23

ما صدق أولئك النفر من العلماء حين زعموا أن هناك تشابها بين النفس والجسم، وتشاكلا بين الروح والهيكل الذي يحتويه، وإلا كان الهلباوي هذا من أحلى الناس وجها وأبهاهم طلعة؛ فإنه ولا مرية من ألطف خلق الله نفسا وأخفهم روحا.

شيخ يتزاحف على السبعين إن لم يكن قد اقتحمها فعلا. لم توجه الطبيعة أية عناية في تكوينه إلى شكله ودله، فإذا أنت جلست إليه مع هذا خلبك بلطفه، وشعرت بأنه تسرب في كل نواحي قلبك حتى أصبح قطعة من نفسك. وإنه ليذكرك بخفة روحه التي تكاد تطير، أثناء حديثه، بأطراف جسمه - قول أبي تمام:

ماذا تقولين في شيخ فتى أبدا

وقد يكون شباب غير فتيان

وأنا إذا تحدثت عن الهلباوي أشعر ويشعر الناس معي، برغم أنفي وأنف غيري، أننا في رجل غير عادي، أو بعبارة أخرى: في رجل عبقري.

ولعله لم يفترق الناس في هوى امرئ - إذا استثنينا إسماعيل باشا صدقي - افتراقهم في الهلباوي، فقد عاش مدى عمره يحبه الناس أشد الحب، ويبغضه ناس أشد البغض، إلا أن هؤلاء وهؤلاء لا يسعهم جميعا إلا التسليم بأنه رجل عبقري، بل لعله لم يجتمع له في القلوب كل هذا الحب وكل هذا البغض، إلا لأنه رجل عبقري!

ثورة في هيكل رجل!

طويل القامة، عظيم الهامة، بائن الطول، مفتول العضل، شديد المنة،

1

قوي البنية. رأيته يخطب الناس عصر يوم قدم في صباحه من أعلى الصعيد. والهلباوي إذا خطب خطب بكله: بلسانه، وبعقله، وبنخاعه، وبعصبه، وبرأسه، وبيديه، وبرجليه أيضا! وله صياح يقد أصفق الحناجر. ثم تدلى عن المنبر بعد أربع ساعات كاملات في كل هذا البلاء وهو أشد وأفتى من أكثر من سمعوه إن لم يكن أفتى ممن سمعوه جميعا. وما شاء الله كان! ...

Shafi da ba'a sani ba