فما استطعنا أن نتكلم ونغالب الضحك، قلت: «هون عليك.. فإنى أعرف ماذا أقول.. ولكنى أرجو أن يكون ما حدث درسا لك».
فقال وفى عينيه نظرة خبيثة: «وأنا أرجو أن يكون ما حدث لكم درسا كذلك».
فقال خليل: «ماذا تعنى»؟
فقال أخى: «أعنى أنكم لو لم تكونوا عميا لعرفتم أن اليرقية ليست لكم.. للجار رقم 223، وقد تشابه الرقمان على الساعى واتفق أن اسم الجار خليل أيضا، واتفق أنكم عمى لا تبصرون. ولولا ذلك لقرأتم الرقم واسم الجار الذى أرسلت إليه البرقية.. هذا ما أعنى.. فقوموا كفروا عن سيئاتكم يا جهلة».
الفصل الثالث عشر
عقاب اللص
لست أخشى اللصوص.. فما معى ولا فى بيتى ما أخشى عليه الضياع وأتقى أن أمنى فيه بخسارة. ولو أن لصا كريما فيه مروءة دخل بيتى - أو حيث أقيم فما هو بيتى - وحمل ما فيه من متاع لحملته شكرى، ولبعثت بنسخة منه إلى الصحف.. فإن من اللؤم أن يقابل الإحسان بأقل من الشكر. فما أرى لى متاعا فى شىء مما حولى. وسبب آخر يجرؤنى على لقاء اللصوص وينفى عنى الخوف منهم ويجعلنى لا أتهيبهم، وذلك أنى كما تعلم - أو كما لا تعلم - ضامر ضاو، ظاهر الضآلة بادى الضعف. وأوجز تعريف بنفسى يحضرنى الآن، وهو أنى امرؤ فارغ الثياب.. وأحسب أن هذا تعريف شامل محيط جامع مانع، فإن لم يكن كذلك فأمهلونى، حتى يلهمنى الله ما هو أوفى. وأرجع إلى اللصوص فأقول إن الذى يجعل لقاءهم خطرا فى ساعات العمل هو أنهم يريدون التخلص مما وقعوا فيه اتقاء السجن وما فيه، والمفاجأة فى هذه الحالات تذهلهم وتطير صوابهم، فيحدث أن يضيفوا إلى جريمة السرقة جريمة أخرى هى الاعتداء على النفس.. أما إذا كان الذى يفاجئهم رجلا صغير الجسم مأمونا مثلى، لا خوف من قدرته على منع السارق من الفرار والنجاة.. فإن العدوان لا يخطر لهم على بال. وحسبهم أن يشدوا هذا المتطفل بحبل ويلقوه فى زاوية أو ركن، ويمضوا فى عملهم كأنما لم يعطلهم معطل. ومن هنا اطمئنانى، وهو اطمئنان لم يزعزع الثقة به إلى الآن مزعزع.
وقد اتفق لى أن كنت مرة فى الأقصر وكان الوقت شتاء، والأقصر تطيب فى هذا الوقت.. فنزلت بالفندق ومضى يوم أو يومان - فقد نسيت لطول العهد - وإذا بصديق من أغنياء الأقصر يقع على فى شرفة الفندق حيث يجلس أكثر النزلاء يشربون الشاى قبيل المغرب. وأقول يقع على - وأنا أعنى ما أقول - فقد كان ظهرى إليه وهو مقبل، ويظهر أن باله لم يكن إلى الأرض وهو سائر فاصطدمت رجله بساق الكرسى الذى كنت جالسا عليه فكاد يقع وارتمى فوقى - أعنى الصديق لا الكرسى - ثم شرع يعتذر وشرعت أنا أيضا أهز له رأسى إيذانا بقبول الاعتذار، فالتقت العيون وإذا به يكف عن الاعتذار ويصيح: «أوه.. أهو أنت»؟
كأنما هذا ينفى وجوب الاعتذار ويعفيه من تكاليفه ويجعلنى غير أهل له، فقلت له: «نعم، أنا أنا يا صاحبي» قال مستغربا: «وماذا جاء بك إلى هنا»؟
قلت: «قذفتنى موجة الحياة على هذا الساحل الذى لا أراه أرفق بى من اليم». قال: «آسف يا صاحبي..» فقلت مقاطعا: «لأن الحياة رمت بى على شاطئكم»؟
Shafi da ba'a sani ba