A Kan Sabunta Al'adun Larabawa
في تحديث الثقافة العربية
Nau'ikan
ذلك هو «العالم» عند أصحاب الإجابة الثانية، وأما «الفكر» فليس سوى العبارة اللغوية التي تشير بها إلى واقعة معينة من وقائع العالم، وهذا يقتضي: أولا أنه لا معنى لقول قائل إن لديه فكرة في ذهنه ولكنه عاجز عن التعبير عنها بألفاظ توضحها؛ وذلك لأن ما ليس يخرج للناس في لغة يسقط عندهم من حساب الأفكار، وثانيا أن العبارة اللغوية التي لا تجد لها واقعة من وقائع هذه الدنيا، بحيث يكون هنالك التماثل الكامل بين تركيبها اللفظي من جهة، وبين تركيب الواقعة المشار إليها من جهة أخرى، تعد قولا بغير معنى؛ تانك - إذن - إجابتان مما أجاب به رجال الفكر في عصرنا، حين عرضت لهم مشكلة «اللغة» ومتى تعني شيئا، وكيف تعنيه، كانت الإجابة الأولى تذهب بنا إلى أن الإنسان إنما هو حبيس لغته التي صنعها، فهو يظل يدور في سجنها متوهما بأنه يخترقها إلى حيث حقائق العالم، وكانت الإجابة الثانية على غير ذلك، فهي اعترفت بأن الإنسان على صلة بالعالم عن طريق لغته، شريطة أن يجيء استخدام اللغة مقيدا بقيود، وبعد ذلك تأتي إجابة ثالثة، لعلنا أشرنا إليها عرضا فيما أسلفناه، وهي أن حقيقة الإنسان التي يعتد بها، ألا وهي حياته الوجدانية، بل حياته الإدراكية التي تقع فيها المدركات على حواسه وقوعا مباشرا، كالذوق والشم، لا تستطيع اللغة أن تنقل إلى الآخرين شيئا منها ، إلا على سبيل التقريب والإيحاء.
ونعود بعد هذا العرض لأهم تيارات الفكر المعاصر، عن مدى قدرة اللغة التي يتبادل بها الناس أفكارهم ومشاعرهم، مدى قدرتها على نقل ما يراد منها نقله، من متكلم إلى سامع، أو من كاتب إلى قارئ، ودع عنك أن يكون الكاتب من أبناء عصر مضى منذ مئات السنين أو آلافها، وأن يكون القارئ من أبناء هذا العصر، أقول: نعود بعد هذا العرض، إلى ما بدأنا به حديثنا هذا، عندما أشرنا إلى مفارقة عجيبة تلفت النظر، وهي أنه بينما هو عصر تتدفق فيه الكلمات كالشلالات الهادرة، من وسائل الإعلام والإعلان، وفي أنهر الصحف، وعلى صفحات الكتب، تتدفق الكلمات ملايين ملايين، من أفواه الخطباء في المحافل الدولية والمحلية، وفي أحاديث الناس التي يلقونها في الهواء، أو يسجلونها على أشرطة. نعم إنه بينما هو عصر لم تشهد الدنيا عصرا قبله يشبهه أو يقترب منه في كثرة مطبوعاته بسبب الأجهزة الكثيرة التي تساعد على الطبع والنشر، نجد من رجال الفكر فيه من يدعو إلى وجوب «الصمت» كلما وجد المتكلم أو الكاتب أن اللغة عاجزة عن التوصيل! وإنها لعاجزة بالفعل عن التوصيل في حالات كثيرة، كما يتضح ذلك من الإجابات الثلاث التي أوردناها فيما أسلفناه، وهي إجابات اختلف بها أصحاب الفكر في عصرنا، عندما طرحوا على أنفسهم سؤالا عن العلاقة بين اللغة ودنيا الأحياء والأشياء، ولم تقتصر الدعوة إلى وجوب الصمت كلما عجزت اللغة، على المتصوفة كما كانت الحال في العصور الماضية، بل امتدت فشملت بعض فلاسفة العلم، فعندهم أنه إما قول علمي نقوله فيعلم الناس به ماذا يفعلون بناء عليه، وإما الصمت عن الكلام، وهو قول قريب المعنى مما كان «هيوم» في القرن الثامن عشر قد قاله ليميز به ماله معنى مما ليس له معنى من الكلام؛ إذ قال ما معناه: خذ الكتب الموجودة كتابا كتابا، واسأل نفسك عن كل كتاب: أهو في شيء من علوم الطبيعة؟ وإذا كان الجواب بالنفي، فاسأل: وهل هو في شيء من علوم الرياضة؟ وإذا كان الجواب بالنفي مرة أخرى، فألق به في النار. وفي عصرنا أصدر فتجنشتين كتابه المركز العسير، «رسالة منطقية فلسفية» وترجمه إلى العربية صديقي الأستاذ الدكتور عزمي إسلام، يحدد فيه تحديدا قاطعا متى يكون للكلام معنى، وليعلم القارئ أن الرأي يكاد يجمع على أن فتجنشتين هذا قد جاء في عصرنا فاتحة لفكر جديد يلائم عصر العلم، ولقد جعل آخر سطر في كتابه ذاك يقول ما معناه: «حيثما عجزت عن الكلام، وجب عليك الصمت.» مريدا بذلك أن يقول: إنه إذا لم تكن عبارتك مشيرة إلى شيء من واقع العالم الخارجي؛ فخير لك وللناس أن تسكت، لأن ما تقوله في مثل هذه الحالة، هو خال من «المعنى» (إذ معنى الجملة المعينة هو الواقعة التي تشير إليها تلك الجملة)، بل لا ينتهي الضرر عند خلو كلامك من المعنى، وإنما يجاوزه ليصبح مصدر تضليل للناس، حين يظنون قيام المعاني وهي غير قائمة.
وإذا نحن نظرنا إلى الحياة الفكرية في الوطن العربي اليوم، باحثين فيه عن علة تخلفه؛ فربما وجدنا تلك العلة في حقيقة أن الفكر العربي كما نراه الآن، إنما يندرج معظمه - وأوشكت أن أقول يندرج جميعه - تحت وجهة النظر الأولى بين وجهات النظر الثلاث التي أوردناها، فوجهة النظر الأولى عندما أراد أصحابها أن يحللوا العلاقة بين «اللغة» التي تجري بها أقلام المفكرين، وبين عالم «الواقع» تقول إن تلك العلاقة مبتورة أو تكاد، لأن هؤلاء المفكرين يدورون في دوامة الكلمات، لا يخترقونها إلى مواقف الحياة الفعلية كما هي واقعة في الشارع والبيت والمصنع والحقل ودواوين الحكومة، فهم يعارضون فكرة بفكرة، أو يردون فكرة إلى فكرة، أو يرجعون بفكرة إلى مصدرها من الكتاب أو الكتب التي وردت فيها، وهكذا وهكذا؛ ما يجعل رجل الفكر يعطي حياته متنقلا من ورقة إلى كتاب، ثم إلى شيء يكتبه أو يذيعه في الناس، فهو كمن يحيا في بيت من ورق، ولذلك فهو لا يحس الحياة الخارجية، أو ظواهر الكون، إلا عن طريق كلمات مسطورة ، فإذا كانت تلك الكلمات قد كتبها في الأصل من عركوا الحياة وتأملوا ظواهر الكون؛ كان الفكر العربي اليوم يقتات من موائد من حملوا عنه مشقة الخوض في عباب الأحداث والظواهر، فلا هو مبدع فيما يكتبه، مقيما إياه على أساس الخبرة الحية، ولا هو أخلص لنفسه بحيث أرغم نفسه على الصمت حين لم يجد في خبرته المباشرة ما يقوله للناس.
ومأساة المآسي في حياتنا الفكرية، أننا نتصدى لمن يدعو إلى وجوب أن يكون لكلامنا «معنى» حين يجيء هذا الكلام في دائرة عن واقع الحياة والعالم. وقد أشرنا إلى أن المعنى يتحقق للكلام حين يشير إلى وقائع قائمة أو ممكنة الوقوع، ولست أريد بهذا أن أقول إن «كل» كلام ذي قيمة يجب أن يكون من هذا الطراز، كلا، وألف مرة كلا، فلا يقول قولا كهذا إلا مجنون، بل إن ذلك الشرط مشروط فقط، عندما يكون زعم القائل، وتوقع المتلقي لقوله، مؤسسين على أن القول يتصل بما هو واقع، ولكن هنالك إلى جانب هذا الضرب من الكلام العلمي، أو ما هو جار مجرى الكلام العلمي؛ ضروبا أخرى من القول لها طبائعها المختلفة ومعاييرها المختلفة. ويكفي أن أسوق الشعر مثلا، علما بأن الشعر الجيد، بطريقته الخاصة في استخدام اللغة، إنما هو الذي يرتفع باللغة إلى ذروة عبقريتها - كما شرحنا ذلك في موضع سابق - لأن الاستخدام «العلمي للفظ» يجرده من كل شحنته حتى لا يبقى منه إلا «رمز» يشير إلى معنى مقصود، في حين أن الشعر يفعل نقيض ذلك، فهو بغض النظر عن الوظيفة الإشارية، فقد تقوم أو لا تقوم، ولكنه يحيي من اللفظ مكنوناته الوجدانية التي حصلتها خبرات الإنسان من معاناته الحية على امتداد السنين ... نريد أن نقول: إنه إذا عجز المتحدث عن حياة الناس الواقعة أن يقول كلاما ذا معنى؛ فللصمت بلاغته.
الفكر الإسلامي وآفاقه الجديدة
أبدأ الطريق من بدايتها، وأسأل: متى يكون الفكر فكرا أصيلا؟ ثم متى يكون هذا الفكر فكرا إسلاميا؟ وأجيب في إيجاز فأقول: إنه لا «فكر» إلا أن تكون هناك «مشكلة» حقيقية اعترضت السائر في سبيله، فأوجبت عليه أن يجد لها حلا، ليتسنى له استئناف السير؛ فليس «الفكر» الأصيل، إذا استحق هذا الاسم، ترفا يلهو به الإنسان تسرية عن همومه العابرة، أو إزجاء لفراغ ثقل على نفسه؛ كلا، ولا هو فاعلية يبعثرها مع الهباء لا يبالي أن تجيء له تلك الفاعلية بحاصل نافع أو لا تجيء بشيء؛ فما أكثر الذين يحيون حياة شبيهة بالحياة الفكرية في ظاهرها؛ لأنها حياة تنقضي بين الكتب والدفاتر، وتمتلئ بأفكار تحفظ لتروى كلما حانت لهم فرصة لروايتها، لكن حياة كهذه إن تكن في أغلب حالاتها وسيلة شريفة من وسائل كسب الرزق، أو المنصب، أو الشهرة وقوة الجاه؛ إلا أنها حياة قلما يفتح لها التاريخ صفحاته، لأنها - في الأغلب - تمضي وكأنها لم تكن؛ لأن الإنسان لا يتقدم بها وقد يتأخر.
وفوق هذه الدرجة تأتي درجة أعلى منها، لكنها - مع ذلك - لا تعلو حتى تبلغ أن تكون «فكرا أصيلا»، وتلك هي المرحلة التي تنصب فيها فاعلية العقل بفكر على فكر؛ بمعنى أن يقف المفكر من مفكر آخر موقف الشارح، أو المؤرخ، أو المؤيد، أو المعارض، أو غير ذلك من سائر الحالات، التي ينحصر فيها الفكر في حدود فكر قائم. نعم، إنها ضرب من النشاط العقلي الذي قد لا يكون لنا عنه غنى؛ إذ هو المجال الذي يجول فيه «العلماء» و«المعلمون» و«المتعلمون»، لكنه رغم ضرورته العلمية والتعليمية؛ لا يرقى إلى منزلة الفكر الأصيل، الذي يتصدى «للمشكلات» التي تنشأ على أرض الواقع الفعلي في حياة الناس، عصرا بعد عصر، وكدت أقول يوما بعد يوم. وإن هذه المشكلات الحية التي تلح على من استشكلت عليه أن يجد لها حلا؛ لتتعدد بتعدد المواقف وأصحابها من أفراد الناس، وهي من صنوف تكاد تستعصي على الحصر والعدد، ومع ذلك فيمكن - بل لا بد لنا - أن نصنفها في مجموعات متجانسة، هي التي تكون عندئذ «قضايا» العصر المعين، التي تتحدى العقل، فيظهر لها من القادرين رجال يتناولونها بفكر يذيب عقدتها، وينتهي بها إلى حلول تفض عنها مواضع إشكالها . ومن تلك المشكلات ما يغلب عليه الجانب العملي، ومنها ما يغلب عليه الجانب النظري، إلا أن الصنفين معا يجتمعان في حياة الناس الفعلية على المدى القريب أو المدى البعيد.
وواضح أن مثل هذا الفكر يكون «إسلاميا» أو لا يكون، بمقدار ما تكون المشكلة المعروضة موصولة «بالإسلام» عقيدة وشريعة، ولا أقول موصولة «بالمسلمين»؛ لأن حياة الإنسان كائنة ما كانت ديانته أوسع من تلك الديانة، فله معدة تهضم الطعام، ورئتان تتنفسان، وله بيوت يبنيها وشوارع يرصفها، وجسور يقيمها، وغير ذلك من جوانب حياته، التي هي جوانب «محايدة» بالنسبة إلى المعتقدات الدينية، اللهم إلا في بعض تفصيلاتها: كأن يحرم على الإنسان وضع طعام محظور في معدته، لكن ذلك لا ينفي القول في جملته أن الفكر الإسلامي إذا وجدناه يستمد إسلاميته من كونه يعالج مشكلات تبعث من أصول العقيدة وتشريعها؛ فإن التفرقة تظل قائمة، بين مفكر «أصيل» يتصدى للمشكلات الحية ذاتها، ومفكر «تابع» يجري فكره على فكر أصيل، حافظا نصوصا، أو شارحا لها، أو باحثا في محتواها، أو معلما لها في عملية من عمليات التعليم.
ونسوق أمثلة نوضح بها طبيعة الفكر الإسلامي الأصيل؛ وهي أمثلة نستمدها من الحياة الفكرية عند المسلمين الأوائل، في أول خطوة لتلك الحياة على طريقها الطويل: ومن تلك الأمثلة يتبين لنا، كيف ينبع الفكر الأصيل من مشكلات حقيقية تنبض بالحياة، فلا هي متكلفة ولا متصنعة، ولا هي منقولة عن آخرين، بحيث نرى عقدتها قد استعصت على أصحابها الأصليين، فنقلها بعد ذلك من نقلها؛ لا لأنها متصلة بمواقف أشكلت عليه، بل لأنه يدرس جانبا من «تاريخ» السابقين، وهي دراسة لا نشك في ضرورتها وأهميتها، لكنها ليست من جنس الموقف الأصيل، الذي تصدى فيها الفكر لمشكلة حية تخز جلود الناس بشوكها؛ فعندما نشب قتال حول الخلافة، بين «علي» - كرم الله وجهه - و«معاوية» - رضي الله عنه - ووقعت في سبيل ذلك موقعة «الجمل» وموقعة «صفين»؛ سفكت دماء غزيرة من دماء المسلمين من الجانبين، فمن هذا الموقف النابض بالحياة، تحركت الضمائر لتسأل سؤالا نابعا من صميم ذلك الواقع، ومتصلا بأوثق صلة بالعقيدة وشريعتها؛ وذلك السؤال هو: على من تقع التبعة في تلك الدماء الطاهرة التي سفحتها سيوف المتقاتلين وقسيهم ورماحهم؟ وإذا استطعنا تحديد التبعة ومن يحمل عبئها، فماذا يكون حكم الإسلام فيه؟ لقد كان الناس أمام فريقين من المسلمين يتقاتلان؛ ومحال أن يكون كلاهما على صواب، وإلا لما تقاتلا، فلا بد أن يكون أحد الفريقين - على الأقل - على خطأ في هذا القتال، وإذا عرفناه فقد عرفنا من كان سببا في قتل المسلمين؛ فماذا يكون حكم الإسلام في مثل هذا الذنب الذي هو من كبائر الذنوب؟ وهنا ذهب بعضهم بهذا السؤال إلى الحسن البصري وهو في حلقة الدرس مع الدارسين، وألقوا بسؤالهم، فما هو إلا أن نطق «واصل بن عطاء» بالجواب الذي ارتآه، وهو أن من تقع عليه التبعة في ذلك القتال، لا هو مسلم خالص، ولا هو كافر خالص، وإنما هو مسلم عاص وهي منزلة تقع بين المنزلتين، فلما لم يقع هذا الرأي موقع الرضا من الحسن البصري ونفر من الحاضرين؛ انتحى واصل بن عطاء ناحية أخرى من المسجد، وتبعه بعض الدارسين، فقال الحسن البصري قولته المعروفة: «قد اعتزل عنا واصل.» وبهذا أطلق اسم «المعتزلة» على تيار فكري إسلامي كان له قدره العظيم في تاريخ الفكر الإسلامي، فانظر إلى «الفكر الأصيل» كيف ينشأ؛ فهنالك المشكلة الحقيقية الني نبتت من أرض الواقع الفعلي، وهنالك القلق الذي تتأرق به الضمائر حتى تجد الحل الذي يزيح العبء عن الصدور، وهنالك الفكر ينفذ بشعاعه في قلب المشكلة؛ ليجد الحل الذي يعيد الطمأنينة إلى النفوس القلقة، ولكي يزداد الوضوح وضوحا؛ فلنقارن وقفة واصل بن عطاء، وهو يعمل الفكر ليجد الحل في مشكلة قائمة وحادة وشائكة، بنا نحن اليوم، حين ندرس ما قاله واصل؛ فنحن في هذه الحالة لا نفكر، بل نقتات على فكر وجدناه ودرسناه.
وإذا قرأت عن الحياة الفكرية في البصرة إبان القرن الثاني الهجري؛ لرأيت صورة رائعة للفكر الإسلامي الأصيل، بالمعنى الذي حددناه لهذه العبارة فيما أسلفنا ، ولست أريد بهذا أن أصفه بالصواب أو بالخطأ؛ إذ هو صراع بين وجهات نظر متضادة، فإذا صدقت واحدة منها؛ كان لا بد لضدها أن يكون على غير الصواب، وإنما أردت القول بأن الصورة التي تشهدها توضح لك كيف ومتى نقول عن فكر إنه أصيل، ونقول عنه فوق ذلك إنه فكر إسلامي، لارتباطه بالعقيدة وشريعتها، رغم ما تصطرع به الآراء في ذلك؛ ففي مدينة البصرة إبان القرن الثاني، نرى كيف يتشعب الفكر أحزابا حول الموضوع الواحد، وكانت خلافة علي لم تزل هي رأس الموضوع. ثم كان الرأي الذي أدلى به واصل بن عطاء في من تقع عليه تبعة الدماء التي أهدرت في موقعتي «الجمل» و«صفين» ماثلا أمام الأذهان، بين القبول والرفض؛ فهنالك حزب أطلقوا عليه اسم «العثمانية» انتسابا للخليفة عثمان بن عفان، وتأييدا لوجهة النظر التي تدين عليا - كرم الله وجهه - في أنه تساهل عامدا في البحث عن قتلة عثمان، وقام ضد ذلك الحزب العثماني حزب آخر، يشايع عليا ويؤيده، ثم إلى جانب هذا وذاك، قام حزب ثالث محايد تميز أفراده بالزهد، وهو حزب الخوارج، الذي خرج على الناس برأي سياسي في شروط الصلاحية للخلافة، وفي حق المسلم في أن يخرج على الحاكم إذا أخطأ. وإلى جانب تلك الأحزاب الثلاثة، التي يمكن اعتبارها سياسية فيما أثار همها واهتمامها، رأينا فرقة «المعتزلة» تعلن عن رأيها في حرية الإرادة التي على أساسها يصبح الإنسان مسئولا عما يفعل؛ فتقاومها فرقة «الجهمية» (سميت باسم زعيمها جهم بن صفوان) وهي جماعة أنكرت على الإنسان تلك الحرية في إرادته إنكارا تاما؛ لأنه مجبر بمشيئة الله في كل ما يفعل، ولا اختيار له في شيء.
Shafi da ba'a sani ba