A Kan Sabunta Al'adun Larabawa
في تحديث الثقافة العربية
Nau'ikan
وخذ مثلا ثالثا، فكرة «الحرية»، أو إن شئت فخذ «حقوق الإنسان» في مجموعها، وعد بها إلى منضدة الحوار التي تخيلناها فيما أسلفناه، فعلى جانب من المنضدة جلس من يمثل عصرنا، وفي صندوقه ما يرمز إلى حقوق الإنسان في عصرنا، لا من ناحية المواثيق الدولية وحدها، بل من حيث التطبيق الفعلي في دنيا الحياة اليومية الجارية، وعلى الجانب الآخر من المنضدة جلس صاحب «الوسطية العربية» وجلس بجواره من يمثل خصومه من العرب، فأحسب أنه كلما أخرج الغرب المعاصر من صندوقه حقا من حقوق الإنسان، كالحرية السياسية، والحرية الاجتماعية، وحق الحياة، وحق العمل وحق الاعتقاد ... إلخ؛ أسرع الجانبان من الفريق العربي بالقول بأن كل ما ذكره من حقوق الإنسان في بلاده وفي ظل ثقافته وحضارته، قد سبقه إليه العرب، ولا سيما بعد أن نزلت رسالة الإسلام، وكل الفرق بين جانبي الفريق العربي في مثل هذا القول، هو أن من يخاصمون صاحب «الوسطية العربية» سيسمون الأشياء بترجمات عربية للأسماء التي يستخدمها أبناء الغرب المعاصر، وأما مؤلف «الوسطية» فيستنكر ذلك، ويستخرج لتلك المعاني أسماءها العربية من بطون المراجع التي تحمل الثقافة الموروثة عن السلف !
ترى، هل أدرك الجانبان من الفريق العربي أننا لو صدقناهم فيما يذهبون إليه من أن كل ما يقدمه الغرب المعاصر من أفكار قد سبقناه إليه بعدة قرون؛ إذن فلا نكون بحاجة إلى شيء من بضاعته؟ ولو سلمنا بذلك لما أمكن أن نتقدم إلى الأمام خطوة واحدة. وكيف يكون التقدم أو التغيير نحو ما هو أصلح لظروف جديدة طرأت؟
أقول: كيف يكون ذلك التغيير ممكنا ونحن ننكر ابتداء أن يكون قد جد في الدنيا جديد غير مذكور في مراجعنا التي تحمل ميراثنا الفكري؟ وحتى لو ظن أحدهم أن ثمة اختلافا بين محصولنا الثقافي ومحصولهم، قال: إننا لا ينبغي لنا أن نفكر في قوالب الغرب، فلنا نحن قوالبنا ولهم قوالبهم، فكأنما وضعنا أمامنا زجاجتين مغلقتين، في إحداهما خل وفي الأخرى زيت؛ حتى لا يختلط زيت بخل.
جانب كبير من الخطأ في هذا كله راجع إلى غلطة أولى هي الوهم بأن الفكرة المعينة تظل هي هي في مضمونها، ما دام اسمها يظل قائما، فالعلم هو العلم، والشعر هو الشعر، والحرية هي الحرية، والشجاعة هي الشجاعة، والإقدام هو الإقدام، وهلم جرا. ومن هذا الموقف المغلوط، كلما قال لنا عصر جديد: نريد علما؛ أجبناه: العلم عندنا من قديم، ونريد إقداما، قلنا: الإقدام من خصائصنا منذ أول التاريخ. لكن «الفكرة» المعينة - كائنة ما كانت - تنمو في أبعادها ومراميها، وتزداد غزارة في مضمونها، كلما طال بها عمرها في جريانها على ألسنة الناس وأقلامهم. قارن ما كان الناس يسمونه «علما» في القرن العاشر الميلادي مثلا، بما يسميه الناس «علما» في القرن العشرين، وانظر إلى شجاعة السيوف والرماح عند الأقدمين، وقارنها بشجاعة الرأي عند من يريدون برأيهم الجديد أن يغيروا وجه الأرض ليتغير الإنسان، وقس «إقدام» فارس مبارز بإقدام رجل يضع نفسه في صاروخ مغلق، يشق به الفضاء إلى ما لم يكن يطوف لإنسان بخاطر .. اللهم إلا في كوابيس أحلامه .. جوهر المعنى قائم، لكن صورته تتغير مع تغير الحياة وظروفها، تماما كما يحدث للإنسان الفرد، حين تظل هويته قائمة ، رغم تغير أفكاره ومشاعره وكل جوانب حياته باطنا وظاهرا، زيد هو زيد، وخالد هو خالد، منذ أن كان وليدا رضيعا، حتى أصبح شيخا هرما، لكنه في كل مرحلة من مراحل حياته مختلف أشد اختلاف عنه في مرحلة سابقة، أو في مرحلة لاحقة، وهكذا الحال في حياة «الفكرة» المعينة؛ إذ هي تصمد بجوهرها وباسمها عبر القرون، فإذا قال لك قائل من أبناء عصرنا: إننا نعيش اليوم في عصر يعرف بحرية الإنسان، فلا تقل متعجلا: أمسك لسانك؛ فقد كان أسلافنا منذ قرون يعرفون ويعترفون للإنسان بحريته، فقبل أن تسرع بجواب كهذا، حلل مضمون «الحرية» التي كانت، ومضمون «الحرية» التي يريدها هذا العصر للإنسان. وأقل ما أذكرك به هو حرية الإنسان من قيود الطبيعة المادية؛ لأن كل زيادة في علمنا بظواهر الطبيعة، من ضوء وصوت وكهرباء ومغناطيس وجاذبية وغير ذلك، هي في الوقت نفسه زيادة في حرية الإنسان، هكذا يجب أن نقرأ «الأفكار»؛ فلكل عصر قراءته للفكرة المعينة، بناء على زيادة محصوله من المعرفة.
ألا ما أكثر ما حاولنا تحديد الملامح الأساسية التي تجعل الإنسان معاصرا لعصره، وذلك لأن انتماء الإنسان إلى عصره، أو إلى وطنه، أو إلى أمته، أو إلى عقيدته، مسألة تريد شيئا من الروية ودقة التحليل، والذين يحسبونها هنة هينة، في مستطاع كل ذي إدراك أن يحيط بها علما، هم في وهم؛ لأنهم وقفوا عند كلمة «انتماء» وأخذوا يبدون فيها ويعيدون، دون أن يطالبوا أنفسهم بتحديد الجوانب التي من مجموعها يكون «انتماء» وفي غيابها يمتنع الانتماء. أقول إنها كانت محاولات لم تنقطع، منذ فترة طويلة، بحثا عن هذا الانتماء «للعصر»؛ فالذي يجعل من المنتمي «معاصرا» ما هو على وجه الحقيقة؟ خصوصا ونحن في بحثنا عن خصائص «المعاصرة» لم نرد في لحظة واحدة أن تجيء تلك المعاصرة على حساب انتماء المواطن المصري إلى وطنه، وإلى قومه وإلى ديانته.
وها هي ذي قد سنحت فرصة جديدة، برزت فيها أمام أبصارنا سمة مهمة من سمات الانتماء بوجهيه : الانتماء إلى الوطن وهويته الثقافية، والانتماء في الوقت نفسه إلى عالمنا في عصره الراهن. ولأضرب مثلا بشاعر يريد أن يحقق لنفسه انتماءها من الجانبين مجتمعين، فالشرط الضروري لتحقيق ذلك هو أن يكون على دراية وثيقة وكاملة بالشعر العربي في تاريخه كله، وعلى دراية بنبض الحياة في عصره، وعندئذ فقط يجيء شعره حلقة من سلسلة تاريخه القومي، كما يجيء في الوقت ذاته جزءا لا يتجزأ من حياة العصر الذي هو واحد من أبنائه، وقل شيئا كهذا في الفنان، والمفكر، وكل من يتصدى للتعبير بشتى صوره وأشكاله؛ فالانتماء هو أن يكون المنتمي على حس بماضيه وحاضره معا، في المجال الذي يعنيه، ويجب أن يكون منتميا داخل حدوده.
وموضع العلة في حياتنا الثقافية العربية الحاضرة، هو أننا جعلنا للماضي رجالا يحيون فيه ويدافعون عنه، وللحاضر رجالا يحيون فيه ويدافعون عنه، وكأنما الأمر هو إما هذا وإما ذاك، وكأن الطرفين ضدان لا يجتمعان في شخص واحد! وحقيقة الأمر هي أنه لا فكر، ولا فن، ولا أدب، مما يستحق أن يسمى باسمه؛ إلا إذا كان المفكر، أو الفنان، أو الأديب، على وعي بتاريخ المجال الذي يبدع فيه، وعلى وعي كذلك بنبض الحياة من حوله؛ فعندئذ يأتي الناتج جديدا، ولكنه يأتي كذلك حاملا من سمات قومه ما يميزه عن قرينه في أمة أخرى، فالفكرة الجديدة لا تكون أبدا إلا تطويرا لفكرة، والفن أو الأدب لا يولدان إلا من أرحام فن أو أدب، وهكذا يتحقق الوجود لما يصح أن يسمى بفكر عربي، أو فن عربي، أو أدب عربي؛ لأنه مرحلة من تاريخ معين، من جهة، ولأنه مرحلة جديدة في ذلك التاريخ، من جهة أخرى.
اللغة ملتقى الثقافتين
كنا في شبابنا نملأ أوعيتنا الثقافية من البحور السبعة، لا نبالي أن يكون هذا الذي ملأنا به الوعاء يحمل فوق رأسه بطاقة «العلم» من أي فرع من فروعه، أو يكون ذلك الذي اغترفناه في وعائنا شعرا وأدبا ونقدا، نذهب إلى معارض الفن، بقوة الدفع التي نذهب بها إلى دار الكتب العامة في باب الخلق بالقاهرة، فإن تكن مقررات الدراسة الرسمية قد احتلت من نشاطنا العلمي والأدبي مكان الجذع من الشجرة؛ فقد كثرت في تلك الشجرة فروعها، وغزرت أوراقها وأثقلتها الثمار والأزهار، وقد ظننت أن كل شاب في مرحلة الدرس أو ما بعدها هو ذلك الإنسان الذي لم يعرف الفواصل الحادة التي تفصل جزءا من المعرفة الإنسانية عن سائر الأجزاء، إلى أن أرسل إلي صديق أديب وناقد مرهف الذوق فيما ينتجه، وما يعرضه، من رائع الشعر والنثر معا، عشر نسخ من كتاب أخرجه عن شعراء الطبيعة من الأقدمين ومن المحدثين، راجيا أن أعينه في بيعها، والحق أن حيرتي أمام هذا الطلب المفاجئ كانت شديدة، وربكتي بهذا التكليف كانت أشد؛ لأنه عمل يتنافى مع طبيعتي، ويكفي أنه منطو على شيء من ذل الرجاء، وليس في طبعي ذرة تدفعني إلى أن أقف من أحد موقف الرجاء وذله، إلا أن ذلك الجانب من كياني يمكن أن أرضيه وأستجيب إليه بلا مشقة ولا عسر، ما دام الأمر أمرا يخصني في حدود حياتي الخاصة، أما أن يكون التكليف آتيا من صديق؛ فذلك شيء آخر، مهما يكن في أدائه من حيرة وارتباك.
وأراد لي الحظ العاثر أن يكون أول من ألتقيه مدرسا للرياضة في إحدى المدارس الثانوية إذ ذاك، وكانت الصلة التي تربطني به لا ترتفع إلى حد الصداقة، ولا تنخفض إلى حد الجهل به، وبعد أن حييته تحية لا بد أن أكون قد بالغت فيها بعض الشيء تمهيدا للقذيفة التي انتويت رميه بها، عرضت عليه نسخة من ذلك الكتاب، ذاكرا له الظروف التي أوقفتني منه موقف البائع وهو المشتري، فتناول الرجل الكتاب وقرأ عنوانه، وسألني وهو في ما يشبه الذهول: ما هذا؟! فقلت له: إنه كما ترى، كتاب وثمنه عشرة قروش، فعاد الرجل إلى دهشته، واتجه ببصره إلى يمينه مرة، ثم قبل أن يعود به ليواجهني مواجهة العاتب الغاضب، قال: كتاب يا أخي؟! وفي الشعر؟! قلت: نعم، إنه كتاب وفي شعر طائفة مختارة من الشعراء قالوه عن الطبيعة وما فتنوا به منها ، فعاد إلى سؤالي في استنكار واضح: «أنا علمي!» أتكون قد نسيت من أنا وماذا كانت دراستي؟! «أنا علمي!» ورد لي الكتاب وانصرف.
Shafi da ba'a sani ba