A Kan Sabunta Al'adun Larabawa
في تحديث الثقافة العربية
Nau'ikan
كان ما ساعد الثقافة العربية في عهدها السابق، على أن يكتب الكاتب شيئا ثم بعد ذلك يحيا شيئا آخر، يبعد كثيرا أو قليلا عن الصورة المكتوبة (أو المنطوقة) دون أن يأخذه القلق من المفارقة بين الموقفين؛ هو أن تلك الثقافة في صورها التعبيرية، لم تلجأ إلى الأجناس الأدبية التي من شأنها أن تصور الإنسان على حقيقته وعلى دوافع طبيعية، كأدب الرواية وأدب المسرح (بالمعنى الذي يفهم به اليوم ذلك الأدب)؛ فهاتان الصورتان من الإبداع الأدبي لا تتحرجان من تصوير الإنسان كما هو، كمالا ونقصا، وعظمة وخسة، فإذا انحرف الأديب عن صدق التصوير، لم يفلت من النقاد. وأما في التقليد العربي المراعى في أدب «الحكايات» (وهي مختلفة عن أدب الرواية والقصة بالمعاني المألوفة اليوم) مثل حكايات ألف ليلة وليلة؛ فقد روعي ألا تنتهي الحكاية إلا بعد أن يجد المستقيم في أخلاقه ثواب ما استقام، وأن يلقى المنحرف عقاب ما انحرف، بغض النظر عن حقيقة الحياة العملية في ثوابها وعقابها. ولقد حدث لي يوما ما أن شاركت في لجنة رسمية تنظر في شئون الأدب، فسمعت عضوا فاضلا يبدي رأيه في وجوب أن تراعى القيم الدينية في كل أدب ينتجه أديب، فتوجهت إليه أطلب الشرح لأستنير، وسألته: افرض أن روائيا مثل أديبنا نجيب محفوظ يصور لنا حياة الناس في حارة قاهرية من حواريه، وكان بين هؤلاء الناس سكير، أو لص يقطع على المارة طريقهم، فما الذي تقترحه عليه في هذه الحالة؟ أتقترح أن يسقط من حسابه كل من انحرف عن الخلق القويم فلا يمتد إليه بقلمه أم تقترح عليه أن يتناول هؤلاء على أن يؤدبهم علنا صونا لأخلاق القراء حتى لا يتأثروا بمن انحرف؟ ولست أذكر بدقة ماذا كان جواب العضو الفاضل، لكنني أذكر جيدا أن فجوة كانت هناك، تباعد رؤيته إلى الأدب عن رؤيتي، فبينما رأيت في الأدب كشفا عن طبائع الناس كما هي واقعة؛ رأى سيادته في الأدب تعليما وتقويما، أو بعبارة أخرى، لقد رأيت أن يربط الأدب «بالواقع»، ورأى هو أن يعلو الأدب بعرض المثل.
إن الأدب العربي كما هو قائم بيننا الآن: قد خطا - بغير شك - خطوات بعيدة على الطريق الصحيح، وذلك بفضل لجوئه إلى الأشكال الأدبية الجديدة، والمأخوذة عن الغرب، كالرواية، والقصة، والمسرحية، فهذه كلها أشكال لا يدري الكاتب كيف يقيمها، دون أن تكون مادته الخاصة أفرادا بتفرد شخصياتهم، ومواقف بتفرد عناصرها؛ أعني أنها أشكال تلزم الأديب إلزاما، بأن يعرض نماذجه البشرية والواقعية؛ بحسناتها وسيئاتها، لكن الأمر لا يخلو، لا، بل إنه ليزدحم بأمثلة تبين كم يحن أديبنا الجديد إلى تقاليد كانت مقبولة إلى حد ما في الشعر كما كان وفي النثر كما كان، لكنها لم تعد مقبولة في الأشكال الأدبية الجديدة التي اصطنعناها؛ وذلك أننا كثيرا جدا ما نجد أديب الرواية وأديب المسرحية يشيع في الرواية أو في المسرحية تبشيرا سياسيا، أو دينيا أو قوميا، وكأن الذي يكتبه هو من قبيل «المنشورات» الدعائية، فيحكم ذلك على أدبه بالسقوط. نعم، إن للأديب مذهبه وعقيدته الدينية، ووطنه، وهنالك الوسائل لعرضها بكل ما أراد من إخلاص وقوة، كوسيلة «المقالة» السردية (وهي شيء غير المقالة الأدبية)، أما إذا تصدى للأدب في أي شكل من أشكاله؛ تحتم عليه أن يتنصل من مذهبه، وعقيدته، ووطنيته، ليفرغ إلى شيء واحد، هو دراسة الإنسان على طبيعته وحقيقته، كما يظهر في تفاعلاته مع الأشخاص الآخرين، ومع المواقف التي يقف إزاءها وهو على طريق الحياة، فيما يرسمه من حياة في روايته أو مسرحيته. وحقا قد وفق كثيرون من أدبائنا اليوم في بلوغ التصور الأدبي الصحيح، سواء من أجاد التحليل والتصوير بعد ذلك، ومن قصرت به موهبته دون إدراك المدى. ولا أريد أن أترك هذا السياق، دون أن أثبت الرأي ذاته في شعر شعرائنا اليوم، فلقد وقعوا كذلك في إدراك الهدف الصحيح، وهو أن يكون الأدب تصويرا للواقع لا تبشيرا بالمثال، إلا أنهم كذلك كان منهم من وفق إلى الشكل الصحيح مع الهدف الصحيح، ومنهم من قصر دون ذلك.
وما الذي يدعو ثقافتنا بكل أشكالها إلى النفور من «الواقع» والجنوح نحو «المثال»؟ أهو السبب نفسه الذي تأثر به العربي القديم؟ وأعني به تأثره بالصحراء في طلاقتها ولا نهائيتها، أم هو سبب آخر استحدث له مع الزمن؟ وإنني لا أميل إلى إلقاء التبعة على قوة السلطان من جهة، وضغط الرأي العام من جهة أخرى، وعلى أي الحالتين، فهو «الخوف» ومعه «الطمع» اللذان يفعلان في نفوس الأدباء فعلهما؛ فيصوروا في أدبهم ما لا يرونه، لا في حياتهم هم، ولا في حياة الناس؛ فأما الخوف من الأذى فيأتي من ذوي سلطان أو من غضبة الرأي العام، والرأي العام في ذلك أعنف وأشد تأثيرا؛ فلئن كان ذوو السلطان حريصين على مذاهب سياسية بعينها، يريدون لها الظهور علانية فيما تكتبه الأقلام؛ فإن الرأي العام يريد أن يرى التقليد الأدبي قائما من حيث الإشادة بالمثال في كماله، وغض النظر عن الواقع في نقصه. ولما كانت قوة المذاهب السياسية تظهر وتختفي، في حين أن التقليد الأدبي راسخ بطيء الزوال؛ كانت غضبة الرأي العام أقسى على الأديب وأفعل، وحتى أعلامنا الكبار في الجيل الماضي وفي هذا الجيل الحاضر؛ قد يأخذهم الإخلاص للإبداع الأدبي، فيلتزمون واقع الحياة كلها في الجنس الأدبي الذي يكتب فيه، ولكنهم في كثير من الحالات «طمعوا» في رضا الرأي العام، بالإضافة إلى ما كان يساورهم من «خوف»؛ فأداروا ظهورهم لما بدءوا به، وتفرغوا للأداء الأدبي على صورة تزيل عنهم ذلك الخوف، وتحقق لهم عند عامة الجمهور «حسن السير والسلوك».
هي جملة ينقصها الفعل
كنت وصديقي في غرفة المكتب من منزلي، فلقد تفضل بزيارتي بعد غياب طويل، ربما امتد به أكثر من عشرين عاما، وللمصادفات أحيانا لعبة تجيدها إذا هي رسمت خطتها لاثنين لا تريد لهما لقاء، فواحد منهما يجيء ليجد الآخر قد ذهب منذ قليل، أو هو قد يذهب فإذا الآخر قد جاء بعد ذلك بقليل. ويبدو أن الروائي الإنجليزي «توماس هاردي» (في أواخر القرن الماضي) قد التقط هذه المكيدة التي كثيرا ما تحبكها المصادفات في حياة الناس، فعول عليها في بنائه الروائي، فيدوخ الحبيب في البحث عن مستقر حبيبته بعد أن غابت عنه في زحمة الحياة، ويقضي في البحث عنها أعواما، حتى إذا ما اهتدت قدماه آخر الأمر حيث تقيم في بلد بعيد، وقرع بابها خرج له من ينبئه بأنها كانت تسكن هنا، ولكنها رحلت أمس إلى حيث لا يدري!
وكنت يوما ما بعيدا، قرأت لناقد يأخذ على هاردي مبالغته في معاكسات الصدف، ولكن حياتي علمتني أن «هاردي» كان أصدق لمحا بطبيعة الحياة من ناقده.
وأيا ما كان الأمر، فقد شاءت لنا المصادفات - أنا وصديقي الذي أحدثك عنه الآن - شاءت لنا أن أسافر حين يعود هو من سفر، أو أن يسافر حين أعود! وأخيرا حدث هذا اللقاء وجلسنا جلسة طويلة في غرفة المكتب من منزلي، ولما كانت خبرات حياتنا الماضية متشابهة إلى حد كبير، فقد وردت مشكلة التعليم في غضون الحديث، وتناولنا أطرافها أخذا وردا.
لم نرد تفاؤلا، ولم نرد تشاؤما، ولكننا نضحنا القول من وعاء خبرة طويلة بشبابنا في قاعات الدرس، فالتزمنا الوقائع كيف وقعت، وبالطبع لم يكن حديثنا أكثر من حديث بين صديقين حميمين يجري من هنا إلى هناك، ومن هناك إلى هنا كما اتفق، فلا خطة للسير، كلا، وما كان ينبغي لها أن تكون، لكن ذلك السمر الحر لم يمنع أن تكون مشكلة التعليم موضوعا بيننا يدور حوله الحوار! وجاءت لحظة بدا فيها كأنما طرق الكلام قد سدت في وجوهنا! ومضت بيننا هنيهة صامتة، نقرت بعدها بأطراف أصابعي على ذراع مقعدي، وقلت، وكأني أشد القول من بئر عميقة القرار، قلت هذه الكلمات الثلاث، ولم أدر للوهلة الأولى لماذا قلتها، وهي: اسم، وفعل وحرف! قلتها هامسا.
قال صديقي ضاحكا: ما هذا الذي تحدث به نفسك؟ فأعدت النطق بالكلمات الثلاث، لكنني أحسست بها هذه المرة وكأنها أضاءت بمعناها! فلما عاد إلي صديقي ليسألني: ولماذا ذكرت هذه الكلمات الآن؟ قلت له: ألا تعرفها؟ قال: كيف لا أعرفها وهي أول ما تعلمناه؟! وذلك حين قيل لنا منذ اللحظة الأولى في طريقنا الدراسي: الكلام اسم وفعل وحرف. وهنا استطردت قائلا: تعال معي نتأمل هذا التقسيم جيدا، فيخيل إلي أنني أرى في ثناياه قبسا من نور، لعله يضيء أمامنا وجه النقص في تعليمنا! بل ربما في حياتنا كلها بصفة عامة! إن لغة الناس إنما هي انعكاس لحقائق الأشياء في دنيا الواقع، وذلك من وجهة النظر الخاصة التي تميز قوما تحيط بهم بيئة معينة، من قوم آخرين تحيط بهم بيئة أخرى، إلا أنه على تعدد الأقوام وبيئاتهم ولغاتهم؛ فإن علماءهم جميعا، حين تناولوا جسم اللغة بالتحليل والتشريح، اتفقوا على هذه الأصناف الثلاثة في مفردات اللغة: ففيها أسماء تشير إلى الكائنات، فهذا جبل، وذلك نهر، وتلك شجرة، وهلم جرا، لكن تلك الكائنات لم تخلق لتسكن في مكانها، بل هي في حركة، والحركة فعل، ومن هنا كانت في اللغة مجموعة ضخمة من المفردات جاءت لتشير إلى الكائنات من حيث هي أشياء، لكل شيء منها طبيعته التي تلازمه، سواء أكان ساكنا أم كان متحركا فاعلا، بل جاءت لتشير إليها في حالات نشاطها وحركتها وفعلها، متأثرة بما حولها أو مؤثرة فيه، وذلك هو ما يؤديه الفعل من الأقسام الثلاثة التي ذكرناها، وأما القسم الثالث، الذي أسميناه «بالحرف» فإنما أريد لمفرداته أن تشير، لا إلى الأشياء التي سميناها بأسمائها، ولا إلى «الأفعال» التي تنشط بها تلك الأشياء في تيارات وجودها، بل أريد لمجموعة المفردات التي ندرجها تحت قسم «الحرف» أن تشير إلى «العلاقات» التي لا بد أن تكون هناك لتصل الأشياء بعضها ببعض، فإذا قلنا: «التفاحة» في «الطبق»، عرفنا العلاقة بين شيئين، هما التفاحة والطبق.
الكلام - إذن - اسم نسمي به الشيء، وفعل نصف به حركته، وحرف ندل به على العلاقة بين شيء وشيء، وتتعدد الأسماء بتعدد الكائنات، وتتعدد الأفعال بتعدد ضروب الحركة، وتتعدد الحروف بتعدد العلاقات بين الأشياء، وهكذا ينتهي بنا الأمر إلى أن يكون حولنا وجود معقد النسج، فقابلناه نحن بلغة تعقد نسجها خيوطا لتجيء صورة تطابق ما تصوره.
Shafi da ba'a sani ba