A Kan Sabunta Al'adun Larabawa
في تحديث الثقافة العربية
Nau'ikan
تعالوا نبدأ حديثنا من الصفر، لعلنا نستطيع السير معا، خطوة بعد خطوة، حتى ننتهي إلى نتيجة نلتقي عندها، وعندئذ يمكن النظر في القضية المعروضة على نحو عملي مفيد، والقضية هي - كما ترى - عن تحديث الثقافة العربية وكيف يكون؟
فهنالك شيء اسمه «ثقافة عربية» كان قائما، ولم يزل قائما، وسيظل أبد الدهر قائما! على أن هذا الاسم المطلق العام، إنما هو اسم يشير إلى مجموعة من ثقافات إقليمية، تشترك كلها في جوهر مشترك، ثم تعود فيتميز بعضها عن بعض بخصائص فارقة، فهناك ثقافة مصرية «أو قل وادي النيل» وثقافة تعم الهلال الخصيب، وثالثة تضم بلاد الخليج، ورابعة تشترك فيها بلاد المغرب العربي، وهكذا على سبيل التعميم والتقريب، لا على سبيل الحصر والتفصيل، فهذه كلها «تنويعات» في نغمة الثقافة العربية، كما تتعدد التنويعات على اللحن الواحد، فمثلا: هنالك شعر عربي حديث، إلا أن هذه العبارة إنما تغير إلى مجموعات من شعر شعراء ينتمون إلى أقطار مختلفة من الوطن العربي الواحد، ومحال ألا يجد الباحث المدقق، فروقا تميز الشاعر في العراق من الشاعر في مصر، أو في لبنان، أو غيرهما من أجزاء الوطن العربي، وتستطيع أن تعمم هذا المثل حتى تصل إلى نسيج ثقافي كامل في كل قطر عربي، مجموعها هو ما نسميه بالثقافة العربية في يومنا هذا.
وإنني لأزعم أمرين: أولهما أن النسيج الثقافي في بلد ما، أو عند فرد معين، إنما هو «الأداة» التي بها يعيش الإنسان كيفما يعيش، فإذا رأيت صورة الحياة العملية قد اختلفت بين شعبين، أو بين فردين، فاعلم يقينا أن ذلك الاختلاف مرده إلى اختلاف فيما نطلق عليه اسم «الثقافة»، أيا ما كانت العناصر التي تتألف منها «الثقافة»، ذلك هو أحد الأمرين، وأما الأمر الثاني فهو زعمي بأن الثقافة العربية كما هي قائمة اليوم، بينها وبين عصرها تنافر، كما يكون التنافر بين قفل ومفتاح ليس مفتاحه ، فالقفل قفل والمفتاح مفتاح، لكن هذا المفتاح لا يصلح لذلك القفل، ولا ينفعنا في شيء - والحالة هذه - أن نقول عن مفتاحنا إنه من ذهب، أو مما هو أنفس من الذهب، اللهم إلا إذا أردنا لذلك المفتاح أن يوضع في متحف من متاحف الجواهر الكريمة والمعادن النفيسة، وما قد صنع منها مما يعد في دنيا الفن والصناعة روائع من الروائع، وكذلك لا ينفعنا شيئا أن نقول عن القفل أنه قطعة من الحديد الخسيس الصدئ، لأن الأمر ليس هو أمر مقارنات ومنافسات بين نفيس وخسيس في سوق المعادن، بل الأمر هو أمر باب للحياة مغلق دوننا ونريد أن ينفتح لنا لنستطيع الدخول، فقيمة المفتاح الذي في أيدينا - وهذا هو الموقف وطبيعته - هي أن يكون قادرا على فتح القفل الذي أغلق باب «العصر» في وجوهنا، ولو كنا في غنى عما وراء الباب، لقلنا نعم ونعام عين، فمفتاحنا الذهبي في أيدينا، ستبقى له نفاسة معدنه ما بقيت على الأرض حياة وأحياء، لكننا لسنا في غنى عما وراء الباب، وإلا لما مددنا أيدينا إلى أصحاب الدار راجين أن يفتحوا بابهم المغلق ولو بمقدار ما نشتري من منتجاتهم - ومن علومهم، ومن أفكارهم ونظمهم - ما يتصدقون علينا به في أسواق البيع والشراء.
بهذه الصورة تتضح عناصر المشكلة الحقيقية التي نواجهها في حياتنا الثقافية العربية كما هي قائمة؛ فموضع الإحراج والحيرة هو: أنبقي على مفتاحنا الذهبي النفيس وإلى الجحيم بالعصر وأبوابه الموصدة؟ أم نخزن هذا المفتاح في ذاكرة التاريخ، ونلتمس لأنفسنا مفتاحا يفتح لنا أبواب هذا العصر، حتى ولو كان مفتاحا من أخس الحديد؟ فإذا كانت الأولى أبقينا على حياتنا الثقافية كما هي في قصورها، وإذا كانت الثانية، أخذنا من ثقافة العصر ما نطعم به ثقافتنا لنجري في شرايينها دماء الحياة. إنه إذا لم يكن أمامنا إلا هذان البديلان، كان الموقف عصيا على من أراد اختيار بديل منهما دون الآخر، فمن ذا الذي يريد أن يتشبث بمفتاح لا يفتح له بابا مغلقا، لمجرد كونه مفتاحا من ذهب؟ ومن ذا الذي يريد أن تنفتح له الأبواب بلا شرط ولا قيد، حتى لو انفتحت تلك الأبواب على حياة تلغي وجوده ليصبح عدما من العدم؟ لقد صور القدماء مثل هذا الموقف المربك بثور هائج جاء مهاجما بقرنيه الفاتكين، فماذا يصنع من هو في خطر هذين القرنين، إذا كان رجلا قويا، إلا أن يمسك ذلك الثور الغاضب من قرنيه، يمسكهما بقبضة يديه في ثبات، حتى يجد لنفسه منفذا بين القرنين فينجو. ولقد أطلق القدماء على قرني الثور في مثل هذه الحالة، اسم «قرني الإحراج»، وهو تصوير لموقف من وجد أمامه بديلين وكلاهما مر، وطريق النجاة عندئذ إنما يتحقق بالمرور الماهر بين القرنين.
فهل من طريق أمامنا للنجاة من خطر البديلين اللذين ذكرناهما، فيما يتصل بحياتنا الثقافية، وهما: إما ثقافتنا التقليدية وحدها، برغم كونها لا تقوى على مواجهة العصر وقضاياه، وإما ثقافة الغرب العاهر وحدها برغم كونها تضيع علينا خصائصنا وتاريخنا وكل ما يحقق لنا هوية وطنية وقومية متميزة؟ أقول: هل من طريق أمامنا للنجاة من هذا الإحراج؟ الجواب هو بالإيجاب؛ إذ كل ما نريده ليسعفنا بالخلاص من الحرج والحيرة، هو أن نقف بالجانب التاريخي المعروف، الذي منه تتكون الخصوصية الثقافية المميزة لنا، أن نقف بذلك الجانب عند الحد الضروري، لا نزيد عليه، لنفسح بقية المجال للجانب الآخر المستعار من حياة جديدة نشأت ونشأت معها حضارة جديدة تسرى في أصلابها روح ثقافية جديدة، وأن هذا الجمع بين الجانبين في ساحة واحدة، ليحمل معه بعض الضرر إذا كان جمعا يكتفى فيه بمجرد التجاور المكاني، فهذا إلى جوار ذاك، دون أن يندمجا معا في نسيج واحد، وإنه كذلك ليكون جمعا فيه البعث والنهوض، إذا عرفنا كيف نضفر الخيطين في حبل واحد، والذي حدث في حياتنا بالفعل، هو أن جاورنا بين المصدرين، ولم نستطع مزجهما معا في حياة طبيعية واحدة، ومن هنا كان الضعف والمرض - بل والموت أحيانا - ومن هنا أيضا يتبين لنا طريق التحديث الثقافي؛ أين يكون وكيف يكون؟
إنك أينما وجهت النظر في جوانب حياتنا، عملية ونظرية، رأيت هذا التجاور بين أصيل ووافد دخيل، فأما هذا الدخيل الوافد للمنفعة العملية، وأما ذلك الأصيل فللحياة الوجدانية ذات العمق العميق في القلوب. وابدأ بمعاهد العلم والتعليم كالجامعات، فهناك مادة علمية في شتى ميادين التخصص، تؤخذ من أحدث مصادرها في الغرب المعاصر، هناك الأجهزة المتطورة في معامل الكليات العلمية، وهنالك المراجع التي تمثل آخر ما وصل إليه الباحثون في الغرب، لكن هذا كله لا يزيد عند الدارس - كما هو لا يزيد عند الأستاذ - على قشرة تكسو سطح الذاكرة، لتكون جاهزة للاستعمال إذا ما خرج ذلك الدارس إلى دنيا العمل، فالطبيب في طبه، والمهندس في ميادينه، والحقوقي في مواضعه من المحاكم وغيرها من مجالات القضاء، وهكذا إلى آخر التخصصات العلمية، لكن حك جلود هؤلاء جميعا، لا أقول إلى عمق عميق، بل يكفيك أن تجاوز قشرة رقيقة على سطح الجلد، لتجد سذاجة التصديق لأي شيء مما ينتقض العلم ويتناقض مع أحكام العقل، وهناك تحت ذلك السطح الرقيق، تذوب الفوارق حقا بين الطبقات والأفراد، ويكاد الجميع أن يتلاقوا معا على حالة من سلبية القبول لما يعرض عليهم، ما دام العارض رجلا مؤهلا في حفظ ما هو مخزون في صحف الأولين.
واترك معاهد العلم والتعليم إلى ميادين الإعلام والثقافة، فعندئذ ترى تجاوزا آخر من صنف فريد، فالمذيع على استعداد نفسي بأن يلعن حضارة الغرب وثقافته ألف لعنة، ويعوذ بالله منهما كما يعوذ بالله من شيطان رجيم، ومع ذلك فهو يفعل ذلك كله في مذياع أو في تلفاز صنعهما له ذلك الغرب الملعون، والطبيب والمريض كلاهما على استعداد نفسي أن يستنزلا غضب السماء على حضارة الغرب وثقافته، ومع ذلك فكلاهما يستسلم راضيا، ولكنه غير شاكر، للأجهزة الطبية التي صنعها الغرب، وللعلم الطبي الذي أبدعه الغرب. وانتقل إلى «المبدعين» في دنيا الأدب والفن؛ تجد ما هو أدهى وأمر، فالمبدع في أدب الرواية - مثلا - على أتم استعداد نفسي بأن يملأ وعاءه الروائي بالتمرد على حضارة الغرب وثقافته، وينسى أن أدب الرواية في ذاته - بالمعنى الخاص الجديد «للرواية» - مأخوذ من ثقافة الغرب، فأدبنا العربي قد عرف «الحكايات» لكنه لم يعرف أدب الرواية بالمعنى الذي يكون فيه تصوير النماذج البشرية تصويرا تحليليا مستفيضا، يكشف عن حقيقة الإنسان في سر سره المخبوء. والأمر واضح في الأدب المسرحي، فإنه لمما يثير العجب، أن نبذل جهدنا لنثبت أن في تراثنا الشعبي مسرحا، وبذلك فلا نكون مدينين للغرب بشيء في هذا الصدد، وفي هذا الوقت نفسه ترانا لا نقيم مسرحا له قيمة في عالم الأدب والفن، إلا إذا أجريناه على سنن الفن المسرحي كما عرفه الغرب، وكما نقلناه عنه.
وندير البصر إلى حياة الجمهور في شتى درجاته، فنرى ذلك التجاور بين الحياتين ظاهرا في وضوح: فالريفي في قريته، قد أدخل في بيته كثيرا من أجهزة الحضارة العلمية الجديدة، لكنه مع ذلك لا يزال هو الريفي في رؤيته وفي أحكامه، لم يختلف عن أبيه وجده، بل ربما ساء سبيلا، لأنه فقد البساطة البريئة، ولم يعوضها بمزيد من معرفة وعلم، وإننا لنبلغ ذروة الملهاة في تجاوز المصدرين، إذا ما جلسنا أمام مذياع أو تلفاز، لنستمع إلى أحد ممن اختاروا الحياة في صحف التراث موردا للعيش، فهناك حقا ترى الزاوية قد انفرجت حتى بلغت مائة وثمانين درجة، بين حياة فعلية يعيشها الرجل في بيت حديث العمارة، وطب حديث، ونظم حديثة في التعليم، وفي الحكم، ووسائل نشر حديثة في الصحافة وغيرها مما تنشره مطابع حديثة جاوزت بما تصنعه شطحات الأحلام، إلى آخر الأعاجيب التي أنتجتها حضارة العلم الجديد، ومع ذلك كله، فالرجل على استعداد نفسي كامل، بأن يفتح نيران مدافعه على ذلك الغرب الخبيث الشيطاني الملعون.
وإنا لنلحظ مثل هذه الازدواجية الثقافية المريضة في معظم بلدان العالم الثالث التي تحررت من مستعمريها حديثا، فقد دفعها الغيظ المكتوم إلى التمسك بكثير من ملامح حياته الوطنية، إذا ما كان المجال مجال لقاءات على المستوى الدولي، كاجتماعات هيئة الأمم المتحدة، حيث ترى الممثلين لتلك البلدان وقد ارتدوا ثيابهم الوطنية، وقدموا وجبات من طعامهم الوطني في حفلات العشاء التي يقيمونها، وهكذا، وكل ذلك شيء محبب إلى النفس ولا عيب فيه، لكن الأمر إذا ما جاوز تلك الظواهر، ليمس نبض الحياة الحقيقي، كأن يخلص المواطنون لوطنهم بالأفعال لا بالأقوال، فيخلصون في العمل والإنتاج، ويخلصون في التفكير والتعبير، وجدت لديهم شيئا آخر. ولست عالما من علماء الاقتصاد لأعرف لماذا يظل هذا العالم الثالث في حالة دائمة من الفقر والعوز، فإذا قيل إنه الغرب الشيطاني مرة أخرى، هو الذي يبتز مواردنا الطبيعية بأبخس الأثمان، ليبيعها لنا مصنوعة بأغلى الأسعار، كان جوابي هنا: إن شيطنة الأبالسة لا تنال إلا غير المؤمنين؛ فلو آمنا حقا بواجبنا نحو أوطاننا وأقوامنا، لاختلفت معنا سبل العمل وطرائق التفكير.
لقد قدمت ما قدمته مجازفا، لأنني على أيقن يقين بأن القارئ المتعجل - وقارئنا يغلب عليه أن يتعجل القراءة - سيقفز بأطراف البصر بين ملامح السطور، ليصرخ آخر الأمر بأن هذا كاتب متعصب للغرب في صمم وعمى، فمثل هذا القارئ المتعجل لا يريد أن ينصف في أحكامه، وإلا فلا تعصب هنا ولا ما يشبه التعصب، وإنما الذي بين أيدينا تحليل وتصوير: كيف تخلفنا عن ركب الحياة ولماذا؟ فإذا كان أمر ذلك مرهونا دائما بالنسيج الثقافي الذي يكسو حياة الناس في عصر معين، جاء سؤالنا الرئيسي: وما سبيلنا إلى تحديث حياتنا الثقافية تلافيا للنقص وعلاجا للمرض، شريطة ألا يجيء شيء من ذلك ليشوه ملامح كياننا أو ليمحوها، بل لنلتمس الموضع الصحيح الذي نكتفي عنده بمقوماتنا التاريخية، لنكمل البناء بإضافات تدخلنا في العصر الجديد، لا بشراء أجهزته وآلاته، وترديد أفكاره العلمية ترديد الببغاء، فنفكر بآذاننا وليس بعقولنا، بل بالإيمان الحضاري الثقافي الذي لا يكذب ولا ينافق، والذي يحقن ثقافة قومه التقليدية بما تزداد به قوة وفاعلية وإبداعا، فإذا كنت متعصبا لشيء، فلمثل هذا الخلق الثقافي الجديد، الذي يقام على أسس الهوية القومية، ثم يضيف إليها غذاء عصر لا يشبه ما قد سبقه من عصور.
Shafi da ba'a sani ba