لا أبالي إزاء نفع الأقارب والأصهار، أجف النيل أم ذوت الثمار!
وعاد إسماعيل سري، فاتصل بخدمة الحكومة مهندسا صغيرا، وتدرج بكفايته في مناصب وزارة الأشغال حتى أصبح مفتشا لعموم المشروعات، ومن ذلك اليوم رنت الآفاق باسم إسماعيل بك سري في المهندسين العظام.
وفي الحق إن ما متع به كبد الصعيد «مديرية المنيا وطرفا أسيوط وبني سويف» من ري صيفي، فإقبال زرع، فسعة ثروة، إنما كان من صنعة إسماعيل سري، مهما عدوا على تلك «المشروعات» من العيوب.
وفي الحق أيضا إنه - بعد أن طويت من صحيفة وزارة الأشغال أسماء المهندسين المصريين حين أودى الردى بعلي باشا مبارك وإسماعيل باشا محمد وبهجت باشا وأشباههم من النواظير الأوالى - كان إسماعيل باشا سري أول من بعث على الألسن أسماء المصريين مع ديبوي ووليم جارستن وأكفائهما من المهندسين الإنجليز. •••
ولو قد ترك إسماعيل باشا سري في عمله الفني البحت لأجدى بعلمه على البلاد كثيرا، ولكن الرزية كلها في المناصب - وقاتل الله المناصب - فقد قلد الوزارة، والوزارة سياسة أكثر مما هي فن، والرجل لا يحذق السياسة ولا يفهم منها إلا القدر الذي يعصم عليه منصبه، ويستديم له أبهة الوزارة وما إليها من الراتب، والجدوى على الأولاد والأقارب.
ويبالغ صاحبنا في الإخلاص لهذا المعنى ويفرط في الحرص عليه إلى حد أن يسخر، إذا دعت الضرورة، كل ما أوتي من علم وفن لخدمة السياسة، ولو أودى في هذا السبيل بكل وادي النيل، حتى ظفر في عهد اللورد كتشنر - إن عد هذا من الظفر - بتلغراف تأييد من حكومة إنجلترا يضمن له السلامة «والنغنغة» في المنصب والجاه على طول الزمان!
وإني لأعرف طائفة من المصريين كانوا، ولعلهم ما زالوا، يراءون أهل السلطة من الإنجليز ويتجملون لهم ويظاهرونهم بالمودة والعطف استخراجا للمنافع، إذ قلوبهم لا تنطوي من ذاك على كثير. أما إسماعيل سري باشا فهو لا يماري القوم في هذا، ولا يرائيهم، فإنه مخلص الحب لهم، صادق الصبابة فيهم، يواليهم بالهوى في سره، كما يتشيع لهم في جهره. لا يتحرج في ذلك ولا يتأثم، والإخلاص - لو علمت - فنون! •••
ومن أظهر صفات هذا الرجل أنه وصول لرحمه، دائب جاهد في غير ملل ولا سأم على كل ما يعود بالخير على ولده وأصهاره وسائر عشيرته. ولو مد له في الحكم وبسط له في السلطان «لرفت» جميع موظفي الحكومة، وجمع إلى كل فتى من أهله 457 وظيفة في آن واحد، حتى يستطيع أن يقصر وظائف الدولة عليهم فلا يتولى واحدة منها خارج عنهم. وإن له في دسهم في الوظائف والقفز بهم إلى عليا المناصب لأحاديث تجمع وتنشر، وأفاكيه تروى وتؤثر. وحسبك أن تردد النظر في دواوين الحكومة وسائر مصالحها؛ لتقع في كل واد على أثر من ثعلبة. ولقد بدا يوما لبعض الحسدة أن يجمع ما يجبيه «آل سري» من أموال الدولة، فخرج له منها ما يقوم بنفقات مصلحة كاملة «وعين الحسود فيها عود» حصنت آل سري برب الفلق، من شر ما خلق، ومن شر غاسق إذا وقب، ومن شر النفاثات في العقد، ومن شر حاسد إذا حسد.
ومن طريف ما يروى له، وكل ما يروى له في هذا الباب طريف، أن وزيرا كان من زملائه له قريب في وزارة الأشغال، فسأله أن يرقيه إلى بعض مناصبها الخالية؛ لأنه قد «استحق الترقية» فتثاقل عنه سري باشا وتعذر عليه، وتوسط في الأمر بعض إخوانهما من الوزراء، فقال لهم معالي «وزير الأشغال»: ولماذا أرقي له قريبه وعنده قريبي «فلان» لا يرقيه! فقيل له: ولكنه لم يحن بعد أوان ترقيته؟ قال: إذن نتربص بقريبه حتى يجيء الدور على قريبي. وتعلم - أيدك الله - أن صاحب الحاجة أرعن، فبادر الوزير الآخر بترقية قريب سري باشا بالاستثناء في سبيل ترقية قريبه وهو بحكم الدور!
وجاءه مرة أحد زملائه الوزراء من هذا الباب، فسأله أن يرقي أحد صنائعه درجة على أن يرقي هو أحد أقرباء الباشا في ديوانه درجة، فدار بذهنه «الرياضي» الكبير في «الحسبة»، فرآها «تفرق» 240 قرشا في كل شهر، فتوقف أو يوفاها «على داير القرش»، وتعاصى الأمر، وتعذر الحل، وأخيرا، وبعد طول محادثات ومفاوضات، توسط أحد الوزراء أيضا في الأمر، على أن يزيد قريبا لسري باشا في وزارته هو مائتي قرش، على أن هذا كل ما تبلغه طاقته ويدخل في جهده، وذلك كله تفاديا من وقوع أزمة وزارية
Shafi da ba'a sani ba