وكانت الحفلة فى فندق من أكبر فنادق المدينة وفى أوسع قاعاتها، وقد دعى إليها - أو على الأصح اشترك فيها - نحو مائتين من رجال الأدب والعلم والصحافة والحكم والوجاهة. وكان أكثرهم قد بكر وجاء قبل الموعد.. وجاء غير المدعوين - أو المشتركين - كثيرون، وقفوا بحيث يرون الداخلين، واحتشد جمهور غفير على الرصيف ليروا هذا الأديب الذى بعث بعد أربعين سنة، والذى دأبت الصحف عدة أيام متوالية على الكتابة عنه. واستعد المصورون لاستقباله وتصويره فى القاعة الكبرى بآلاتهم ومصابيحهم القوية.
ثم أقبل أحد الشبان يعدو، وقال: «جاء الأستاذ»، فساد السكون وانقطع حتى الهمس وتعلقت الأنفاس واشرأبت الأعناق، واتجهت العيون إلى الباب لرؤية هذا الذى كأنما قام من القبر. ودخل الأستاذ فى الثياب التى أبى سواها، وقد أخذ بذراعيه جميل بك وسعيد أفندى، وأقبل ابنه وراءهم. ولكن الناس لم يعيروا الابن أدنى التفات وإنما كانت عيونهم على هذا الرجل الهرم ذى الثياب العتيقة واللحية البيضاء والجبين المقطب والعين الثابتة اللماعة وإن كانت لا ترى إلا قليلا. وكان قد ثقل عليه ما رأى من ابنه، فآلى ليرجعن إلى غرفته. وعرض جميل بك المدعوين على الأستاذ بأسمائهم، فصافحوه واحدا بعد واحد حتى كاد ينخلع ذراعه وإن كانوا جميعا قد ترفقوا به وحرصوا على الاكتفاء بلمس راحته. ولم يبد عليهم ما خشيه ابنه من الاشمئزاز أو الاستخفاف، حين تقع عيونهم على ما هو فيه من الهلاهيل.
وأديرت ألوان الطعام، فكان الأستاذ يسأل عما يعرض عليه، ما اسمه؟ وكيف يصنع؟ ولا يتناول إلا بقدر. وكان المدعوون فى أول الأمر يحدجونه بعيونهم، ولكنهم ما لبثوا أن انصرفوا إلى الطعام والحديث. ولكل شىء آخر - انتهى الأكل وبدأت الخطب والقصائد والأستاذ مطرق كأنه يصغى، وكان يهز رأسه من حين إلى حين كمن سره شىء - أو ما يسمع.
وانتهى هذا أيضا على طوله ، فهمس جميل بك فى أذن الأستاذ: «ألا تحب أن تتفضل بكلمة ترد بها عليهم»؟
فقال الأستاذ مستغربا: «أنا؟.. أقول كلمة؟.. أرد على ماذا؟ الحقيقة أنى لم أكن مصغيا.. لم أكن مصغيا.. لم يكن بالى إليهم».
فذعر جميل بك - فما كان يتوقع هذا - وقال: «ولكن يا أستاذ. لابد من كلمة.. لا نستطيع أن نقول لهم إنك لم تكن مصغيا إلى كلامهم.. أرجو يا أستاذ.. كلمة شكر قصيرة.. القليل منك كثير».
فهز الأستاذ كتفيه، وقال: «إن هذا غريب! لقد كنت أفكر فى ليلة قضيتها فى كهف..».
فقال جميل بك مقاطعا: «فيما بعد الحفلة نسمع ماكنت تفكر فيه.. لابد أنه كان شيئا غريبا.. ولكن الآن.. أرجو يا أستاذ».
فالتفت إليه، وقال: «ماذا قلت إنهم كانوا يقولون؟ إنى لم أكن مصغيا».
فقال جميل بك: «كانوا يثنون عليك ويمدحونك ويذكرون كتبك العديدة ويصفون ما فيها.. كلام كثير يصعب أن ألخصه لك الآن. أنا أيضا قلت كلمة ولكنك لم تسمع مع الأسف.. نهايته.. لابد من الرد، فاصنع معروفا».
Shafi da ba'a sani ba