية مرة أخرى من خلال أعين القرويين. يتعقب الفيلم أيضا العواقب المستمرة في التوسع لهذا اللقاء الذي جلب للبابويين ما لم يسعوا له طلبا من علاقات غير مشروعة، وأمراض، وماكينات، واقتصاد سياحي .
ويرجع الإبهار في «اللقاء الأول»، الذي كان له جزآن، إلى تلاعبه البارع والرشيق بالرؤية التأملية داخل حدود تقاليد الواقعية؛ فهو يطلب من المشاهدين أن يعيدوا تمحيص المشاهد الأولى بأسلوب نقدي، ويطمئنهم أيضا على ثبات المعنى في مشاهد أندرسون وكونيلي، من خلال مونتاجها، وتركيزها القصصي الضيق، وتوضيحاته الصريحة والضمنية لما رآه المشاهدون.
علمية؟
كان علماء الاجتماع في البداية يتخيلون أن الفيلم الإثنوجرافي أداة علمية، وقد قدم علماء الأنثروبولوجيا الأوائل، أمثال فرانز بواز (مؤسس المجال)، ومارجريت ميد، وجريجوري باتسون، أفلاما قصيرة ذات طابع وصفي بحت بقوانين ونظم منفصلة، وعلى مدار عقود، كان معهد جوتنجن للأفلام العلمية في ألمانيا يتفق على تصوير مشاهد مدتها خمس دقائق، مصحوبة بنصوص مكتوبة، عن الطقوس الخاصة وتقنيات الإنتاج. وتوجد أرشيفات ضخمة لمثل هذه المواد اليوم على نطاق عالمي، غير أن هذه الأرشيفات تثير أسئلة لم تكن دائما واضحة لمن كانوا يسجلون الصور في ذلك الوقت. ما الذي تعنيه هذه القوانين للأشخاص القائمين بها؟ ما نوع الاستفسار الذي تخدمه هذه المعلومات؟ هل كان هؤلاء الأشخاص يعيدون تجسيد شيء أم كانوا يضبطون متلبسين بفعل شيء دائما ما يفعلونه؟
وسرعان ما بدأ علماء الأنثروبولوجيا والمخرجون المدربون تدريبا أنثروبولوجيا في استكشاف هذه الأسئلة. أصبح الأمريكي جون مارشال لأول مرة على معرفة لبدو كالاهاري حين كان مراهقا موسرا في رحلة سفاري مع والده، وبعد بضع سنوات قدم فيلم «الصيادون» (1957) مستعينا بمشاهد صامتة كان قد أخذها مع السان (وكانوا يعرفون بالبوشمن لدى البيض في جنوب أفريقيا آنذاك). كان يتطلع جهارا لأن يكون فلاهرتي كالاهاري، والاحتفاء بالكفاح الناجح للبدو في مواجهة الطبيعة. حقق الفيلم نجاحا تجاريا، وشوهد على نطاق واسع في حجرات الدراسة، ولكنه أيضا انتقد لرومانسيته، وقد دفعته المجادلات التي نشبت إلى إعادة التفكير، وهذا حدا به إلى إعادة تقطيع المشاهد إلى سلسلة من الأفلام التعليمية بالتعاون مع المصور الشاب تيموثي آش - من بين آخرين - الذي كان آنذاك يسعى للحصول على درجة علمية في الأنثروبولوجيا، وأصبحت الأفلام القصيرة ذات التركيز الأحادي والمصحوبة بمادة نقاشية شائعة في التدريس.
اتجه مارشال للعمل مع رواد حركة سينما الواقع، من ضمنهم فريد وايزمان (الذي صور له فيلم «حماقات تيتيكت»)، ودي إيه بينبيكر، وتلميذ فلاهرتي ريتشارد ليكوك. وفي عام 1980، قدم مارشال مع أدريان ليندن فيلم سيرة ذاتية عن إحدى بطلاته في جنوب أفريقيا، ودمج فيه مشاهد كان قد التقطها لها على مدار ثلاثة عقود كانت فيها حقوق السان منهارة إلى حد سيئ. كان الفيلم بعنوان «ناي: قصة امرأة من الكونج» (1980)، وأنتج لمصلحة التليفزيون العام الأمريكي، وتعرض لمقارنة حادة مع العزلة الرومانسية لفيلمه الأول، وأرخ لتزايد وعي مارشال بنفوذ وقوة المخرج بالنسبة للبطل.
بعد عمله مع مارشال، اتجه تيم آش للتعاون مع عالم الأنثروبولوجيا نابليون تشاجنون، الذي عمل في منطقة الأراضي المنخفضة بالبرازيل مع قبيلة يانومامي، وهناك أنتج بالتعاون مع تشاجنون مجموعة كبيرة من الأعمال، واستكشف أيضا كيفية تجسيد فهمهم وخبرتهم مع ثقافة يانومامي. وقد كان فيلم «معركة الفئوس» (1975) انتصارا لتعاونهما ونقدا لمناهج الفيلم الإثنوجرافي حتى تلك الفترة. في الفيلم، يشاهد آش وتشاجنون ثلثي معركة بالفئوس في إحدى القرى ويصورانها، وقد قدم آش عدة نسخ لما صوره: عرضا بسيطا لكل المشاهد التي بحوزته، ونسخة استخدم فيها التصوير البطيء والأسهم الإرشادية لإظهار المشاركين والأحداث على نحو أوضح، وتحليلا لعلاقات النسب، وقصة ممنتجة بحرفية تذكر بما اعتاد الطلاب أن يروه. وهكذا أجبر «معركة الفئوس» المشاهدين على أن يسألوا أنفسهم كيف كانوا سيفسرون ما رأوه. وعلى الرغم من أنه لم يسفر عن أي أعمال محاكية (ربما لعدم صلاحية النموذج للتطبيق تجاريا)، فقد فجر جدالا أنثروبولوجيا عن الكيفية المثلى لاستخدام السينما.
جان روش
منذ الستينيات خلق التحرر من ادعاءات الموضوعية العلمية اضطرابا في فرع الأنثروبولوجيا، وفي الوقت نفسه، انبهر مخرجون ذوو ميول إثنوجرافية بسينما الواقع، ومن بين من امتطوا هاتين الموجتين عالم الأنثروبولوجيا والمخرج جان روش، أحد أكثر القوى إبداعا وابتكارا في مجال الأفلام الإثنوجرافية وواحد من أنشط المجددين فيه.
كان روش مهندسا، دفعه عمله في غرب أفريقيا إلى دراسة الأنثروبولوجيا عند عودته إلى فرنسا ليقدم في النهاية أكثر من مائة فيلم، العديد منها كان بالتعاون مع أبطاله. وقد استمد الإلهام من كل من فلاهرتي وفيرتوف، فقد احترم العلاقة الودودة بين فلاهرتي وأبطاله ومنهجه القائم على المشاركة، وأعجب بفيرتوف لشغفه بتصوير الحياة كما هي، ثم استغلال الحق في مونتاج ذلك الواقع، مجبرا المشاهد على الاعتراف بوجود صانع الفيلم.
كان لأول أفلام روش الكبرى دوره في دفعه لإعادة التفكير في منهجه الأولي، فقد اصطحب فيلمه «الأسياد المجانين» (1955) إلى داخل أحد الطقوس الروحانية لعطلة نهاية الأسبوع، يدخل فيه عمال مهاجرون من غرب أفريقيا في غانا في حالة من الغشية، متقمصين أدوارا يقلدون فيها المسئولين الاستعماريين. وقد أشار سرد روش الختامي إلى أن هذا الطقس كان تعبيرا عن واقعهم الاستعماري وتحررا مؤقتا منه. سبب الفيلم صدمة للأوروبيين وفزعا للأفارقة الذين خشوا أن ينظر إليهم الأوروبيون كشعوب غير متحضرة. وبعد انتهاء الاستعمار، وجه النقاد نقدا قاسيا للخاتمة باعتبارها استعلائية.
ومع أن روش لم يتبرأ مطلقا من الفيلم، فقد بدأ في العمل بمزيد من التعاون مع أبطال أفلامه، وأيضا لم يتوقف عن تجاربه لمعرفة كيفية استكشافه ذاتيتهم، وغالبا ما كان يلجأ إلى الخيال والفانتازيا وتقمص الأدوار؛ على سبيل المثال، في فيلم «أنا أسود» (1957) تقمص شباب من السونجاي أدوار الشخصيات التي صنعوها - من نسيج حياتهم - في فيلم صنع بجهود تعاونية عن أسبوع في حياة عامل مهاجر، وشرع روش في صياغة منهج استخدم الكاميرا كأداة تحريك أو عامل حفز لكشف التوتر الاجتماعي، وهو المنهج الذي اتبعه في النظر إلى «قبيلته» من الباريسيين في «يوميات صيف».
لقد كان هدفه أن يتحدى المناهج غير التأملية في تناول كل من العلم والفن في السينما. وعن موضوع الأنثروبولوجيا قال روش إنه كان يرغب في الكف عن اعتبارها «ابنة كبرى للاستعمارية؛ فرع من المعرفة يختص به ذوو السلطة لاستجواب غيرهم من الناس. إنني أرغب في الاستعاضة عنها بأنثروبولوجيا مشتركة ... حوار أنثروبولوجي بين أناس منتمين لثقافات مختلفة، وهو في نظري منهج علوم الإنسان في المستقبل.» وقد قال عن الفيلم الوثائقي:
لا يوجد أي حدود تقريبا بين الفيلم الوثائقي والأفلام الروائية؛ فالسينما، فن الازدواج، هي مرحلة انتقالية من العالم الواقعي إلى العالم الخيالي، والإثنوجرافيا، علم نظم تفكير الآخرين، هو نقطة عبور دائمة من عالم مفاهيمي إلى آخر؛ ألعاب أكروباتية أقل مخاطرها أن يفقد المرء موطئ قدمه.
قدم روش أفلاما عن أشخاص آخرين لثلاثة أسباب؛ أولها بالطبع أنه كان يصنعها لنفسه، والسبب الثاني أنه كان يصنعها لجماهير عامة، أما السبب الثالث لتقديمه هذه الأفلام، فهو أن «السينما هي الوسيلة الوحيدة التي أملكها لإظهار شخص آخر كيفما أراه أنا»، وحبذا لو كانت تشاركية. لقد أصبحت السينما وسيلة لتغيير العلاقة الأنثروبولوجية: «بفضل التغذية الراجعة، لم يعد عالم الأنثروبولوجيا عالم حشرات يلاحظ الشخص موضوع بحثه كما لو كان حشرة (محقرا من شأنه)، ولكن يلاحظه كما لو كان محفزا لبناء تفاهم متبادل (مما يضفي عليه جلالة وكرامة).» حتى اليوم لا يزال المهتمون بمسائل القوة والمعنى في الفيلم الإثنوجرافي يعودون إلى جان روش كمرجعية.
صنعت بواسطة ...
بنى صناع الأفلام الإثنوجرافية على إبداع روش الشجاع في إيجاد طرق لرأب فجوة السلطة بين البطل والمخرج، وجربوا أيضا إبداعهم الخاص. وقد أنتج ديفيد وجوديث ماكدوجال - اللذان درسا الأنثروبولوجيا وتخرجا بالفعل وعملا في مجال الأفلام - أعمالا مميزة ورصينة تجسد وتعترض على نظرية «السينما التشاركية»، وهو مصطلح يفضلانه على مصطلح «سينما الواقع» على الرغم من أن أعمالهما كانت تسجيلية من الطراز الأول. ويجمع بين أفلام الزوجين ماكدوجال احترام علني للعادات الثقافية والاختيارات الثقافية لأبطال الفيلم، دون مطالبة المشاهدين بحبها أو التعاطف معها؛ ففي فيلم «جمال الزفاف: زواج توركانا» (1976)، تتبع الزوجان ماكدوجال العملية التي يجري من خلالها التفاوض على حفل زفاف بين جماعة في كينيا كانا على معرفة وثيقة بها. يكشف الفيلم مفهوما للزواج يختلف اختلافا عميقا عن المفهوم الغربي المعاصر. في الوقت نفسه، تعبر اختيارات الزوجين ماكدوجال أيضا عن قناعاتهما: فأفلامهما عن قبائل التوركانا هي تأييد ضمني لحق الرعاة في العيش كرعاة. ويقول ديفيد ماكدوجال إنه يرغب في «أن يجعل الفيلم الوثائقي وسيلة للتلاحم مع العالم، يواجه الحقيقة على نحو فعال، وفي غضون ذلك يتحول إلى صيغة للاستقصاء والتحقيق في حد ذاته».
كانت مشاركة الأبطال أيضا جزءا من نشاط مضاد للاستعمار، وهو ما يوثقه جيدا فيلم «التقاط الصور» (1996)، عن جيل من صناع الأفلام الإثنوجرافية في أستراليا ونيوزيلندا، ففي الستينيات والسبعينيات، عندما بدأ الأستراليون في إعادة النظر في علاقتهم بالسكان الأصليين ومع حصول غينيا الجديدة على استقلالها في عام 1975، نظر علماء الأنثروبولوجيا وصناع الأفلام إلى أنفسهم كتقدميين يعملون لدى الشعوب الأصلية، وأحيانا معهم، لاستعادة كبريائهم وصورتهم الذاتية، وقد أثارت هذه المشروعات الكثير من التساؤلات التي كان صناع الأفلام وعلماء الأنثروبولوجيا يواجهونها خلال قيامهم عليها.
تعاون عالم الأنثروبولوجيا الأسترالي جيري ليتش، والمخرج جاري كيلديا، ومنظمة سياسية من جزيرة تروبرياند (وهي جزء من غينيا الجديدة) لإنتاج فيلم «كريكيت تروبرياند» (1979). يتعقب الفيلم لعبة الكريكيت التي أخذها سكان الجزيرة عن سادتهم الاستعماريين السابقين وعدلوها تعديلا كليا، حتى إنها أصبحت تعبيرا راقيا عن ثقافتهم الخاصة. لقد استخدموا اللعبة للانتقال من الحرب المهلكة إلى حرب رمزية قائمة على اللعب؛ فهم مجددون ثقافيون مبدعون، شأنهم شأن أبطال روش، وبعيدون كل البعد عن كونهم ضحايا بحاجة لتوثيق إثنوجرافي لما تبقى من ثقافتهم. لقد تحدث الفيلم إلى البيض بواسطة البيض، وإلى سكان جزيرة تروبرياند عن أنفسهم. يستطيع صناع الأفلام أيضا أن يعكسوا الكاميرا، فقد عمل الأسترالي دينيس أورورك مع البابويين لتقديم الفيلم الساخر اللاذع «جولات آكلي لحوم البشر» (1987)، الذي كان فيه الأبطال الغرباء هم السياح الذين جاءوا لزيارة غينيا الجديدة، والذين كانوا كثيرا ما يحيرون السكان الأصليين بعاداتهم الغريبة.
صنعت على يد ...
أدى الاهتمام بالمشاركة والتقاسم في صناعة الأفلام الإثنوجرافية، إلى جانب تصاعد مطالب مجموعات السكان الأصليين والدول الجديدة، إلى نمو الإنتاج المحلي، وأيضا أحدث تغييرا في مجال الأنثروبولوجيا المرئية؛ فقد بدأ فاي جينسبرج وآخرون في الدفع بأن المجال لا بد أن يشغل نفسه بأنثروبولوجيا الإعلام، وكان أحد التساؤلات الكبرى في إطار هذا الموضوع هو قدرة العناصر التقليدية للعمل الإثنوجرافي على صناعة الإعلام الخاص بها. وقد كان جينسبرج، وإريك مايكلز، وجورج ستوني، ولورنا روث أنصارا لتعبير الشعوب الأصلية عن أنفسهم بقدر ما كانوا محللين له.
تبلور تمكين المبدعين المحليين في شكل حركة خلال السبعينيات دعمت من جانب حركة «فورث وورلد»، أو «فيرست نيشنز»، أو الحركات المحلية الناشطة، وبذلك انخفضت تكاليف تصوير الفيديو، ففي كندا، قام برنامج تحدي التغيير التابع للمجلس القومي للسينما - الذي يهدف إلى تدعيم وحدة المجتمع وقدرة المجتمعات ذات التمثيل الضعيف في كندا على تمثيل أنفسها - بالعمل مع الناشطين المحليين، وهناك أفلام قدمت واستخدمت كجزء من حملات لاستصلاح الأراضي وحقوق استغلال الأراضي، مثل «أنت على الأراضي الهندية» (1969)، وهو توثيق لوقفة احتجاجية قام بها هنود الموهوك احتجاجا على انتهاك إحدى المعاهدات، وكذلك فيلم «صيادو كري من ميستاسيني» (1974)، وهو احتفاء بثقافة مجتمع الصيد وجمع الثمار لقبائل كري الشمالية التي كانت تواجه تهديدا من مشروع كهرومائي. وقد تعلمت الشعوب الكندية الأصلية من هذه التفاعلات عندما كانوا يتفاوضون من أجل إنشاء شبكات اتصالات للمنطقة التي أصبحت مستقلة في عام 1999.
شكل 2-4: من خلال مشروع الفيديو في القرى، قدم هنود الأمازون أفلاما مثل «رائحة فاكهة البيكي» الذي وضع صناعة الأفلام الإثنوجرافية في صيغة المتكلم. الفيلم إخراج تاكوما كويكورو وماريكا كويكورو، مع فينسنت كارلي، في عام 2006.
وفي أمريكا اللاتينية، تعلم الهنود البرازيليون استخدام الفيديو لتوثيق الثقافة التقليدية من خلال مشروع الفيديو في القرى. لقد استخدموه لإحياء الممارسات التقليدية، وإنتاج سجل لمفاوضاتهم مع البيض، وأخيرا لسرد أساطير وقصص عن حياتهم للآخرين. واستخدمت بعض الأعمال، الموجهة للغرباء، منظورا ساذجا عن عمد، مثل صيغة رسالة الفيديو المستخدمة في فيلم «من أطفال إيكبينج إلى العالم» (2004)، وفي حالات أخرى، كان الهنود يروون أساطير أو يسجلون شعائر لأهداف معينة مثل الحفاظ على المعرفة وتعزيز الوعي بثروتهم الثقافية، وفي حالات أخرى، كما في فيلم «رائحة فاكهة البيكي» (2006)، يربط الهنود (هنود الكويكورو هذه المرة) الماضي الأسطوري بشعائر الحاضر والحياة اليومية.
وفي أستراليا، أنتجت الجماعات الأصلية أعمالا تصف كفاحهم، مثل فيلم «قانونان » (1981) الذي أنتج بمساعدة من إحدى المجموعات الاجتماعية، عن الحاجة للاعتراف بالقوانين والعادات الخاصة بالسكان الأصليين. وقد أبدع الفنانون الأصليون أمثال تريسي موفات أعمالا لم توثق التجربة فحسب، بل استخدمت المناهج التجريبية والروائية لتحقيق ذلك، كذلك أبدع الشباب الأصليون، في فريق أس موب، مشروع فيديو متواصل وموقع عبر الإنترنت وجمعية. وفي فنلندا، عرض المخرج السامي بول أندرز سيما في فيلم «تراث التندرة» للغرباء ثقافة رعاية الأيائل تحت الظروف البيئية السيئة.
وغالبا ما كان الناس في الثقافات السائدة يقلقون بشأن تأثير الإنتاج الإعلامي على الثقافات الأصلية، وعادة ما كان صناع الأفلام والناشطون المحليون يجدون هذا التخوف محيرا أو مهينا، فعادة ما كان هذا التخوف يعتمد على مفهوم متحجر للثقافة التقليدية، بدلا من النظر إلى الثقافة باعتبارها الجلد الاجتماعي المرن الذي يتخذ أشكالا جديدة مع ظهور معلومات جديدة، كما ظهر في فيلم «كريكيت تروبرياند». ويذهب الناشطون المحليون إلى أنهم يقصفون لا محالة بوابل من وسائل الإعلام والاتصالات الحديثة، ولا بد أن يتاح لهم التعبير كما يتاح لهم الاستهلاك. في الوقت نفسه إذا افتقد السكان الأصليون القدرة على سرد ونقل قصصهم الخاصة (بما أنهم لا يملكون سوى قدر ضئيل من السيطرة على الكثير من وسائل الإعلام التي تصلهم)، يمكن أن تصبح وسائل الإعلام ما يطلق عليه فاي جينسبرج «عقدا مع الشيطان» يبيعون بموجبه أرواحهم الثقافية مقابل الوصول إلى الإعلام. وكما هو الحال مع كل التباينات الاجتماعية، فإن اختلال ميزان القوة نادرا ما يحل بحل تقني.
لمن ولأي غرض؟
هل الفيلم الإثنوجرافي موجه للعلماء، أم لأبطاله، أم لجماهير التليفزيون؟ هل يمكن أن يكون هناك تداخلات أو أهداف مشتركة؟ لا يزال ذلك سؤالا يدور حوله جدال ساخن، فحتى الآن لم يجد علماء الأنثروبولوجيا تمويلا أو دعامة فكرية من أجل إيجاد منهج علمي، ودائما ما يستخدم المعلمون الأعمال التي نفذت لمصلحة سوق التليفزيون التجاري أو شبه التجاري. وغالبا ما كان السكان الأصليون يملكون أسبابا عملية ومحددة بوضوح لأعمالهم: وضع سجل، تحذير السلطات، تبادل معلومات ثقافية مع مجموعات ثقافية أخرى، تعليم البيض، غير أنهم نادرا ما يصلون إلى وسائل الإعلام والجماهير العريضة في نصف الكرة الشمالي.
إن التحديات التي تواجهها الأفلام الوثائقية التي تتناول القضايا والممارسات الثقافية في عبور الحدود الثقافية، مع كل من الأبطال والمستهلكين، هي التحديات التي عالجها جان روش بتفاؤل لم ينضب، والتي طالما كانت في قلب الأنثروبولوجيا.
أفلام الطبيعة
كانت الحيوانات من بين الأبطال الأوائل لصناع الأفلام؛ الحيوانات المنزلية اللطيفة، وغنائم الصيد الميتة، والمخلوقات الغريبة، ومع تنامي الأهمية التجارية للفيلم الوثائقي، تنامت أيضا أهمية الحيوانات كأبطال؛ نظرا لقلة تكلفتها مقارنة بالممثلين. وقد أصبحت أفلام الطبيعة الوثائقية - التي يطلق عليها أيضا الأفلام البيئية، أو الأفلام الداعية إلى صيانة البيئة، أو أفلام الحياة البرية - أحد الأنواع الفرعية الأساسية، وجزءا ثابتا من جدول البث، وفئة ديناميكية. وتعرض وثائقيات الطبيعة، التي تبدو للوهلة الأولى مباشرة ومحايدة أيديولوجيا، افتراضاتنا بشأن علاقاتنا ببيئتنا.
أفلام الترفيه التعليمي
كانت أفلام الطبيعة الأولى مدفوعة بهدفين يبدوان متناقضين: العلم والترفيه. وعلى مر الزمن، اندمج الدافعان معا في ادعاء الترفيه التعليمي الذي يتسم بالمرونة والمطاوعة.
في أواخر القرن التاسع عشر ساهمت التجارب العلمية في التصوير الفوتوغرافي - من بينها اختراع قام به طبيب فرنسي لتصوير الطيور أثناء الطيران - في التعجيل بظهور الأفلام السينمائية، واستغل العلماء السينما كوسيلة لتوثيق ملاحظاتهم بموضوعية، ولكنهم لم يمنتجوا ويصمموا فحسب أفلامهم (وهو الشيء الذي لم يكن واضحا على نحو دائم للعلماء الآخرين)، مما خفف من الطابع التسجيلي البحت لها، ولكنهم أيضا أضفوا امتيازا على الجانب المرئي للملاحظة العلمية. وقد عملت الأفلام الوثائقية الموجهة للمصلحة العامة على نشر المعرفة العلمية، وكانت سلسلة الأفلام القصيرة البريطانية المبكرة، التي عرضت من عام 1922 حتى عام 1933، بعنوان «أسرار الطبيعة»، نذيرا بظهور سلسلة لاحقة من أفلام الطبيعة.
في الوقت نفسه، اعتبر العاملون بمجال الترفيه السينما بمنزلة الخطوة التالية بعد عروض الشرائح لأفلام الرحلات وبعثات الصيد، وكان لفيلم «صيد الدب الأبيض» (1903) أحد أوائل الأفلام الوثائقية، دوره في إثارة موجة من أفلام المطاردة، وكان بعض هواة رحلات السفاري يحضرون معهم مخرجيهم الشخصيين لوضع سجلات لغنائم الصيد. أيضا أبرز فيلم المصور البريطاني - الذي يوثق لرحلة السفاري التي قام بها تيودور روزفلت، والذي كان بعنوان «روزفلت في أفريقيا» (1910) - غنائم الصيد، ولكن المشاهدين كانوا يفضلون الحركة. وكما كان متوقعا، بدأ صناع الأفلام في اصطناع أو تمثيل المشاهد وذبح الحيوانات لصناعة مشاهدهم (لإلقاء نظرة نقدية على أفلام الرحلات الأولى، شاهد الفيلم المجمع «من القطب إلى خط الاستواء» المنتج عام 1986، الذي يربط أفلام السفاري بالمغامرات الضخمة الأخرى).
عقب نجاح فيلمي «نانوك ابن الشمال» و«التغيير»، أنشأ مارتن وأوسا جونسون شركة تجارية ناجحة للغاية لإنتاج أفلام الطبيعة، بما في ذلك سلسلة إعلانات تجارية بملابس المغامرات، ومول مستثمرون أثرياء رحلة إلى أفريقيا لمدة أربع سنوات، نتج عنها فيلم «سيمبا» (1928). في الفيلم، صور الزوجان جونسون أنفسهما وهما يعيشان حياة بسيطة قبل العصر الصناعي على «بحيرة باراديس»، وقد أطلقا أسماء على الحيوانات التي ظهرت في الفيلم - من بينها الأسد النبيل - وحولا حياة الأفارقة أنفسهم إلى حياة برية كوميدية أيضا. حقق «سيمبا» نجاحا ضخما في دور العرض، وكان مصدر إلهام لأفلام أخرى أقل تكلفة.
لم تتلاش إثارة مشاهدة الحيوانات الخطيرة قط، فقد اعتمد البرنامج التليفزيوني البريطاني «صائد التماسيح» لستيف إروين، الذي حقق نجاحا عالميا حتى وفاته في عام 2006، على خوضه المجازفة.
على عكس أفلام السفاري المليئة بالعنف، تأتي الأفلام التي تبرز التوازن الرائع للطبيعة، والتي كان فيها الإنسان هو الدخيل الذي يشكل خطورة. وقد كانت أعمال المخرج السويدي أرن ساكسدورف، الذي حققت أفلامه الوثائقية الشاعرية التي تتناول الطبيعة نجاحا عالميا، تمثل هذا الأسلوب وتصقله، وقد أظهر أشهر أفلامه الوثائقية «المغامرة الكبرى» (1953)، الرؤية الشاعرية لصبي صغير للطبيعة، وكانت أعمال ساكسدروف مصدر الإلهام لأفلام رعوية أخرى، لعل أشهرها فيلم «فاربيك» (1946) لجورج روكيه، الذي يسجل تعاقب الفصول على مزرعة فرنسية.
أفلام الطبيعة من ديزني
جمع استوديو والت ديزني موضوعات الخطر، والبدائية النبيلة، والتوقير في السلسلة الرائدة لأفلام مغامرات الحياة الواقعية، التي بدأت مع الفيلم القصير الحاصل على جائزة الأوسكار عام 1948 «جزيرة الفقمة »، وانتهى الحال بأفلام ديزني، التي لم تستطع في البداية إيجاد موزع لها، مما أجبر شركة ديزني على افتتاح استوديوهات بوينا فيستا الخاصة بها، بالعرض على التليفزيون، وقد أصبح لهذه الأفلام شهرة ضخمة وأدرت أرباحا هائلة في جميع أنحاء العالم. وفي الواقع قد تكون هذه السلسلة هي من أنقذ استوديوهات ديزني من الانهيار بعد الفشل الذي منيت به أفلامها المتحركة ذات التكاليف الضخمة في شباك التذاكر.
في هذه الأفلام، كانت القصة مدفوعة برؤية داروينية بحتة، غير أن مشهد الموت كان يعالج بحذر وترو لتمريره إلى الجماهير العامة، ودائما كان وراء الموت غرض؛ على سبيل المثال، يتجاهل فيلم «جزيرة الفقمة» حقيقة أن ذكور الفقمة أحيانا تسحق الفقمات الصغيرة بأقدامها دون قصد، وقد كانت الدراما في أفلام مغامرات الحياة الواقعية - التي كان أولها فيلم «الصحراء الحية» (1953) - يحركها تقنيات السينما الروائية؛ فتجد مشاهد بانورامية واسعة وساحرة تخطف العقول على شاشات عريضة لبث الروع، وإيقاعا متقنا لضمان الإثارة، والموسيقى فخمة ورنانة أو خافتة.
لا وجود للبشر في هذه الأفلام، ولكن الحيوانات تلعب أدوارا إنسانية على نحو غريب مثل دور عائلة أمريكية نموذجية بإحدى الضواحي في فترة ما بعد الحرب؛ أمهات حاميات، وآباء مهتمون، وأطفال مشاكسون صعاب المراس.
تقع أحداث أفلام مغامرات الحياة الواقعية في مكان وزمان منزوعين بيسر وهدوء من مكان وزمان المشاهد؛ فكان أي أثر للبشر يمحى بحذر ودقة، وكان المصورون يوجهون إلى اختيار مواقع ليس بها أي نفحة للتمدن والحضارة، فقد كان السرد في فيلم «المراعي المتلاشية» (1954) يحمل وعدا باصطحاب المشاهدين إلى مكان في «زمن ليس له توثيق أو ذكرى، حين كانت الطبيعة وحدها هي صاحبة السيادة على عالم المراعي».
أفلام معالم الطبيعة الوثائقية وإيماكس
حفزت أفلام مغامرات الحياة الواقعية إنتاج سلسلة أفلام عالمية مثل سلسلة الأفلام البريطانية «الطبيعة» (1982)، وأصبح ما يسمى أفلام معالم الطبيعة الوثائقية جزءا أساسيا من الإنتاج العالمي من الأفلام الوثائقية الموجهة للتليفزيون. تجسد مثل هذه الأفلام الحيوانات الضخمة، وغيابا للبشر أو التأثير البشري، وقصة درامية محورها التناسل والضراوة (الجنس والعنف). ومن الأمثلة الممتازة على ذلك مسلسل «الكوكب الأزرق»، وهو مسلسل أنتجته بي بي سي/ديسكفري في عام 2001. يستكشف هذا المسلسل المثير المليء بالسحر التكنولوجي والعجائب الطبيعية، محيطات العالم دون الإشارة كثيرا إلى أن النشاط البشري يغير من ظروف الحيوانات الرائعة التي يبرزها.
تعتمد أفلام إيماكس ذات القطع الكبير على افتراضات أفلام معالم الطبيعة الوثائقية من أجل جذب جماهير المتاحف والفعاليات إلى عروضها على الشاشات الكبيرة؛ فأفلام الحشرات (فيلم «البق! بالأبعاد الثلاثية» 2003)، والحيوانات الضخمة (فيلم «الدلافين!» 2000)، ومجموعة من الأفلام التي تتناول أسماك القرش كلها تغمر المشاهدين في قصص الأعاجيب الطبيعية بقدر ضئيل من التدخل البشري. وكان مما دعم تزايد شعبية الأفلام الوثائقية في دور العرض في بدايات القرن الحادي والعشرين أيضا الدراما الموجودة في أفلام معالم الطبيعة الوثائقية. ويقدم الفيلم الفرنسي «الهجرة المجنحة» (2001) لجاك بيرين للمشاهدين لقطات قريبة مدهشة للطيور أثناء استعدادها للطيران، وأثناء طيرانها وهبوطها للقيام بهجراتها الموسمية، غير أن فريق الإنتاج كانوا يطلقون الطيور بأنفسهم لكيلا تخاف الحيوانات من الآلات المزعجة، فيما يعد ابتعادا عن تصوير الطبيعة كما هي. أيضا يسجل الفيلم الناجح الذي حقق شهرة عالمية «مسيرة البطاريق»، وهو فرنسي أيضا، للوك جاك، معاناة البطاريق الموسمية للتناسل تحت وطأة ظروف القارة القطبية الجنوبية. وفكرة قصة الحب التي يقوم عليها الفيلم تتجاهل استراتيجيا الحقائق الأساسية عن البطاريق مثل حقيقة أنها تتزاوج لموسم واحد فقط، وتتجنب هذه الفكرة مناقشة تهديد الاحترار العالمي لوجود الطيور.
أفلام البيئة
في نفس الوقت الذي أطلقت فيه أفلام مغامرات الحياة الواقعية، ولدت الحركة البيئية من خلال جهود الحفاظ على البيئة، وقد نجح المسلسل التليفزيوني «الأرض الحية» المنتج في الخمسينيات، الذي دعمته جمعية الحفاظ على البيئة، في اختراق السوق التعليمية للمرحلتين الابتدائية والثانوية. شددت هذه الأفلام الوثائقية على تأثير الأنشطة البشرية على توازن الطبيعة، ومع تنامي الوعي البيئي، أصبحت هذه الموضوعات والأفكار أكثر شيوعا. على الرغم من ذلك، دخل قدر كبير من الاصطناع حتى في وضع برامج الحفاظ على البيئة، فمعظم البرامج من هذه النوعية تستخدم الواقعية لتجسيد العلاقات التي تعرضها، موظفة التمثيل الاستراتيجي، والمونتاج بالإخفاء، والنص لرواية قصصها؛ فقد يتألف مشهد لحيوان واحد من لقطات لعدة حيوانات، وقد يستثار سلوك الحيوان للحصول على مشاهد مثيرة، فيما تعتمد معظم أفلام القرش على استثارة أسماك القرش من أجل مشاهد الحركة الخاصة بها. والكثير من أفلام الطبيعة تقلل من دور المخرجين أو تمحوه، فيما تحولهم أخرى إلى قادة مقدامين لرحلات السفاري الحديثة، مثلما تفعل سلسلة شبكة بي بي سي «القطط الكبيرة».
غير أن بعض المخرجين المستقلين تحدوا المشاهدين للتفكير في علاقتهم بالحيوانات وبالبيئة الطبيعية؛ فقد صنع الأسترالي الخارج عن السائد مارك لويس مشوارا مهنيا من الأفلام المثيرة للدهشة - والمضحكة للغاية - عن الأشخاص والحيوانات، فيبحث فيلم «ضفادع القصب» (1988) في عواقب إدخال ضفدع القصب إلى أستراليا بكوميديا سوداء فظة، فلم يكن لهذا الضفدع السام أي تأثير على الخنافس الذي استورد من أجل القضاء عليها، ولكنه أصبح وباء خطيرا، أما فيلماه «الفأر» (1998) و«التاريخ الطبيعي للدجاج» (2000)، فيؤرخان للعلاقة الخاصة والمقززة وغير المألوفة التي تجمع الناس بحيواناتهم المنزلية. يستعرض فيلم «الرجل الدب» (2005) لفيرنر هيرتزوج أيضا النهاية المروعة لتيموثي تريدويل، وهو مخرج وثائقي مضطرب عقليا عاش في قرية للدببة، وكان يخلط بين أصدقائه وبين الدببة وقتل على يد أحدها. يقارن هيرتزوج عاطفية تريدويل المضللة بفلسفته العدمية وإيمانه بالقسوة الغريزية للطبيعة؛ إنه يطابق نرجسية تريدويل بنرجسيته وينجح في إظهار الدببة أكثر جلالا ومهابة من أي من البشر في الفيلم.
شكل 2-5: خلق فيلم «حقيقة مقلقة»، الذي صنع فيه آل جور من الاحترار العالمي مشكلة عامة، توقعات جديدة لصناعة الأفلام البيئية. الفيلم من إخراج ديفيز جوجنهايم، 2006.
ثمة فيلم من أنجح الأفلام الوثائقية السينمائية على الإطلاق يمكن اعتباره من أفلام الطبيعة، وهو فيلم «حقيقة مقلقة» (2006) لديفيز جوجنهايم؛ يبرز الفيلم نائب الرئيس الأسبق آل جور وهو يلقي محاضرة مزودة بصور توضيحية نابضة بالحيوية عن الاحترار العالمي، ويضع المشاهدين في قلب قصة عن كارثة طبيعية، فمن خلال استخدام صور مثيرة لذوبان الجليد، ومحاكيات لفيضان الماء وهو يغمر مانهاتن ، ورسوم متحركة لدب قطبي يغرق، ومخططات ورسوم بيانية مدهشة، يوضح جور مدى إلحاح المشكلة، وينسج داخل كل ذلك ذكريات شخصية له؛ مزرعة والده، والنهر المحلي، والحادث الذي كاد يودي بحياة ابنه، ووفاة شقيقته، ويكشف أيضا عن فشله في إقناع الساسة بالتحرك للتعامل مع مشكلة الاحترار العالمي، قائلا إنهم بحاجة للاستماع من ناخبيهم. وهذا المزيج من البيانات العلمية، والجمال الطبيعي، وصور الكارثة المثيرة للذهول، والتحول الشخصي، إنما يجهز المشاهدين للأخبار السارة التي تأتي في النهاية وهي أن: «التحرك البشري يمكن أن ينقذ كوكبنا.»
إن هذه الأفلام تختلف اختلافا مدهشا عن تقاليد السفاري وتقاليد ديزني في أفلام الطبيعة، لأنها تركز على النشاط والتفاعل البشري؛ ليس فقط مع الحيوانات، ولكن أيضا مع النظم البيئية التي نعيش جميعا داخلها، وتساعدنا أيضا على رؤية ما لا يوجد في الكثير من برامج وأفلام الطبيعة، وتقدم لنا نماذج لمقاربات جديدة لتناول قصص بيئتنا.
الأهمية والأخلاقيات
ركز كثير من النقد على الأفلام المشهورة والمسلسلات التليفزيونية التي تبرز الحيوانات الضخمة (مثل «أسبوع القطط الكبيرة» بشبكة بي بي سي، و«أسبوع القروش» على قناة ديسكفري)، طارحا أسئلة عن معاملة الحيوانات، ودقة التجسيد، وادعاءات القصة. ويعتقد ديريك بوزيه أن معظم أفلام الحياة البرية مصطنعة على نحو كبير، حتى إنها تتحول فعليا إلى أفلام روائية، وعلى الجانب الآخر، يعتقد جريج ميتمان أن تحديات أفلام الطبيعة الوثائقية في تجسيد الواقع ليست أكثر تعقيدا مما هي عليه في الأشكال الأخرى للفيلم الوثائقي.
تساءل النقاد أيضا عما إذا كان أشهر أفلام الطبيعة الوثائقية لها قيمة تعليمية إيجابية. بالتأكيد قد يغفل المشاهدون بسهولة عن أي رسالة تتعلق بحماية البيئة. لقد كان ستيف إروين مدافعا صريحا عن البيئة، ولكن بعد أن قتلته سمكة من فصيلة الراي اللاسع، قتل محبوه أسماك الراي اللاسع ومثلوا بها على طول الخط الساحلي الأسترالي. ويوجه بيل ماكيبن اتهاما بأن الأفلام عندما تعرض الفصائل المعرضة للخطر من قريب، فإنها تنقل الرسالة المعاكسة؛ فكأنها تقول: يوجد الكثير من الفهود، انظروا إليها! إلى جانب أنها تخلق توقعات بأن الحيوانات في موقعها الطبيعي تكون في حالة دائمة ومثيرة من الحركة. وقد قال منتج أفلام «معالم الطبيعة» الوثائقية المحنك ديفيد أتينبورو ذات مرة إن فيلما «عن دغل لا يحدث فيه شيء ليس بالفيلم الذي يجعلك تشاهد التليفزيون»، فمثل هذه الأفلام لا تأخذ إلا شقا صغيرا جدا من حياة الحيوانات - الثدييات الكبيرة في الأغلب - على الكوكب على محمل الجد، ويذهب ماكيبن إلى أن «المحصلة النهائية للتوعية بالطبيعة من جانب التليفزيون هي ولع عميق بفصائل معينة وافتقاد عميق لفهم الأنظمة، أو السياسات التي تدمر تلك الأنظمة».
إن أزمة الاحترار العالمي قد لا تحفز اتجاها في أفلام الطبيعة الوثائقية للتركيز على الحيوانات فقط، بل تركز أيضا على الأنظمة التي تدعم الحياة، وعلى دور البشر في التأثير على النظام. لقد تطور المجال تطورا ملحوظا بالفعل، ولا شك أن قسوة وتصنع أفلام الطبيعة الوثائقية الأولى سوف يكونان ممقوتين اليوم.
ومع ملء أفلام الطبيعة الوثائقية لقنوات وفئات جديدة كاملة في النشاط الممتد للتليفزيون، سوف تستمر، سواء عن عمد أم لا، في تأريخ علاقتنا بالبيئة، وصحة هذا الشكل الفرعي ترتبط الآن ارتباطا وثيقا بصحة النظام البيئي العالمي.
الفصل الثالث
خاتمة
تطور الفيلم الوثائقي مع ظهور الإمكانات التكنولوجية، فقد أدى حلول الألوان والصوت وتكنولوجيا 16 ملليمترا إلى تغيير الطريقة التي يمكن لصناع الأفلام من خلالها تصوير الواقع ورواية قصصهم. أحدث حلول الفيديو أيضا تغييرا جذريا على صعيد الأشخاص الذين استطاعوا تصوير الواقع، وأدى إلى توسيع نطاق الأشخاص الذين يروون القصص، وقدمت تقنيات إيماكس والبث المرئي عالي الوضوح مشهدا جديدا على شاشاتنا. ومرة أخرى يحدث تعديل وتغيير جذري في الفرص والإمكانيات من خلال التحويل الرقمي والإنترنت، فقد أتاحا تأجير الفيديو بالطلب عبر البريد، ومسجلات الفيديو الرقمي، وتليفزيون الإنترنت وأفلام الهواتف الخلوية.
غير أن أيا من هذه التغييرات لم يقض على الفيلم الوثائقي الطويل، بل استثمرت ذلك الشكل بقيمة أعلى. وأفلام مثل «غرفة التحكم» لجيهان نجيم (وهو تجربة عمرها ثلاثة أشهر مع قناة الجزيرة الإخبارية أثناء بدء حرب العراق)، وفيلم «حجمي الكبير» لمورجان سبورلوك (عن السمنة والأطعمة السريعة) اكتسبت مصداقيتها ومشروعيتها من إنجازاتها في المهرجانات ودور العرض في عام 2004، وقد ازدادت القيمة السوقية للنظارات المتطورة، مثلما ظهر من خلال نمو إنتاج إيماكس.
غير أن هذه التغييرات جعلت من الممكن تخيل الفيلم الوثائقي على نطاق أوسع كثيرا، فعلى سبيل المثال، يمكن استخدام مقاطع الفيديو والأفلام الوثائقية المصغرة لاستنهاض التزام مشاهد شبكة الإنترنت، وهو ما تثبته منظمتا ويتنيس ووان وورلد تي في. وبإمكان المنظمات غير الحكومية في كل مكان أن تنتج فيديو لأعضائها، والمتبرعين لها، وأنصارها، إما بمفردها أو بالتعاون مع شركات إنتاج الأفلام الوثائقية، ويمكن للشباب أن ينتجوا فيديو بأي طول ولأي غرض بمفردهم أو بالتعاون مع متخصصين.
ويمكن دمج الفيديوهات الطويلة، وفيديوهات الهواة، وفيديوهات الإنترنت في نفس المشروع، وقد عمل مشروع رسائل الفيديو لعام 2004 في البلقان، الذي نفذه الفريق الهولندي المكون من إريك فان دن برويك وكاتارينا ريجر، على تيسير تبادل رسائل الفيديو بين الناس الذين انقطعت بينهم الصلات بفعل الحرب، فقد أنتج الفريق حلقات تليفزيونية مدة الواحدة منها نصف ساعة تسجل لحظات التفاعل، وارتحل الفريق عبر منطقة البلقان بشاحنة مزودة بوصلة إنترنت ليتيح بذلك للناس التواصل مع الأصدقاء والأقارب الذين فقدوا الاتصال بهم منذ فترة طويلة.
وظفت العديد من الحركات والمنظمات السياسية الأفلام الوثائقية أيضا في قضاياها؛ فعقد الهنود في المكسيك الذين انضموا لحركة زاباتيستا - التي أعلنت عن نفسها للعالم تحت اسم جيش زاباتيستا للتحرير في عام 1993 عن طريق الإنترنت - شراكة مع ناشطين دوليين لإنتاج فيديوهات عن حياتهم وكفاحهم، وقد حظيت الفيديوهات بالمشاهدة في محيط المجتمع والمنظمات الدينية وعلى الإنترنت أيضا، كذلك صنع الشباب الذين انجذبوا للحركة المضادة للعولمة أفلاما تشهد على مظاهراتهم وأهدافهم الثورية العلنية، بما في ذلك فيلم «الحرب العالمية الرابعة» (2004) إنتاج شركة بيج ماوث ميديا. وبواسطة كاميرات القطع الصغير، وثق القرويون الصينيون ثورتهم ضد مصادرة الحكومة للأراضي من أجل مشروعات التنمية وجذبوا اهتماما دوليا.
بالطبع لا تحل التقنيات الجديدة مشكلات المصداقية القديمة. إن الفيلم الوثائقي سيئ السمعة «تغيير فضفاض»، وهو سرد لنظريات المؤامرة المشكوك فيها فيما يتعلق بهجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية، لا يزال يشاهد على نحو دائم على الإنترنت. أيضا جذبت فيديوهات مدونة الفيديو لونلي جيرل 15 على موقع يوتيوب، التي تبرز الخطوات الجريئة الأولى لفتاة متدينة منعزلة نحو التمرد، قاعدة جماهيرية ضخمة قبل أن يعترف مجموعة من الفنانين بأن الأمر كله كان من نسج الخيال.
إن التقنيات الجديدة تزيد على نحو ضخم من حجم الإنتاج تحت عنوان الفيلم الوثائقي، وهذا الحجم قد يخلق أنواعا فرعية جديدة، أو قد يفرض إعادة التفكير في النهاية، فعندما ينتج الساسة، وتلاميذ الصف الرابع، ومسئولو تسويق المنتجات، أفلاما وثائقية قابلة للتحميل، هل سنعيد رسم ضوابط حول ما نعنيه ب «وثائقي»؟
كما رأينا، يعرف الفيلم الوثائقي كشكل فني بالتوتر القائم بين ادعاء المصداقية والحاجة لاختيار وتجسيد الواقع الذي يرغب المرء في إطلاع الآخرين عليه، فالأفلام الوثائقية هي مجموعة من الاختيارات؛ عن الموضوع، وأشكال التعبير، ووجهة النظر، وحبكة القصة، والجمهور المستهدف.
وفي الوقت الذي قد يبدو فيه ذلك بديهيا، فإن هذه التعريفات جرى التعتيم عليها أيضا في الكثير من المجادلات والمناقشات عن الفيلم الوثائقي. ومؤسسو الفيلم الوثائقي - فلاهرتي، وجريرسون، وفيرتوف - لم يعبروا عن التوتر الذي يحرك الأفلام الوثائقية بالكلمات بقدر ما عرضوه عمليا؛ فقد وعد كل منهم بالوصول إلى الواقع من خلال الفن، دون توضيح النقطة التي أخل عندها الترخيص الفني بالعقد الضمني المبرم مع المشاهد. وقد كانت التقنيات الجديدة، مثل تكنولوجيا 16 ملليمترا، دائما ما ينادى بها كطرق للخروج من هذا المأزق، غير أنها لم تخلق سوى مزيد من الطرق لاستكشافه. إن تطبيق المعايير الصحفية العالية يمكن أن يؤدي إلى الدقة، ولكن تلك المعايير لا تحل المشكلة المتمثلة في أن الفيلم الوثائقي دائما ما يجسد الواقع بدلا من الاكتفاء بعرضه.
سوف تستمر الأفلام الوثائقية في خوض صراع مثمر مع أسئلة على غرار: كيف يجسد صانع الفيلم الواقع بأسلوب موثوق فيه؟ ما الحقائق التي ستقال؟ لم هي مهمة، ولمن؟ ما مسئولية صانع الفيلم تجاه أبطال العمل وما طبيعة علاقته بهم؟ من الذي تتاح له الفرصة لصنع أفلام وثائقية، وكيف ينظر إليه، وتحت أي قيود؟ وسوف يعمل صناع الأفلام بالأدوات المتاحة بين أيديهم، التي تشمل التقاليد الشكلية التي تعبر للمشاهد عن الصدق، والدقة، والحضور الفريد؛ تلك التقاليد التي يمكن أن تشمل أي شيء من الراوي ذي الصوت الجهوري الرنان إلى الكاميرا المهتزة. تشمل الأدوات أيضا التوقعات التي يجلبها المشاهدون معهم من الأنواع الفرعية الثابتة، وتشمل مشاركة السلطات والمشاهير، واستحسان المؤسسات التي يثق بها المشاهدون.
سوف يستفيد صناع الأفلام أيضا من دراسة كفاح مخرجي الأفلام الوثائقية السابقين من أجل العمل بصدق وأمانة، سواء دراسة الشغف السياسي لأمثال جوريس إيفينز أو باربرا كوبل، أو المحاولات العابرة للثقافات لأمثال جان روش، والاستكشاف التعاطفي لأمثال آلان كينج، أو المهمة التاريخية لأمثال هنري هامبتون.
وسوف تظل مشكلة كيفية تجسيد الواقع مشكلة تستحق المصارعة معها، لأن الفيلم الوثائقي يقول: «لقد حدث هذا بالفعل، وكان مهما بما يكفي عرضه عليك، فلتشاهده.» قد تكمن أهمية الفيلم الوثائقي في برامج الشئون العامة أو الترفيه الذي يحركه المشاهير، قد يكون مهما للاعب تزلج في الرابعة عشرة من عمره، أو لسكان مبنى مقسم إلى شقق، وقد يكون مهما حتى نهاية الشهر أو نهاية الفصل الدراسي أو نهاية العمر. إن الفيلم الوثائقي يخلق روابط لها أساسها في تجربة الحياة الواقعية التي لا يمكن إنكارها؛ لأن بإمكانك أن تراها وتسمعها.
حاشية عن التاريخ والمعرفة العلمية
إن مادة هذا الكتاب قائمة على منظومة ضخمة من المواد العلمية والبحثية، صنع الأكاديميون جزءا كبيرا منها، وهذه النبذة ترسم مخططا لتطور المعرفة العلمية الخاصة بالفيلم الوثائقي، على أمل أن يساهم هؤلاء الذين أسرتهم تحديات الفيلم الوثائقي في فهمه.
إن معظم صناع الأفلام ينشغلون بصنع أعمالهم لدرجة يعجزون معها عن وصفها، ناهيك عن أرشفتها ووضعها في سياق، فنادرا ما يتوافر للصحفي رفاهية البحث التاريخي والمعرفة المقارنة للمجال (باستثناءات لافتة للأنظار مثل جيه هوبرمان، وروبي ريتش، وجوناثان روزينبوم، وستيوارت كلاوانز)؛ لذلك فإن الأعمال الأكاديمية تعد مصدرا أساسيا للفيلم الوثائقي، فالمعرفة العلمية تحدد المبدعين المهمين والاتجاهات المهمة، وتحتفظ بسجل لما حدث من قبل، وتضع أيضا الأجندة لما نعتقد أنه القضايا أو المشكلات الأساسية في الفيلم الوثائقي. إنها عملية مستمرة وتسير بسلاسة.
على الرغم من ذلك، فالمبدعون كانوا هم المسجلين الأوائل لتاريخ الفيلم الوثائقي، وكانوا متحيزين كما هو متوقع. وعلى مدى عقود كان أكثر الكتاب غزارة في الإنتاج وأوسعهم انتشارا مؤيدين للأسلوب الجريرسوني، فقد ذهب الكاتب والمعلم والمخرج بول روثا إلى أن الفيلم الوثائقي كان «درسا موجها لإيقاظ الوعي المدني بين العامة»، وكانت كتابات روثا جزءا من العمل التبشيري الذي قام به لرفع ذلك الوعي، وقد ترجم بحثه المعنون «الفيلم الوثائقي: استخدام الفيلم لتفسير حياة الناس بإبداع وبمصطلحات اجتماعية كما هي قائمة في الواقع» إلى عدة لغات، واستخدم على نطاق واسع في الدورات التدريبية. وقد كان يروي التاريخ - مركزا فقط على أوروبا - كخلفية لتعاليمه بشأن إنتاج الأفلام، وكان ينصح بالتعلم من الملاحظة الواعية لفلاهرتي برومانسيته، ومن التجارب الجمالية للأوروبيين مثل كافالكانتي وروتمان وإيفينز، ومن حماس فيرتوف لأسلوب الريبورتاج، والأساليب الدعائية لأيزنشتاين وجريرسون، لكي تصنع عملك المؤثر اجتماعيا.
السرد التاريخي
أرسيت أسس التأريخ الدقيق والموثوق لتاريخ الفيلم الوثائقي في عام 1971 على يد إريك بارنو، فقد أخذ الباحث والمخرج الأمريكي، الهولندي المولد، على عاتقه مهمة كتابة سجل تاريخي عالمي بحق للفيلم الوثائقي تحت عنوان بسيط هو «الفيلم الوثائقي»، أخذته مهمته التي تولاها وهو يعمل بالتدريس في جامعة كولومبيا إلى أكثر من عشرين دولة في العالم، من ضمنها اليابان، والهند، ومصر، والاتحاد السوفييتي، ودول في أوروبا الشرقية، وكذلك دول أوروبا الغربية المنتجة للأفلام، وبرؤية إنسانية عريضة وفضول صحي، سأل نفسه عن الظروف التي تصنع الإمكانيات لأنواع معينة من الأعمال (مثل أفلام الدعاية وأفلام الفن الطليعي)، وركز على الأعلام الرائدة والمؤثرة.
في التاريخ الاجتماعي البسيط والموثوق الذي نتج عن بحث بارنو، لم يعد فلاهرتي وجريرسون وفيرتوف فصائل متحاربة تنتظر الحكم عليها، ولكن أصبحوا مبدعين تاريخيين نفخوا الحياة في التاريخ على نحو مختلف. لقد استخدم المبدعين الكاريزميين كمرشدين عبر التاريخ، ليضرب بهم أمثلة على العصور والمناهج. يبدأ الكتاب بالتجارب الأولى في الأفلام الواقعية في بدايات السينما. ومن ضمن الآباء المؤسسين لدى بارنو (وكانت البداية التأسيسية يسيطر عليها الرجال، على الرغم من الدعم المهم للغاية الذي قدمته النساء في مجال الإنتاج، والمونتاج، والتسويق) فلاهرتي المستكشف، ودزيجا فيرتوف المراسل الصحفي، والشاب جوريس إيفينز الرسام، وجريرسون المدافع.
يتعقب الكتاب نمو النزعة الدفاعية القوية في باكورة أعمال مخرجة الأفلام الوثائقية الفاشية الألمانية ليني ريفينشتال، وأعمال بير لورنتز في الولايات المتحدة المؤيدة لبرامج الإصلاح الاقتصادي، وحركة صناعة الأفلام اليسارية خلال الثلاثينيات، وأعمال الحركة الوثائقية البريطانية التي وصلت لأوجها في دعاية الحرب العالمية الثانية خلال فترة الحرب. يصف الكتاب استخدام الفيلم الوثائقي في فترة ما بعد الحرب، كالشعر، والتاريخ، والإثنوجرافيا، ومناصرة القضايا، ويتعرض لصعود الأفلام الوثائقية المدعومة، والفيلم الوثائقي التليفزيوني. ساهم ظهور حركة معارضة دولية أيضا في تطوير أساليب تعبيرية جديدة. وتعقد مقارنة بين منهج الرصد التسجيلي الذي يمثله فنانون مثل ريتشارد ليكوك وألبرت وديفيد مايسلز وفريديريك وايزمان وآلان كينج، وبين منهج سينما الواقع الأكثر إثارة واستفزازا الذي طبقه فنانون في جميع أنحاء العالم، وينتهي الكتاب بمجموعة من الحركات السينمائية المنشقة، مثل: الأفلام المستقلة في الإمبراطورية السوفييتية الجديدة، والأفلام المعارضة للحرب الأمريكية في فيتنام، والأفلام المعارضة للنمو الصناعي في اليابان، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.
وبأسلوب يخلو من العاطفة وثر بالتفاصيل، صور بارنو صناع الأفلام الوثائقية عموما كأصوات للحرية، والاقتناع، والتلاحم مع العالم، فقد أظهرهم يستكشفون الوسيط لرواية قصص أهملت من جانب الإعلام السائد الذي أصبح أكثر قوة ونفوذا أكثر من أي وقت مضى، التي حللها فيما سبق في سجل تاريخي من ثلاثة أجزاء عن التليفزيون. وسرعان ما استخدم كتاب «الفيلم الوثائقي» في محاضرات دراسات السينما، التي كانت شعبيتها تنمو نموا سريعا. في نفس الفترة الزمنية، أنتج آخرون نصوصا شهيرة أيضا نبعت من الاستخدام في حجرات الدراسة وتدريس الخبرة الإنتاجية، فقد أنتج لويس جاكوبس - على سبيل المثال - كتاب مقتطفات أدبية من المؤلفات عن الفيلم الوثائقي، وقد نظمه حسب التسلسل الزمني إلى حد ما، وتنوعت موضوعاته ما بين التجديد (العصر التأسيسي)، ومبدأ المحافظة (فترة ما بعد الحرب)، والتلاحم والانخراط (سينما الواقع). طور ريتشارد بارسام أيضا هيكلا مفاهيميا يبحث في الفيلم الوثائقي كفن داخل منهج جمالي أطول للواقعية، الذي أخذ في الاعتبار أيضا نطاقا واسعا من التعبير، وذلك في كتاب «الفيلم الواقعي: تاريخ نقدي». نشر جاك إليس، الذي عمل مع جريرسون، أيضا كتاب «فكرة الفيلم الوثائقي»، الذي ركز على الفيلم الوثائقي الاجتماعي باللغة الإنجليزية، وأظهر بجرأة عشقه لجريرسون، وقد حدثه فيما بعد مع بيتسي ماكلين. غير أن النطاق الجغرافي والجمالي والوضوح الشديد لبارنو لم يضاهه فيه أحد من مؤرخي التاريخ التجميعي.
المعرفة العلمية التحليلية
تطورت المعرفة العلمية عن الأفلام الوثائقية كدراسات سينمائية، ولدت من رحم أقسام دراسة الأدب، وأصبح بعض الطلاب أساتذة في هذا المجال. لقد جذبت بدايات المجال البحث العلمي نحو التركيز التحليلي على النصوص النموذجية للباحثين الأدبيين؛ مع العلم بأن النصوص في هذه الحالة هي الأفلام، ومع نمو المجال الأكاديمي للدراسات الثقافية - دراسة تكوين الثقافة، مع الانتباه خصوصا لظروف الإنتاج والاستقبال - نمت أيضا الدراسات الخاصة بكيفية نمو الحركات السينمائية وكيف كانت الأفلام تستقبل وتستخدم.
استكشف الأكاديميون على نطاق واسع ومكثف التعقيدات الكامنة وراء ادعاء الفيلم الوثائقي المصداقية بشأن العالم الواقعي، ذلك الادعاء الذي يبدو بسيطا، فقراءاتهم الدقيقة للأفلام حللت تحليلا دقيقا الكيفية التي يحقق بها صناع الأفلام وهم العرض الشفاف للحقيقة، وغالبا ما كانوا يضفون قاعدة غنية من المعرفة البيوجرافية والتاريخية على قراءاتهم الدقيقة أيضا. علاوة على ذلك، كانوا يتحدون ويعيدون تمحيص سمعة ودور الأعلام المؤسسين، خاصة جريرسون وفلاهرتي.
في هذا الشكل الفني، طور الأكاديميون تصنيفاتهم الخاصة لاستيعاب ونقد أعمال المخرجين الوثائقيين في إطارها، فالتصنيف يرسي لهم الأساس لتفسير وتحليل العمل، وتتوقف قيمة مثل هذه التصنيفات على مساعدتها في شرح الكيفية التي يعمل بها المخرجون الوثائقيون، والاستمرار في ابتكارها، وتختلف التصنيفات البحثية اختلافا حادا عن التصنيفات المستخدمة في سوق العمل، حيث الموضوعات (التاريخ، والحياة البرية، والعلوم، والأطفال) هي المهيمنة، فهي تركز على «التقنيات» التي يستخدمها صناع الأفلام لتجسيد الواقع، ومن ثم تصوغ مشكلة التجسيد بطريقة من شأنها إقناع المشاهدين بأنه ليس تجسيدا على الإطلاق، ولكنه الواقع؛ فعلى سبيل المثال، وصف بيل نيكولز أربع طرق لمخاطبة المشاهد في الفيلم الوثائقي، لكل منها تداعيات بالنسبة لادعاءات المصداقية: الإيضاحية (مثل الراوي ذي التأثير والثقل)، والمراقبة (مثل أعمال الأخوين مايسلز)، والتفاعلية (قصص التاريخ الشفهي والحوارات وما شابهها)، والانعكاسية (الأعمال التي تعلق على الشكل الذي تنتمي إليه، مثل أعمال فيرتوف أو فيلم «معركة الفئوس»). وقد تعرض نيكولز وآخرون لهذه التصنيفات بالنقد وأضافوا إليها؛ فأضاف كيث بيتي إلى القائمة الطريقة التجديدية (الدوكودراما)، والترفيه التسجيلي (تليفزيون الواقع). وصف مايكل رينوف أيضا أربعة أشكال وظيفية للأفلام الوثائقية: التسجيلية، والإقناعية، والتحليلية، والتعبيرية.
وقد كرس العديد من الأكاديميين والباحثين أنفسهم لتأريخ وتحليل الأفلام الوثائقية التي تتناول القضايا والنضال، وهذا من شأنه أن يعكس في جزء منه الدور التاريخي لمخرجي الأفلام الوثائقية، الذي مثله بارنو على نحو رائع بأصوات للمعارضة والنقد، إلى جانب أنه يظهر نزعة ليبرالية داخل الوسط الأكاديمي وأيضا في محور ماكينة الإنتاج الوثائقي في السبعينيات وبداية الثمانينيات حين كانت المجموعة الأولى من باحثي دراسات السينما الوثائقية بصدد إنهاء باكورة أعمالهم، وقد تجسد هذا التركيز على حركة النضال على نحو جيد للغاية في سلسلة كتب «الدليل الواضح». على سبيل المثال، قدمت أعمال عن الأفلام الوثائقية النضالية التي تتناول الإيدز بدءا من الثمانينيات في الولايات المتحدة، والأفلام الوثائقية عن المساواة بين الجنسين، والشواذ والسحاقيات، والأفلام الوثائقية الأمريكية الأفريقية، وأفلام «حرب العصابات» الوثائقية، أو الأفلام الوثائقية البديلة والمعارضة.
توجد طرق عديدة للتساؤل عن أسباب وكيفية اختلاف الأفلام الوثائقية عن الفيلم الروائي، بالنظر إلى اشتراكهما في العديد من التقنيات والأساليب، فقد ذهب ويليام جويين، انطلاقا من نظرية وضعت للأفلام الروائية، إلى أن الفيلم الوثائقي أقل إشباعا وإرضاء من الفيلم الروائي، ذلك لأنه يعجز عن منح المشاهد نفس العودة غير المدركة لما هو مكبوت في العقل الباطن؛ الوعد بتكامل ووحدة رائعين. ويعارض محللو ما بعد الحداثة استخدام الأفلام الوثائقية للواقعية السيكولوجية (مثلما يحدث في الأفلام الروائية) لتجسيد الواقع، فالواقعية، في تحليلهم، تعمل فقط على التعتيم على أيديولوجية الثقافة البرجوازية. ويذهب نيكولز إلى أن الأفلام الوثائقية التي تتلاعب بتوقعات المشاهد بالشفافية والحقيقة تعكس على نحو أكثر إبداعا وجهات النظر المتعددة لحياة ما بعد الحداثة. في الوقت نفسه، يقر براين وينستون بأنه في عصر المعالجة الرقمية التي لا حد لها والتدخل الجامح من قبل المشاهد، لا يستطيع مخرجو الأفلام الوثائقية أن يدعوا الدقة العلمية أو الحق الأبوي في الوعظ والإرشاد، ولكن على الواحد منهم أن يعترف بأنه ليس إلا متحدثا ضمن متحدثين آخرين. ويرد المنظرون المعرفيون أمثال نويل كارول بأن البشر يفسرون المعلومات والبيانات بدقة وعقلانية من العالم المحيط بهم، بما في ذلك المعلومات القادمة إليهم من الشاشات التي يشاهدونها، ويذهبون إلى أن وهم الحقيقة ليس بالضرورة أن يكون نزعا للنفوذ والتمكين.
المجالات الناشئة
لا تزال المعرفة العلمية في مجال الفيلم الوثائقي في طور التطور، وهناك مجالات نمو محتملة ومثمرة، فالباحثون الناطقون بالإنجليزية، على سبيل المثال، عادة ما كانوا يعولون على نحو محدود على المعرفة العالمية عن الأفلام الوثائقية، على الرغم من أن العكس ليس صحيحا بالضرورة، وقد كان مهرجان ياماجاتا للسينما في اليابان يدعم بقوة التبادل العالمي للمعرفة بجريدته المنشورة عبر الإنترنت «صندوق الفيلم الوثائقي»، وقد كان هناك استثناءات مبهرة للأفق المحدود للغة الإنجليزية أيضا، مثل أعمال جوليان بيرتون ومايكل شانان عن الأفلام الوثائقية اللاتينية، وأعمال ماركوس نورنس عن الأفلام الوثائقية اليابانية.
ولا يملك معظم باحثي الدراسات السينمائية سوى القليل من المعرفة عن حركة توزيع الأفلام الوثائقية، ولا يهتمون بأشهر أنواع الأفلام الوثائقية إلا قليلا؛ فقد كان تركيزهم منصبا في الأساس على الإنتاج المستقل والأفلام الموجهة للجماهير العامة، وعلى أعمال السينما المنشقة وأعمال السينما التجريبية، وعادة ما يتركون تأملات بشأن تأثيرات الفيلم الوثائقي التقليدي والممول من جهات معينة - حيث غالبا ما يكون تعقب جهة التأليف الأصلية أكثر صعوبة بكثير - لعلماء الاجتماع والعلماء الاجتماعيين الآخرين الذين يدرسون تأثيرات الإعلام وغالبا ما لا يملكون معرفة معينة بشكل ونهج الفيلم الوثائقي.
غير أن الأفلام الوثائقية التي تقدم لعملاء بعينهم (الأفلام الوثائقية «المدعومة») وتلك الأفلام الوثائقية التقليدية التي تعرض عبر شاشة التليفزيون، مهمة، وتعد من الأوجه الآخذة في النمو للإنتاج الوثائقي، وكلاهما عادة ما يشكل التجارب الأولى للمشاهد مع الفيلم الوثائقي. كذلك غالبا ما تقدم الأفلام الوثائقية المدعومة والتقليدية دعما ماديا للأعمال المستقلة؛ إذ إن هذا الجانب من المجال يوفر عملا منتظما لمخرجي الأفلام الوثائقية. وبالفعل، تساهم الأعمال المدعومة في الكثير من الدول النامية في إبقاء قطاع السينما بأكمله على قيد الحياة في وسط المشروعات الكبرى. ومن الممكن لنظرة على نقاط التقاطع بين الأعمال المدعومة والأعمال المستقلة أن توفر فهما أفضل لكيفية تطور الفيلم الوثائقي.
ونظرا لقلة الأبحاث التي أجريت على الأفلام الوثائقية المدعومة، فإننا لا نعرف الكثير عن مجال لا شك أنه المسئول عن الغالبية العظمى من الأفلام المنتجة. وتعمد المؤسسات حاليا إلى استخدام الأفلام الوثائقية للمؤتمرات، واجتماعات مجالس الإدارات، والعروض التقديمية، وحملات المبيعات، وفي الحملات الاستراتيجية الموجهة لأطفال المدارس، أو مرضى الإيدز، أو الموظفين، لتعليمهم كيفية تجنب التحرش الجنسي وما شابه. أنتجت صناعة الأفلام، التي تدعمها الشركات والحكومات، أيضا مواد أرشيفية ثرية لصناع الأفلام.
لم تنجح الأفلام الوثائقية التي صنعت بغرض الترفيه التافه في جذب انتباه الكثير من الباحثين، ولكن ربما تفعل مع تنامي شعبية الشكل، وقد بدأ باحثو الدراسات السينمائية أخيرا في دراسة أنواع مثل الفيلم الأسود واستوديوهات السينما أو «نابغة المنظومة» كما أطلق عليها توماس شاتز، وقد طبق النموذج جيدا على أعمال مصانع الأفلام الوثائقية، مثل ديسكفري كوميونيكيشنز.
ومع تزايد أهمية الأفلام الوثائقية، نستطيع أن نتوقع أن نرى الباحثين يستكشفون هذه الأنواع الفرعية، وبنياتها، واستراتيجياتها في التجسيد، ومدى جاذبيتها. وجميع وثائقيات الأداء المسرحي في الموسيقى والكوميديا، ووثائقيات «الكواليس»، ووثائقيات رياضات المغامرة، والبرامج التليفزيونية مثل البرامج التي توجه تعليمات أو نصائح لشيء ما، وبرامج الجمال، والطهي، وغيرها من البرامج، كلها لا تعتمد فحسب على الأعمال السابقة التي قدمها مخرجون وثائقيون مبتكرون، ولكنها أيضا تشكل توقعات السوق والمشاهدين، وقد كانت الأعمال الأولى، والمدرج بعضها في قائمة «مزيد من القراءة» تدور عن وثائقيات الروك، مثل فيلم دي إيه بينبيكر الكلاسيكي المنتمي لسينما الواقع «لا تنظر للخلف» (1967) عن إحدى جولات بوب ديلان الفنية، وفيلم مارتن سكورسيزي «رقصة الفالس الأخيرة» (1978) عن فريق ذا باند الغنائي، وفيلم جوناثان ديم المنتج عام 1984 «توقف عن التعقل»، الذي يبرز فريق توكينج هيدز. والاهتمام بأعمال أكثر رواجا وشهرة سوف يربط الباحثين على نحو أكثر اكتمالا أيضا بالوقائع الاقتصادية لشكل فني يرتبط ارتباطا وثيقا بوسائل الإعلام التجارية، وسوف نتعرف على المزيد، من خلال هذه الوسائل، عن الكيفية التي تشكل بها الظروف الاقتصادية أسلوب التعبير.
ثمة تغييرات أخرى في التعبير الوثائقي قد تحرك النشاط الأكاديمي، فازدهار الإنتاج في مجال أفلام القضايا الوثائقية والشعبية المتزايدة للأفلام الوثائقية التي تتناول موضوعات الساعة قد ينشط أعمالا أكاديمية عن المعايير والأخلاقيات في المجال، وقد يحرك النمو في الإعلام التشاركي مزيدا من الأعمال المشتركة بين عدة تخصصات، مثل علماء الاجتماع، وعلماء الأنثروبولوجيا، وباحثي الاتصالات، والعلماء السياسيين، وعلماء معالجة المعلومات، وباحثي السينما، الذين يسعى كل منهم لفهم الظاهرة، وسوف تستمر المعرفة العلمية والبحثية في تغيير فهمنا للفيلم الوثائقي، وسوف تعكس ارتباطا مبدعا بين اهتمامات الأكاديميين وممارسات مخرجي الأفلام الوثائقية.
مائة فيلم وثائقي رائع
شوهدت هذه الأفلام الوثائقية ونوقشت على نطاق واسع، وفي كثير من الحالات كانت محور جدل، وفي حالات أخرى قدمت مواد تعليمية قيمة. جميع هذه الأفلام متاحة للاستئجار أو الشراء لضمها لمجموعتك الخاصة. يمكنك استخدام فهرس هذا الكتاب والكتب الأخرى المذكورة في قسم المراجع، وموقع آي إم دي بي دوت كوم
imdb.com ، ومكتبتك المحلية، ونتفليكس، وجوجل، ومكتبة الكونجرس لمعرفة المزيد عن الأسباب التي جعلت هذه الأفلام تجذب الانتباه والتقدير. إن مشاهدة هذه المجموعة سوف تزودك بسياق لمشاهدة أحدث أفلامك المفضلة، والنظر في هذه القائمة، وبناء قائمتك الخاصة لأفضل مائة فيلم.
نانوك ابن الشمال، 1922 “Nanook of the North, 1922” .
المرعى، 1925 “Grass, 1925” .
برلين: سيمفونية مدينة عظيمة، 1927 “Berlin, Symphony of a Great City, 1927” .
سقوط سلالة رومانوف، 1927 “The Fall of the Romanov Dynasty, 1927” .
الرجل ذو الكاميرا السينمائية، 1929 “Man with a Movie Camera, 1929” .
المطر، 1929 “Rain, 1929” .
أرض بلا خبز، 1932 “Land without Bread (Las Hurdes), 1932” .
رجل من آران، 1934 “Man of Aran, 1934” .
أنشودة سيلان، 1934 “Song of Ceylon, 1934” .
انتصار الإرادة، 1934 “Triumph of the Will, 1934” .
البريد الليلي، 1936 “Night Mail, 1936” .
المحراث الذي حطم السهول، 1936 “The Plow that Broke the
.
الأرض الإسبانية، 1937 “Spanish Earth, 1937” .
النفوذ والأرض، 1939-1940 “Power and the Land, 1939-1940” .
استمع لبريطانيا، 1942 “Listen to Britain, 1942” .
لماذا نحارب، 1942 “Why We Fight, 1942” .
معركة سان بيترو، 1945 “Battle of San Pietro, 1945” .
فاربيك، 1946 “Farrebique, 1946” .
الأسياد المجانين، 1955 “Maîtres Fou, Les (Crazy Masters), 1955” .
الليل والضباب، 1955 “Night and Fog, 1955” .
ألق لي بدايم، 1958 “Tire Dié, 1958” .
الانتخابات الأولية، 1960 “Primary, 1960” .
يوميات صيف، 1961 “Chronicle of a Summer, 1961” .
ضوء العث، 1963 “Mothlight, 1963” .
معركة كولودين، 1964 “Battle of Culloden, 1964” .
أولمبياد طوكيو، 1965 “Tokyo Olympiad, 1965” .
لا تنظر إلى الخلف، 1967 “Dont Look Back, 1967” .
حماقات تيتيكت، 1967 “Titicut Follies, 1967” .
واريندال، 1967 “Warrendale, 1967” .
ساعة الأفران، 1968 “Hour of the Furnaces, 1968” .
البائع، 1968 “Salesman, 1968” .
المدرسة الثانوية، 1969 “High School, 1969” .
الحزن والشفقة، 1969 “Sorrow and the Pity, 1969” .
بيع البنتاجون، 1971 “Selling of the Pentagon, 1971” .
العالم في حالة حرب، 1973 “World at War, 1973” .
قلوب وعقول، 1974 “Hearts and Minds, 1974” .
معركة الفئوس، 1975 “Ax Fight, 1975” .
معركة تشيلي، 1975-1979 “Battle of Chile, 1975-1979” .
جمال الزفاف، 1976 “The Wedding Camels, 1976” .
مقاطعة هارلان، يو إس إيه، 1976 “Harlan County USA, 1976” .
كيف صنعت الأسطورة، 1978 “How the Myth Was Made, 1978” .
رقصة الفالس الأخيرة، 1978 “The Last Waltz, 1978” .
بالأطفال والأعلام، 1978 “With Babies and Banners, 1978” .
كريكيت تروبرياند، 1979 “Trobriand Cricket, 1979” .
حياة المرأة العاملة وأزمنتها، 1980 “The Life and Times of Rosie the Riveter, 1980” .
ناي: قصة امرأة من الكونج، 1980 “N!ai: The Story of a !Kung Woman, 1980” .
حديقة المباهج الأرضية، 1981 “Garden of Earthly Delights, 1981” .
المقهى الذري، 1982 “Atomic Café, 1982” .
عبء الأحلام، 1982 “Burden of Dreams, 1982” .
بلا شمس، 1982 “Sans Soleil (Sunless), 1982” .
اللقاء الأول، 1983 “First Contact, 1983” .
عندما ترتجف الجبال، 1983 “When the Mountains Tremble, 1983” .
بعد عشرين عاما، والمعروف أيضا باسم: رجل على قائمة الموت، 1984 “Cabra Marcado para Morrer (Twenty Years Later, a.k.a. A Man Listed to Die), 1984” .
شواه، 1985 “Shoah, 1985” .
من القطب إلى خط الاستواء، 1986 “From the Pole to the Equator, 1986” .
أغنيات هاندسورث، 1986 “Handsworth Songs, 1986” .
مسيرة شيرمان، 1986 “Sherman’s March, 1986” .
عيون على الجائزة، 1987-1990 “Eyes on the Prize, 1987-1990” .
ضفادع القصب، 1988 “Cane Toads, 1988” .
الجيش الإمبراطوري العاري يتقدم، 1988 “The Emperor’s Naked Army Marches On, 1988” .
الخط الأزرق الرفيع، 1988 “The Thin Blue Line, 1988” .
روجر وأنا، 1989 “Roger & Me, 1989” .
ألسنة غير معقودة، 1989 “Tongues Untied, 1989” .
الجسد الجميل، 1990 “Body Beautiful, 1990” .
الحرب الأهلية، 1990 “The Civil War, 1990” .
باريس تحترق، 1990 “Paris Is Burning, 1990” .
إرادة الله، 1991 “Allah, Tantou, 1991” .
أفريقيا، سوف أنهبك، 1992 “Afrique, Je Te Plumerai, 1992” .
لومومبا: موت رسول، 1992 “Lumumba, Death of a Prophet, 1992” .
غرفة الحرب، 1993 “The War Room, 1993” .
الحياة الرائعة الرهيبة لليني ريفينشتال، 1993 “The Wonderful, Horrible Life of Leni Riefenstahl, 1993” .
أحلام الطوق، 1994 “Hoop Dreams, 1994” .
خزانة الشريط السينمائي، 1995 “Celluloid Closet, 1995” .
التقاط الصور، 1996 “Taking Pictures, 1996” .
4 فتيات صغيرات، 1997 “4 Little Girls, 1997” .
تشيلي، الذكرى العنيدة، 1997 “Chile, Obstinate Memory, 1997” .
42 فما فوق، 1998 “42 Up, 1998” .
ما علمه فاروكي، 1998 “What Farocki Taught, 1998” .
سينما الواقع، 1999 “Cinéma vérité, 1999” .
جامعو القمامة وأنا، 2000 “Gleaners and I, 2000” .
الغريب ذو الكاميرا، 2000 “Stranger with a Camera, 2000” .
دوج تاون وزي بويز، 2001 “Dogtown and Z-Boys, 2001” .
المقاتل، 2001 “Fighter, 2001” .
الهجرة المجنحة، 2001 “Winged Migration, 2001” .
أماندالا!، 2002 “Amandla!, 2002” .
الحافلة 174، 2002 “Bus 174, 2002” .
اليوم الذي لن أنساه أبدا، 2002 “The Day I Will Never Forget, 2002” .
الأنهار والمد والجزر، 2002 “Rivers and Tides, 2002” .
نقطة تفتيش، 2003 “Checkpoint, 2003” .
ضباب الحرب، 2003 “Fog of War, 2003” .
غرفة التحكم، 2004 “Control Room, 2004” .
فهرنهايت 9 / 11، 2004 “Fahrenheit 9/11, 2004” .
من أطفال إيكبينج إلى العالم، 2004 “From the Ikpeng Children to the World, 2004” .
الأمريكيون الجدد، 2004 “The New Americans, 2004” .
حجمي الكبير، 2004 “Super Size Me, 2004” .
تان تان وأنا، 2004 “Tintin and I, 2004” .
رسائل الفيديو، 2004 “Video Letters, 2004” .
مصنع لطيف، 2005 “A Decent Factory, 2005” .
ثلاث غرف للسوداوية، 2005 “Three Rooms of Melancholia, 2005” .
حقيقة مقلقة، 2006 “An Inconvenient Truth, 2006” .
مزيد من القراءة والمشاهدة
I have included here the most important texts I consulted in writing the book (in the case of prolific authors not all their books are referenced). Grant and Sloniowski, Warren and Izod, et al. are all essay collections featuring authors I have referred to in the text. The place where I and almost everybody else started was, of course, Erik Barnouw.
الأفلام
McLaren, Les, and Annie Stiven.
Taking Pictures.
First Run Icarus, 1996.
Műller, Ray.
The Wonderful Horrible Life of Leni Riefenstahl.
Kino on Video, 1998.
Stoney, George.
How the Myth Was Made.
Available on the Home Vision DVD of
Man of Aran , 1978.
Wintonick, Peter.
Cinema vérité: Defining the Moment.
National Film Board of Canada, 1999.
المطبوعات
Aitken, Ian.
Film and Reform: John Grierson and the Documentary Film Movement.
London: Routledge, 1990. ---.
The Documentary Film Movement: An Anthology.
Edinburgh: Edinburgh University Press, 1998.
Alexander, William.
Film on the Left: American Documentary Film from 1931 to 1942.
NJ: Princeton University Press, 1981.
Anderson, Joseph L., and Donald Richie.
The Japanese Film: Art and Industry.
Aufderheide, Patricia.
The Daily
Minneapolis: University of Minnesota Press, 2000.
Aufderheide, Patricia, and Peter Jaszi,
Untold Stories: Creative Consequences of the Rights Clearance Culture for Documentary Filmmakers.
Washington, DC: Center for Social Media, American University, 2004.
Barnouw, Erik.
Tube of Plenty: The Evolution of American Television.
New York: Oxford University Press, 1982. ---.
Documentary: A History of the Non-fiction Film.
New York: Oxford University Press, 1993. ---.
Media Marathon: A Twentieth-Century Memoir.
Durham, NC: Duke University
Barsam, Richard.
Nonfiction Film: A Critical History.
New York: Dutton, 1973.
Beattie, Keith.
Documentary Screens: Non-fiction Film and Television.
New York: Palgrave Macmillan, 2004.
Benson, Thomas W., and Carolyn Anderson.
Reality Fictions: The Films of Frederick Wiseman.
Carbondale, IL: Southern Illinois University
Bernard, Sheila Curran.
Documentary Storytelling for Film and Videomakers.
Boston: Focal
Bluem, A. William . Documentary in American Television: Form, Function [and] Method.
Hastings House, 1965.
Bousé, Derek.
Wildlife Films.
2000.
Boyle, Deirdre.
Subject to Change: Guerrilla Television Revisited.
New York: Oxford University Press, 1997.
Burton, Julianne.
The Social Documentary in Latin America.
of Pittsburgh Press, 1990.
Campbell, Richard.
60 Minutes and the News: A Mythology for Middle America.
Urbana: University of Illinois Press, 1991.
Campbell, Russell.
Cinema Strikes Back: Radical Filmmaking in the United States, 1930-1942.
Ann Arbor, MI: UMI Research Press, 1982.
Carey, James W.
Communication as Culture: Essays on Media and Society.
London: Unwin Hyman, 1989.
Carroll, Noël.
Engaging the Moving Image.
New Haven, CT: Yale University Press, 2003.
Chanan, Michael.
Cuban Cinema.
Minneapolis: University of Minnesota Press, 2003.
Culbert, David, Richard E. Wood, et al.
Film and Propaganda in America: A Documentary History.
Westport, CT: Greenwood Press, 1990.
Cunningham, Megan.
The Art of the Documentary.
Berkeley: New Riders, 2005.
Delmar, Rosalind.
Joris Ivens: 50 years of Film-making.
London: Educational Advisory Service, British Film Institute, 1979.
Dewey, John.
The Public and Its
New York: H. Holt and Company, 1927.
Doherty, Thomas.
Cold War, Cool Medium: Television, McCarthyism, and American Culture.
New York: Columbia University
Eaton, Mick.
Anthropology, Reality, Cinema: The Films of Jean Rouch.
London: British Film Institute, 1979.
Edgerton, Gary R.
Ken Burns’s America.
New York: Palgrave, 2001.
Ellis, Jack C.
John Grierson: Life, Contributions, Influence.
Carbondale, IL: Southern Illinois University Press, 2000.
Elsaesser, Thomas.
Harun Farocki: Working on the Sight-lines . Amsterdam: Amsterdam University Press, 2004.
Evans, Gary.
John Grierson and the National Film Board: The Politics of Wartime Propaganda.
Toronto: University of Toronto Press, 1984.
Feldman, Seth.
Allan King: Filmmaker.
Toronto: Toronto International Film Festival, 2002.
Ginsburg, Faye D., Lila Abu-Lughod, et al.
Media Worlds: Anthropology on New Terrain.
Berkeley: University of California Press, 2002.
Grant, Barry, and Jeannette Sloniowski.
Documenting the Documentary: Close Readings of Documentary Film and Video.
Detroit: Wayne State University Press, 1998.
Guynn, William.
A Cinema of Nonfiction.
Madison, NJ: Fairleigh Dickinson University
Hall, Jeanne. ''Realism as a style in cinema vérité: a critical analysis of
.’’
Cinema Journal
30, no. 4 (1991): 38-45.
Halleck, DeeDee.
Hand-held Visions: The Impossible Possibilities of Community Media.
New York: Fordham University Press, 2002.
Henaut, Dorothy. ''Video Stories from the Dawn of Time.’’
Visual Anthropology Review
7, no. 2 (1991): 85-101.
Hirsch, Marianne.
Family Frames:
Cambridge, MA: Harvard University Press, 1997.
Holmlund, Chris, and Cynthia Fuchs.
Between the Sheets, in the Streets: Queer, Lesbian, and Gay Documentary.
Minneapolis: University of Minnesota Press, 1997.
Izod, John, R. W. Kilborn, et al.
From Grierson to the Docu-soap: Breaking the Boundaries.
Hadleigh, Essex, UK: University of Luton Press, 2000.
Jacobs, Lewis.
The Documentary Tradition, from Nanook to Woodstock.
New York: Hopkinson and Blake, 1971.
Juhasz, Alexandra.
Women of Vision: Histories in Feminist Film and Video.
Minneapolis: University of Minnesota Press, 2001.
Juhasz, Alexandra, and Catherine Saalfield.
AIDS TV: Identity, Community, and Alternative Video.
Durham, NC: Duke University Press, 1995.
King, John.
Magical Reels: A History of Cinema in Latin America.
London: Verso, in association with the Latin American Bureau, 1990.
Klotman, Phyllis, and Janet Cutler.
Struggles for Representation: African American Documentary Film and Video.
Bloomington: Indiana University Press, 1999.
Leyda, Jay.
Films Beget Films.
New York: Hill and Wang, 1964. ---.
Kino: A History of the Russian and Soviet Film.
MacDonald, Scott.
The Garden in the Machine: A Field Guide to Independent Films about Place.
Berkeley: University of California Press, 2002. ---.
A Critical Cinema 4: Interviews with Independent Filmmakers.
Berkeley: University of California Press, 2005.
MacDougall, David, and Lucien Taylor.
Transcultural Cinema.
University Press, 1998.
Mamber, Stephen.
Cinema Verité in America: Studies in Uncontrolled Documentary.
Cambridge, MA: MIT Press, 1974.
Marx, Leo.
The Machine in the Garden: Technology and the Pastoral Ideal in America.
New York: Oxford University Press, 2000.
Matthieson, Donald. ''Persuasive History: A Critical Comparison of Television’s Victory at Sea and The World at War.’’
History Teacher
25, no. 2 (1992): 239-51.
McEnteer, James.
Shooting the Truth: The Rise of American Political Documentaries.
Westport, CT: Praeger Publishers, 2006.
McKibben, Bill.
The Age of Missing Information.
New York: Random House, 1992.
Michaels, Eric.
Bad Aboriginal Art: Tradition, Media, and Technological Horizons.
Minneapolis: University of Minnesota Press, 1994.
Mitman, Gregg.
Reel Nature: America’s Romance with Wildlife on Films.
Cambridge, MA: Harvard University Press, 1999.
Moran, James M.
There’s No Place like Home Video.
Minneapolis: University of Minnesota Press, 2002.
Nelson, Joyce.
The Colonized Eye: Rethinking the Grierson Legend.
Toronto: Between the Lines, 1988.
Nichols, Bill.
Representing Reality: Issues and Concepts in Documentary.
Bloomington: Indiana University Press, 1991. ---.
Blurred Boundaries: Questions of Meaning in Contemporary Culture.
Bloomington: Indiana University Press, 1994.
Nornes, Markus.
Japanese Documentary Film: The Meiji Era through Hiroshima.
Minneapolis: University of Minnesota Press, 2003.
O’Connell, P.J.
Robert Drew and the Development of Cinema Verité in America.
Carbondale, IL: Southern Illinois University Press, 1992.
Orbanz, Eve.
Journey to a Legend and Back.
Berlin: Verlag Volker Spiess, 1977.
Rabiger, Michael.
Directing the Documentary.
Boston: Focal Press, 2004.
Raphael, Chad.
Investigated Reporting: Muckrakers, Regulators, and the Struggle over Television Documentary.
Carbondale, IL: University of Illinois
Rees, A. L.
A History of Experimental Film and Video: From Canonical Avant-Garde to Contemporary British
London: BFI Publishing, 1999.
Reeves, Nicholas.
The Power of Film
London: Cassell, 1999.
Renov, Michael.
Theorizing Documentary.
London: Routledge, 1993. ---.
The Subject of Documentary.
Minneapolis: University of Minnesota Press, 2004.
Rich, B. Ruby.
Chick Flicks: Theories and Memories of the Feminist Film Movement.
Durham, NC: Duke University Press, 1998.
Roscoe, Jane, and Craig Hight.
Faking It: Mock-documentary and the Subversion of Factuality.
Manchester, UK: Manchester University Press, 2001.
Rosenthal, Alan.
New Challenges for Documentary.
Berkeley: University of California Press, 1988.
Rosteck, Thomas. ''See It Now’’ Confronts McCarthyism: Television Documentary and the Politics of Representation.
Tuscaloosa: University of Alabama Press, 1994.
Roth, Lorna.
Something New in the Air: The Story of First Peoples Television Broadcasting in Canada.
Montreal: McGill-Queen’s University Press, 2005.
Rotha, Paul.
Documentary Film: The Use of the Film Medium to Interpret Creatively and in Social Terms the Life of the People as It Exists in Reality.
New York: Hastings House, 1963.
Rotha, Paul, and Jay Ruby.
Robert J. Flaherty, a Biography.
Rothman, William.
Documentary Film Classics.
New York: Cambridge University Press, 1997.
Rouch, Jean, and Steven Feld.
Ciné-ethnography.
Minneapolis: University of Minnesota
Ruby, Jay.
Explorations of Film & Anthropology.
Chicago: University of Chicago Press, 2000.
Sato, Tadao.
Currents in Japanese Cinema: Essays.
Tokyo: Kodansha International, 1982.
Schoots, Hans.
Joris Ivens: Living Dangerously.
Amsterdam: Amsterdam University Press, 2000.
Stam, Robert.
Film Theory: An Introduction.
Oxford: Blackwell, 2000.
Sussex, Elizabeth.
The Rise and Fall of British Documentary: The Story of the Film Movement Founded by John Grierson.
Berkeley: University of California Press, 1975.
Vaughan, Dai.
For Documentary: Twelve Essays.
Berkeley: University of California Press, 1999.
Vertov, Dziga, and Annette Michelson.
Kino-eye: The Writings of Dziga Vertov.
Berkeley: University of California Press, 1984.
Video nas aldeias (Video in the Villages).
Um olhar indigena.
São Paulo: Banco do Brasil, 2004.
Charles Warren,
Beyond Document: Essays on Nonfiction Film.
Lebanon, NH: University Press of New England for Wesleyan University Press, 1996.
Waugh, Thomas. ''Show Us Life’’: Toward a History and Aesthetics of the Committed Documentary.
Lanham, MD: Scarecrow Press, 1984.
Wees, William C.
Light Moving in Time: Studies in the Visual Aesthetics of Avant-Garde Film.
Berkeley: University of California Press, 1992.
Welsh, James Michael.
A Guide to References and Resources.
Boston: G. K. Hall, 1986.
Winston, Brian.
Claiming the Real: The Griersonian Documentary and Its Legitimations.
London: British Film Institute, 1995.
Worth, Sol, and John Adair.
Through Navajo Eyes: An Exploration in Film Communication and Anthropology.
Albuquerque: University of New Mexico
Zimmermann, Patricia.
Reel Families: A Social History of Amateur Film.
Bloomington: Indiana University Press, 1995.
Shafi da ba'a sani ba