فأجابها متعجبا: إلى أين؟
قالت: إلى ظهر السفينة كما أخبرتك ... ألم أقل لك إني سأصعد إليه عند وصولها إلى مرسيليا ؟
أجاب: نعم قد تذكرت الآن أنك قلت ذلك القول، ولكنني لا أعده كافيا للمخاطرة بأرواحنا. فمن الجنون التعرض للأمواج التي تغطي ظهر السفينة الآن.
قالت: بل قم ولا تجادل! وتعال فبلل ثيابك معنا ولا تكن رديئا.
قال: ولكن قد تجرك الأمواج إلى البحر ...
فأمسكت ساعده وقالت: بل أنا أثبت قدمي على الأرض وأتشبث بذراعك فلا تخف علي، وهيا بنا.
فاتجه الثلاثة وهم يستندون إلى كل ما تقع عليه إيديهم كي لا يسقطوا، فلما بلغوا السطح رأوا مشهدا بديعا أنساهم ما كان محدقا بهم من خطر؛ فكانت السفينة تحاكي وقتئذ جوادا كريما منطلقا في ميدان ملؤه الغابات والأنهر، يثب وثبات هائلة، فيرتفع ثم يهبط حتى يظن أنه هوى إلى الحضيض، وبينما كان يقترب من الخليج ويوشك أن يدخله فيأمن شر ذلك النوء الشديد؛ وإذا بموجة عالية كالجبل جاءت وتكسرت على السفينة ففرشتها بالماء، ولم تبق على ظهرها شيئا، وإذ ذاك سمع «دراك» والعمة «باسيليك» صوت بوليت وقد جرفتها المياه إلى البحر، فبادر المسيو دراك، بعد أن خلع رداءه وبعض ملابسه، وانطرح على ظهر الباخرة وترك المياه تجره إلى البحر وهو يتذمر ويتململ غضبا، فلما ظهر بعد هنيهة على سطح الماء، أبصر قطعة من ثوب بوليت فسبح إليه، وأمكنه التوفيق من القبض على شعر الفتاة، إلا أنها تشبثت به في الحال شأن كل غريق، فقال: لئن لم أتخلص من قبضتها فلا يبعد أن نغرق معا، ولكن إذا تركتها فإن صورتها تلازمني في الليالي وتحرمني الرقاد؛ فإما أن أنجو وإياها وإما أن نغرق معا!
وأخذ يسبح بقوة والفتاة متشبثة به، ولحسن الحظ تنبه إليه النوتية، وطرحوا زورقا في الماء فانتشلوه والفتاة، وكان قد أغمي عليها، كما أغمي على عمتها لما رأتها وهي في تلك الحال.
ولما أفاقت المرأتان طلبت بوليت النزول إلى البر قائلة: إن والدي ينتظرانني ولا شك، وعسى أن لا يكونا قد شاهدا ما حدث لي: فارتبكت العمة ارتباكا شديدا ولم تدر ما تقول.
وفيما كانتا نازلتين على سلم الباخرة تلاقتا بالمسيو دراك، فتذكرت بوليت أنه أنقذها من الموت غرقا، فوثبت إلى صدره تشكره، فدفعها عنه بشيء من الخشونة السكسونية ليخفي انفعاله، وإن زعم أنه لا يفهم معنى هذا الانفعال، وقال لها: تنبهي إلى نفسك أيتها الآنسة؛ فهذه ثاني مرة تجعدين فيها ثيابي منذ حظيت بشرف صحبتك.
Shafi da ba'a sani ba