A Kan Sabunta Al'adun Larabawa
في تحديث الثقافة العربية
Nau'ikan
وهذه - إذن - حركة الالتفاف الثانية حول موضوعنا، فكما أردنا بالحركة الأولى أن نلتمس رباط «التشابه» بالمعنى الوظيفي الذي حددناه، وأعني رباط التشابه بين قنوات الإنتاج الثقافي على تعددها وتنوعها، قد أردنا بالحركة الثانية أن نلتمس روابط الوحدة بين أبناء الشعب الواحد، وهي وحدة تهتز بها أوتار القلوب جميعا، لكنها أوتار تهتز في صمت عند الكثرة الغالبة من جمهور الناس، ويكون لها صوت مسموع عند القلة المنتجة للحصاد الثقافي في ذلك الشعب، وننتقل الآن إلى الحركة الالتفافية الثالثة، حول موضوعنا ...
وقد نجعلها الأخيرة، لنتناول بعد ذلك حصادنا في إجمال يمكننا من الحكم ... وأما الحركة الثالثة التي أعنيها فهي أن أذكر للقارئ بعض الأمثلة لعصور ثقافية مضت، وربما استطعت أن أوضح له بالأمثلة، ما الذي يجب أن نتوقعه من حياة ثقافية سوية ناضجة وتستحق البقاء؟
أول ما يرد إلى خاطري هو الثقافة التي جاءت حضارة مصر القديمة تجسيدا لها ... وإنه لمن العسير أن نتحدث عن عدة آلاف من السنين، وكأننا نتحدث عن جيل واحد من الناس، أو جيلين، ولكن هكذا صنعت بنا دراسة التاريخ على مناهج الغرب الحديث، الذي أراد لنفسه أن يكون هو «التاريخ»، وأما ما عداه فهو بالنسبة إليه كالهوامش والملحقات بالنسبة إلى فنون الكتب، فترى مؤرخي الغرب الحديث، بناء على تلك الرؤية الظالمة، قد قسموا التاريخ إلى ثلاثة أقسام: قديم، ووسيط، وحديث ... ثم أوهمهم ذلك التقسيم أن الأقسام الثلاثة متعادلة في الوزن، فنسوا - وكدنا ننسى معهم - أنه بينما «الحديث» الذي هو موضع اهتمامهم، عمره أربعة قرون، فإن «القديم» يزيد عمره عن خمسين قرنا، ولم تكن تلك القرون الخمسون كالأرض اليابسة لا حياة فيها ولا ثقافة ولا حضارة، بل كانت عامرة بكل هذا، في غزارة وثراء يبعثان على دهشة وذهول. ويكفي أن قد كان فيها مصر الفراعنة! ... أقول: إنه على الرغم من هذا العمر الطويل لتلك الثقافة المصرية التي تجسدت في حضارة مصر القديمة، مما لا بد أن يكون قد جاء منقسما إلى مراحل طويلة لكل مرحلة منها خصائصها المميزة لها، فإننا بحكم الانطباع المبهم الذي تركته في أنفسنا دراسة التاريخ على رؤية الغرب الحديث، نتحدث عن ذلك التاريخ الطويل وكأنه جيل واحد من الزمن أو جيلان، وبناء على هذه النظرة الخاطفة؛ انظر إلى الآثار التي خلفتها حضارة أجدادنا، فلا يساورني شك في أن ما أراه إنما هو صورة لثقافة موحدة الهدف، وبين جوانبها المختلفة رباط «التشابه» الخفي الذي حدثتك عنه، وإذا قلنا إن مثل ذلك التشابه قائم بين التمثال المنحوت والمسلة والصورة على جدار المدفن، والمعبد وكل ما تقع عليه العين من أثر ... إذا قلنا ذلك، فقد قلنا بالتالي إن هنالك «روحا» مشتركة عاشها القوم في حياتهم، ومن تلك الروح الواحدة انبثقت حياة ثقافية بشتى جوانبها، فكن - أيها القارئ - على أية درجة شئت من الإلمام بالتاريخ المصري القديم ... فإنك على أي الحالات، إذا ما عرضت أمامك قطعة كبيرة أو صغيرة من الفن المصري القديم فلن تخطئ عيناك أنها كذلك، لأن روح ذلك العصر - على امتداده - روح واحدة تميز بها كل عمل أنتجه فنان.
وإنه ليبدو لي في وضوح، أن تلك الروح المشتركة الواحدة المسيطرة على شتى صنوف الإبداع إنما هي روح من أخذ حياته مأخذ الجد وروح من يشعر من عمق نفسه وقلبه وعقله بأنه ما دام قد خلقه الله إنسانا؛ فعلى عاتقه تقع مسئولية الحياة المنتجة المبدعة، فانظر - إن شئت - إلى أي تمثال نحته أزميل فنان مصري قديم، تجد الحجر ناطقا بالرزانة والرصانة وحكمة الحياة، إنك ترى عادة في كل تمثال، ابتسامة خفيفة على الشفتين، لا أقول إنها ابتسامة الساخر ممن ينشغل بدنيا الزوال عن عالم الخلد، بل أقول إنها ابتسامة إشفاق ممن لم يدرك لحياته واجباتها، وهي واجبات أوجبتها عقيدة دينية قبل أن توجبها إرادة حاكم ... قلب ناظريك فيما شئت أن ترى من آثار الثقافة المصرية القديمة مجسدة في آثارها تجد بساطة القوة، أو قوة البساطة، فلا زخارف أكثر مما يجب، ولا زوائد ولا ثرثرة أو ما يشبه الثرثرة، وإنما هو حجر مستقيم الخطوط واضحها: في الهرم، وفي المسلة، وفي عمد المعبد وجدرانه، وانظر إلى الرسوم فوق الجدران، ملونة أو غير ملونة تجد قوة الخط وبساطته، إنها قوة الواثق بنفسه وبساطة من لا يشعر في باطنه شعور النقص، فيغطيه بزخارف فارغة ... لقد أردت أن أقول إنها آثار تنطق بثقافة تشابهت فيها الأجزاء، واتحد فيها الهدف.
وننتقل من ثقافة مصرية أصيلة أنطقت الحجر بأزميلها، إلى ثقافة عربية أصيلة، أخرجت بالقلم عبقرية الكلمة، ولنأخذ مثلا لها تلك الذروة التي بلغتها في عصر المأمون وامتداد صداه في القرن الرابع الهجري متداخلا في القرن الخامس «العاشر الميلادي والحادي عشر»، وإذ نلقي بأبصارنا على ذلك الامتداد الزمني نبحث عن الهدف الواحد الكبير المتضمن في النتاج الثقافي إبان تلك الفترة، متسائلين في الوقت نفسه عما إذا كانت صنوف ذلك النتاج، على تعددها وتنوعها، تتغيا ذلك الهدف، وكأن بينها اتفاقا مضمرا على السير معا في موازاة بعضها مع بعض، تجاه الغاية المقصودة عن عمد أو غير عمد، وأحسب أن النظرة الفاحصة لن تجد عندئذ عسرا في رؤية تلك العلامات المميزة للثقافة عندما تكون سوية ومسددة الخطى.
وفي ظني، أن مفتاح تلك الفترة التي حددناها، هو أن الوجدان العربي قد اتسعت آفاقه ليشمل «الإنسان» على إطلاقه بغير تمييز في مكان أو زمان، فنحن نعلم كيف فتحت الأبواب والنوافذ على مصاريعها لتستقبل كل الثقافات الأخرى، من شرق ومن غرب، ثم سرعان ما نسجت الخيوط جميعا في رقعة واحدة غير عابئة من أين جاءت لحمتها أو جاءت سداها، والمهم هو أن يجيء النسج الجديد جديدا، مطبوعا بطابع عربي أصيل، على أن الباحث الفاحص في خصائص تلك النظرة الموسوعية الشاملة، التي استهدفت إنسانية الإنسان بغض النظر عن الفواصل التي قد تميز شعبا من شعب، كان محورها الداخلي هو احترام «العقل» والإيمان بقدراته ومداه، فإن شئت أن ترى هذه الخصائص العامة المجردة التي ذكرتها، لأميز بها عصر الازدهار في تاريخ الثقافة العربية، فانظر إلى طائفة من أمهات المبدعات العلمية والأدبية والفلسفية والثقافية بوجه عام، التي صدرت عن أصحابها إبان تلك الفترة، خذ الجاحظ من الثالث الهجري، والتوحيدي من الرابع الهجري، ممثلين للحركة الفكرية بصفة عامة: وخذ الفارابي وابن سينا ممثلين للفكر الفلسفي وخذ أبا الحسن الأشعري ممثلا للمتكلمين، وخذ المتنبي وأبا العلاء ممثلين للشعر، وخذ إخوان الصفا ممثلين لحركة التنوير بصفة عامة، وعبد القاهر الجرجاني ممثلا للنقد الأدبي ... وحاول أن تستخرج الجانب المشترك في هؤلاء جميعا، واسأل: هل لديهم هدف يشتركون فيه؟ وهل أضمر في أصلاب أعمالهم وجه للشبه بينهم؟ وأما أنا فالجواب عندي هو: نعم ... كانت ثقافة هادفة، وهدفها إنسانية الإنسان كائنا من كان، بغير تعصب ولا تمييز، وكان وجه الشبه الخفي الكامن في أعمالهم هو إكبار العقل البشري، بكل معنى تتضمنه هذه العبارة ... فإذا أخذت «العقل» بمعنى الاستدلال في عالم الفكر المجرد، وجدته عند الفلاسفة وأشباههم وإذا أخذته بمعنى مراعاة الدقة الهندسية في بناء الأثر الفني أو النقدي، وجدته عند كبار الشعراء والنقاد، وإذا أخذته بمعنى التسامح في العقيدة وعدم التعصب عند أصحاب العقائد الأخرى، وجدته عند إخوان الصفا ومن سار سيرتهم ... والخلاصة هي أنك واجد في ذلك العصر نموذجا رائعا للحياة الثقافية حين تتوافر فيها الشروط التي ذكرناها وهي أن تتشابه الأجزاء، وأن يتحد الهدف.
وإذا أردت مثلا ثالثا لعصر ثقافي متكامل، فانظر إلى فرنسا في القرن السابع عشر، وهو الذي يسمونه «عصر العقل» وقلب نظرك في كل ما يعن لك من أوجه الحياة، تجد أثر النظرة العقلية واضحا، فالفلسفة في ذروة العقلانية على يدي ديكارت، والفن هو طراز «الباروك» الذي تراعى فيه نسقية الإجراء، والأدب تقام بناءاته وكأنها بناءات هندسية، كما ترى في مسرحيات «راسين» و«كورني»، وكذلك يقال عن الموسيقى و«كاتب هذه السطور من العوام فيما يختص بالجانب النظري من الموسيقى.»
وقد يأتيني صوت محتج من هنا أو من هناك قائلا: إنك يا أخي قد وعدت في مستهل حديثك أن مدار حديثك هذا هو حياتنا الثقافية في الفترة الحاضرة، فما الذي يطوح بنا إلى بعيد فتضرب لنا الأمثلة من مصر الفرعونية ومن عرب القرن الرابع الهجري، ومن فرنسا القرن السابع عشر؟ ألا اقتربت من زماننا ليسهل التصور والفهم؟ واستجابة لهذه الرغبة أسوق مثلين من حياتنا الحديثة والمعاصرة: الأول هو موجة الثلث الأخير من القرن الماضي، وكان من أهم أعلامها: الشيخ محمد عبده، وقاسم أمين، وقد نذكر شبلي شميل، والثاني هو فترة ما بين الحربين العالميتين في هذا القرن العشرين، وكان من أهم أعلامها لطفي السيد، وطه حسين، والعقاد، والدكتور هيكل، فإذا أمعنت النظر في الموجة الأولى ألفيت الهدف واضحا، وهو مواكبة العصر وما يقتضيه من جهاز فكري واجتماعي: محمد عبده يدعو إلى تخليص العقيدة الإسلامية مما نسبه إليها الأميون من خرافة، وشبلي شميل يقدم صورة متطرفة للفكر في الغرب، وما يستتبعه من تغيير في وجهة النظر، وقاسم أمين يدعو إلى تحرر المرأة من قيود فرضت عليها؛ فحدت من نشاطها، فهؤلاء الأعلام - كما نرى - قد اختلفوا مزاجا وميدانا لكنهم تشابهوا هدفا ومعدنا.
وأما موجة ما بين الحربين العالميتين، فالمعالم فيها أوضح لقرب عهدها، فهم بدورهم قد اختلفوا في كثير، إلا أنهم قد اتحدوا جميعا عند هدف واحد هو «التنوير» الذي يؤدي إلى تغيير وجهة النظر الراكدة، لتتجه نحو ما هو أقوى وأوسع وأكثر ملاءمة للعصر الذي نعيش فيه، ووجه الموازاة بينهم - مع اختلافهم في المادة والمنهج - واضحة، فكلهم ينطوي على قلق من أوضاع ثقافية واهية وداعية إلى القعود والخمول والتخلف، وكلهم يوجب لتلك الأوضاع أن تتغير.
وبعد أن فرغنا من حركات الالتفاف حول الموضوع، مستهدفين أن نضرب حوله حصارا من تعريفات نحدد بها ما نعنيه بالمفاهيم الرئيسية التي استخدمناها، وضاربين أمثلة كبرى وصغرى من تاريخ الثقافة قديما وحديثا، عندنا وعند غيرنا، أقول إننا بعد أن قدمنا هذا كله، ندعو إلى توجيه الأنظار إلى حياتنا الثقافية الراهنة، في مصر خاصة، وفي الوطن العربي عامة، لنرى من قرب مدى نصيبها من عوامل القوة أو الضعف، ومن أجل التحديد، نفترض أن المقصود بالمرحلة الراهنة هو الفترة التي امتدت من هزيمة 1967 حتى اليوم، وسيكون مفتاحنا في الحكم هو نفسه المفتاح الذي استخدمناه فيما أسلفناه؛ وأعني به أن نسأل سؤالين: أحدهما عن الهدف البعيد الواحد، أهو قائم أو أم هو غائب، والثاني هو عن مقدار التشابه الموجود بين الميادين المختلفة من علم إلى فن وأدب وما يتفرع عنها.
Shafi da ba'a sani ba