ذلك أني لم أسافر هذه المرة كما تعودت أن أسافر في لين ورضا واستبشار بالسفر، وإنما سافرت على كره من الناس، وعلى كره من نفسي. سافرت ولو استطاع قوم لحالوا بيني وبين هذا السفر، ولأقمت في مصر أراهم ويرونني، وأغيظهم ويكيدون لي.
نعم، كل شيء من حولي هادئ حتى موج البحر، ورياح الجو، وحتى صوت السفينة المطرد؛ إلا هذه النفس فإنها ثائرة مضطربة ليست بالهادئة ولا المطمئنة ... تذكر سنة 1924 حين سافرت على كره من قوم لو استطاعوا لأمسكوني في مصر. وأنا الآن أسافر رغم هذا الشيخ الذي نهض في مجلس الشيوخ يستصرخ المسلمين، ويستغيث برئيس الوزراء علي؛ لأني - فيما زعم مسخروه - عرضت الدين للخطر، نعم، ورغم هؤلاء الشيوخ الأزهريين الذين أبرقوا إلى رئيس الوزراء من أقصى الصعيد يستغيثون به؛ لأن الصحف نقلت إليهم أني عرضت الدين للخطر. نعم، ورغم هؤلاء الشيوخ الأزهريين الذين توسلوا إلى رئيس الوزراء ألا يدعني أسافر حتى يؤلف لجنة تستوثق من أني لن أعرض الدين للخطر أمام مؤتمر المستشرقين في أكسفورد. نعم، ورغم قوم كثيرين كانوا يسعون هنا وهناك سرا وجهرا، يكيدون ويغرون ويضللون.
لقد سئمت هذا كله، وتقدمت إلى مدير الجامعة معتذرا فأبى وألح، وسافرت مغيظا محنقا على هؤلاء الناس الذين يتخذون الدين والسياسة وسيلة للكيد، وبث الفساد في الأرض، وإنهم ليعلمون حق العلم أن الدين أثبت وأمكن من أن يعرضه للخطر رجل كائنا من كان، وإنهم ليعلمون حق العلم أن هذا الرجل الذي يكيدون له، ويسعون به، أحرص منهم على سلامة الدين، والتمكين له في الأرض، وأقدر منهم على ذلك، وأحسن منهم بلاء في حمايته، والذود عنه، ولكنهم بين مأجور وموتور.
نعم، كل شيء من حولي هادئ مطمئن حتى موج البحر، ورياح الجو، وحتى صوت السفينة المطرد، وحتى إني لأسمع ابنتي النائمة في سريرها تلقاء سريري يتردد نفسها البريء في صدرها ترددا هادئا منتظما. فما لهذه النفس الثائرة لا تهدأ! وما لها لا تتصل بهذه الطبيعة الهادئة من حولها؟ أكل شيء في مصر كان يدفع إلى الثورة النفسية، ويهيج عواطف الغضب والغيظ؟ ألم يكن في مصر ما يبعث في النفس شيئا من الرضا، ويحمل إلى القلب شيئا من الطمأنينة؟ بلى، وإني لجاحد منكر للجميل إن نسيت هذا الرجل الذي لم أكن أعرفه ولم يكن يعرفني، إلا بما كان بيننا من خصومة سياسية عنيفة، والذي وقف أمام البرلمان كله - وهو يتألف من كثرته الحزبية - وقفة الحزم والمروءة والإباء والدفاع عن حرية الرأي. نعم، إني لجاحد منكر للجميل إن نسيت موقف علي باشا الشمسي أمام النواب وأمام الشيوخ، وأمام أولئك وهؤلاء من السعاة وأصحاب الكيد، لا يضطرب ولا يتردد ولا يفرط. وإني لجاحد منكر للجميل إن نسيت أني ذهبت أودعه، وأشكر له بعض مواقفه أمام مجلس الشيوخ، فقال لي: «لست أقبل منك شكرا؛ لأني لم أقف هذا الموقف دفاعا عنك، وإنما وقفته دفاعا عن رأي، وأنا أعلم أنهم يأتمرون بك، ويكيدون لك، ولكني لا أسمح بأن يكون للكيد والسعاية أثر في الحياة العامة وأنا وزير، فسافر مطمئنا، وثق بأني لن أبرح الأرض حتى أقضي على هذا الكيد.» هو الآن بعيد عن الحكم، ولم تكن بيني وبينه - وما أظن أن ستكون بيني وبينه - صلة غير هذه الصلة التي تحملني على أن أذكر مروءته ووفاءه للحق والحرية، والتي تحملني على أن أسطر هنا ما أشعر به من أسف شديد؛ لأن وزارة المعارف حرمت رجلا كهذا الرجل.
أأذكر عدلي وموقفه يوم ثارت الثائرة؟ كلا؛ فما كنت أنتظر من «عدلي» غير هذا! أأذكر ثروت وموقفه يوم استقلت فرفض الاستقالة، ويوم سعى إليه الساعون، وكاد عنده الكائدون، فأبى إلا أن يكون وفيا شريفا؟ كلا؛ فلم أكن أنتظر من ثروت غير هذا. فأما علي الشمسي باشا فإني أذكره، ولن أفرغ من الثناء عليه؛ لأني أظن، بل أثق بأن قليلا من الناس يستطيعون أن يقفوا مثل مواقفه بإزاء خصم سياسي تظاهرت عليه قوى أقل ما توصف به أنها شديدة الأثر في حياتنا العامة كلها، وفي حياة الوزراء بنوع خاص.
نعم، وهؤلاء الذين كنت أعمل معهم في الجامعة، والذين كانوا إذا أصبحوا قرءوا وتلقوا احتجاجا واعتراضا أو نذيرا، فلا يزيدهم ذلك إلا حرصا علي، ورفقا بي، وتشجيعا لي، هؤلاء الأصدقاء الذين كانوا كلما اشتد الأمر، وجد الجد، افتنوا في التماس الوسائل لتسليتي والتسرية عني.
أليس هذا كله يكفي لتهدئة هذه الثورة، وإخماد هذا الغيظ؟ بلى؛ بل هو يكفي لأكثر من ذلك، يكفي لإحياء الأمل، وتنشيط الرجاء، وتقوية الثقة بأن ما في مصر من أعراض الشر سحابة صيف لا تلبث أن تبددها هذه الشمس المشرقة الحارة التي تمتلئ بها نفوس الأخيار من أذكياء مصر وأولي الرأي والضمائر والقلوب والإخلاص فيها، وإنهم على قلتهم لكثير. نعم، يجب أن تهدأ هذه النفس الثائرة، وأن يطمئن هذا القلب المضطرب، وأن تخمد جذوة هذا الغيظ، وأن يقوم الأمل مقام اليأس، والنشاط مقام الخمول، وأن أستأنف القراءة إذا انجلى الليل، وبسطت الشمس رداءها الفضي على هذا البحر الهادئ الصافي، وانقضت هذه الحركة التي نأتيها مصبحين في السفينة بين إفطار وتدخين وتهيئ وصعود إلى الجسر، ووضع للكراسي في مواضعها، وتبادل التحيات والسجائر؛ نعم، يجب أن أستأنف قراءة التوراة؛ فقد فرغت من سفر التكوين، ولست أشك في أني سأجد في قراءة سفر الخروج لذة فنية وعقلية ودينية معا.
6
وأصبحت ممتلئ النفس بحديث الأزهر، لا يفارقني ولا أنصرف عنه، كأنما فرضت علي التفكير في الأزهر والأزهريين قوة قاهرة لا أستطيع لها دفعا، ولا أجد عن الإذعان لها محيصا، كنت أفكر في الأزهر مشفقا آملا، على شيء من السخط بين هذا الأمل وذلك الإشفاق، ولم كنت أفكر في الأزهر هذا التفكير الذي حملني على أن أرفض في رفق ما عرض علي صاحبي من قراءة التوراة، حين تمت الساعة العاشرة، وفرغنا من حركة الصباح على السفينة، ولم يكن لنا إلا أن نقرأ أو نتحدث حتى تدق أجراس الغداء؟ هذه زوجي قد اعتزلتنا وعن يمينها كتاب، وعن شمالها علبة فيها من أدوات الخياطة والتطريز ما شاء الله، وهي تتنسم هواء البحر، وتلقي نظرة على اليمين، وأخرى عن الشمال، وكأنها تسأل نفسها؛ أتأخذ الكتاب أم تفتح العلبة؟ وهذان ابناي في نشاط ومرح وصياح واضطراب، يجريان ويقفان، ولا يدريان بأي أطراف اللعب يأخذان. وهؤلاء المسافرون يلقى بعضهم بعضا في تحية وبشر، وحديث عن البحر والجو وقرب الوصول إلى مرسيليا. وهذا صاحبي قد هيأ لي كرسيا وأجلسني في دعة ورفق، ثم هيأ كرسيه في بطء ورزانة لا تلائم سنه ولا شخصه، ثم جلس متثاقلا متباطئا وهيأ صحفه وهو يسألني: «أأبدأ في قراءة التوراة؟» فأجيبه: «لا.» فيسألني: «فأي كتاب آخر تريد أن أقرأ؟» فأجيبه: «لا شيء.»
وما أشك في أنه ابتهج بهذا الجواب واغتبط؛ فقد ظل لحظات ثم نهض وعاد وغرق في كتاب من هذه الكتب التي تعود أن يغرق فيها متى أعفيته من العمل؛ لأنه يتهيأ للامتحان، وتركت أنا زوجي مترددة بين الكتاب والثوب، وابني مضطربين على جسر السفينة، وصاحبي غرقا في المدني أو الدولي، ومضيت أنا أفكر في الأزهر؛ أفكر فيه حين دخلته لأول مرة أشهد صلاة الجمعة، وكنت أعتقد أن قدمي تطآن أشد بقاع مصر تقديسا وطهرا، وأفكر فيه حين كنت أختلف إليه أول النهار وآخره وإبانه، مقتنعا بأني حين أختلف إليه أؤدي واجبا لا يعدله واجب، وأقدم إلى نفسي أقوم اللذات وأقواها، وأفكر فيه حين أخذ هذا الشعور يفتر ويضعف، وحين كنت أختلف إلى الأزهر في شيء من الكره والملل، مقتنعا بأني إنما أفعل هذا لأخلص من واجب ثقيل، وأفكر فيه حين كنت أوثر عليه دار الكتب، وحين كنت أزوره لماما لأسمع فيه درس الأدب، ولأعبث فيه مع طائفة من الرفاق بجماعة من الشيوخ كانوا يكرهوننا مخلصين، وكنا نكرههم مخلصين أيضا، وأفكر فيه حين أقصيت عنه سعيدا راضيا وساخطا في الوقت نفسه، ثم أفكر فيما بيني وبينه الآن من صلات لا أكاد أحددها إلا في مشقة وعسر، فهو يكرهني، وأنا أشفق عليه وأرثي له، ولعلي لا أقول الحق إن لم أضف أني أضيق به من حين إلى حين.
Shafi da ba'a sani ba