فزادت دهشتى، وقلت: «كلا بالطبع.. من قال لك أنى أصنع ذلك»؟
قال: «خفت أن تكون ممن يفعلون ذلك.. ليس أضر على المعدة منه..».
فسكت، فقد استطردنا إلى حديث لم يكن لى فى حساب، فعاد يقول: «كلا.. لا تفعل.. احذر..».
فقلت، وقد مللت: «ما الذى يجرى ببالك هذا السؤال»؟ قال: «إيه؟.. أى سؤال»؟ قلت: «المضغ والبلع، ولا أدرى ماذا أيضا». قال: «ألا تمضغ طعامك»؟ قلت: «بالطبع أمضغه.. لماذا تسأل»؟
قال: «خفت ألا تكون تمضغه.. لقد كان الطبيب يوصينى أن أمضغ اللقمة اثنتين وثلاثين مرة أو ثلاثا وثلاثين لا أدرى.. الزيادة احتياط ينفع ولا يضر.. هل تفعل ذلك»؟
فقلت لنفسى: إن النسيان فى ذاته وبمجرده ثقيل وبلاء عظيم، ولكنه يكون أعظم وأثقل إذا ألح على المصاب به خاطر واحد يحوم حوله العقل ولا يقع ولا يستقر، فأردت أن أصرفه عن ذلك، فسألته هل له فى كأس ثانية من الويسكى، وحدثت نفسى وأنا أسأله إن رؤيته مخمورا لا يكاد يعى ما يقول أفضل وأشبه بما ينبغى، وأقل استدعاء للعجب والاستغراب من تخليطه وهو مفيق صاح. ولكنه رد على سؤالى بسؤال أذهلنى، فقد قال مستغربا: «وهل شربت ويسكى»؟ ووجه العجب فى كلامه أنه لم يشعر بالتأثير المألوف للخمر، فكأنه لا يسكر لأنه ينسى أنه شرب شيئا. ويظهر أن نسيانه هذا يعفيه من تأثير الخمر وينجيه من إسكارها، وصار السؤال الذى يحيرنى هو: «إذا كانت الخمر لا تؤثر فى نفسه أو جسمه أو عقله، فلماذا يشربها»؟
وبدا لى أن خير ما أصنع هو أن أعود به إلى بيته، فاقترحت ذلك فوافق ونهضنا. وحملته فى السيارة إلى هناك.. ولم يكن ينسى أين يسكن، ولكن الموقع كان يغيب عنه أحيانا وتخونه ذاكرته فيقف حائرا لا يدرى ماذا يصنع حتى يتذكر أو يلقى من يعرف البيت فيسأله ويدله عليه أو يمضى به إليه.
وكانت بنته فى النافذة تنتظر أوبته وهى قلقة خائفة عليه.. فأسرعت إلى الباب تفتحه، وكانت ذكية فلم تعاتبه. وما جدوى عتاب من لا يتذكر شيئا؟ ودخل غرفته ونسينى مع فتاته.
وقالت لى: «ماذا حدث؟.. لا تدعنى معلقة.. طمئنى» قلت: «كل خير..» وشرعت أصف لها ما وقع منه وأقلده وهو ينظر إلى الرجل الأكول المبطان الذى يعظم اللقم ويبلعها بلا مضغ، وقلت لها بعد ذلك: «إنى أحسد أباك فما أشك فى أنه قد نسى كل ما يجب أن ينساه المرء من متاعب الحياة ومنغصاتها لو كان إلى هذا سبيل غير الذهول».
قالت: «إنى أخشى أن ينسى اسمه فلا يعود يعرف من هو، ألا تكون هذه مصيبة»؟ قلت: «يا فتاتى إنه ليس أحمق ولا أقل عقلا ممن يحمل هم المصيبة قبل نزولها.. دعى هذا إلى أوانه وعسى ألا يجىء. ومع ذلك هل أنت واثقة أنه يعرف اسمه؟ من يدرى؟ أمن أجل أنا لا نسأله عنه يكون عارفا»؟ قالت: «لا تفزعنى». قلت: «إنما أردت أن أبين لك أن ما تخافين، لو وقع لما كان شرا فى الحقيقة أو أدهى مما هو حاصل الآن، فلا تزعجى نفسك بلا موجب. وعسى ألا يكون إلا كل خير.. والآن فلنتكلم عن شىء آخر.. شىء أحلى من أبيك وإن كان يكفيه من الحلاوة أنه كان له هذا الفضل العظيم على الدنيا التى تجملينها يا فتاتى».
Shafi da ba'a sani ba