وكان أنسها وفتنتها موضع حديثنا وعبثنا حتى أقلعت السفينة، وتركنا صاحبنا الشيخ في زورقه يتبادل مع الفتاة التلويح بالمناديل، وأقبل الليل وآوينا إلى مضاجعنا آمنين مطمئنين رغم ما كان يذكر من حديث الغواصات، ألم نكن في سفينة محايدة لا سبيل عليها للمتحاربين؟ ولكن باب الغرفة يطرق ثم يؤذن للطارق فيدخل، وإذا هو يتحدث إلينا في فرنسية مضطربة أنه إذا دق الجرس فأسرعوا إلى جسر كذا، وقفوا أمام الزورق رقم كذا ... قال صاحبي: «وفيم يدق الجرس؟» قال الطارق: «وهل نسيت الغواصات.» وانطلق وأقفل الباب من ورائه، وكان الدوار قد أخذ يلعب برأس صاحبي، فانضم إليه الخوف والوجل، وما أزال أراه يقيء، ويعالج الدوار، ويدعو أمه، ويذكر إخوته الصغار في لهجة كانت تؤلمنا وتضحكنا معا، وكان هو أسرعنا إلى الضحك وأشدنا ألما.
كانت حلوة لذيذة تلك الأيام السعيدة بين بورسعيد ونابولي آخر سنة 1915، ألم أكن قد وفقت إلى العودة إلى فرنسا حيث باريس، وحيث السوربون، وحيث استئناف الدراسة وتحقيق الأماني، وحيث تلك التي لم تكن قد جاوزت العشرين من عمرها، والتي فارقتني في مونبلييه أول الصيف على أن نلتقي في باريس إذا أقبل الشتاء، والتي عرفت عودتي إلى مصر، وإشفاقي من البقاء فيها، فكتبت إلي وضمنت كتابها وردة من ورد فرنسا ما أزال أحفظها إلى الآن؟ أكان ما أضمر لها في قلبي حبا، أم كان مودة خالصة، أم كان شيئا بين ذلك لم أكن أتبينه حينئذ، وإنما تبينته بعد ذلك بشهرين كاملين؟ كانت حلوة لذيذة تلك الأيام بين بورسعيد ونابولي، وكان أحلى منها وألذ ذلك اليوم الذي وصلنا فيه إلى نابولي، بل تلك الساعة التي أسرعت فيها إلى مكتب البريد فوجدت فيه كتابين قرأهما علي صاحبي مرة ومرة، فلما طلبت إليه القراءة الثالثة قال في شيء من اللطف والسخرية: لعلك تنسى أن القطار يسافر في الساعة الثالثة، وأن من الحمق أن نسافر ولما نطف قليلا في هذه المدينة التي لم نرها قبل اليوم، ولعلنا لا نراها بعد اليوم، وكان أحلى من ذلك وألذ، ذلك اليوم الذي وصلت فيه إلى باريس، بل تلك الساعة التي طرق فيها باب غرفتي، ثم فتح، ثم أقبل علي شخص فصافحني في قوة ومودة وصراحة، وجلس إلي ساعة يسألني وأساله ويجيبني وأجيبه، ثم افترقنا على أن نلتقي من غد، والتقينا من غد فما افترقنا منذئذ يوما ولا ساعة ولا بعض ساعة إلا أحسست - شهد الله - في نفسي ألم الفراق وشوقا إلى اللقاء.
وانقضت في باريس وفي القاهرة أعوام كان فيها ما شاء الله من حلو الأمر ومره حتى كان يوم 5 يوليه سنة 1924، وإذا أنا في بورسعيد كما كنت آخر سنة 1915، ولكني لم أكن وحدي، وإنما كان معي في هذه المرة زوجي وابناي، وكان معي صاحبي الذي رافقني إلى بورسعيد، وداعب الفتاة وداعبته على ظهر السفينة الهولاندية، ولكنه لم يكن في هذه المرة شيخا ولا متأنقا ولا متظرفا، وإنما كان رجل جد ودعابة لم تفارقه، كنا في بورسعيد، وكنا نأخذ طريقنا نحو السفينة، ولكنا كنا نسأل أنفسنا: أنبلغها؟ أيخلى بيننا وبينها؟ حتى إذا عرض لنا بعض عمال الثغر يطلب الباسبور، لم تشك زوجي، ولم أشك أنا في أنه يريد بأمر من الحكومة أن يحول بيننا وبين السفينة، ولكنه لم يفعل، فأخذنا الزورق وصعدنا إلى السفينة وجلين، ولم نكد نبلغها حتى آوينا إلى غرفتنا فلم نفارقها إلا بعد أن أقلعت السفينة. وكان صاحبي قد صعد معنا، ولكننا فقدناه ساعة حتى إذا دقت الأجراس مؤذنة بإقلاع السفينة أقبل فودع مسرعا وانصرف، ولكنه همس في أذني قائلا: «يوم كيوم السفينة الهولاندية!» ثم عرفت منه بعد ذلك أن قد كانت له قصة فيها غزل ودعابة، ولكنها دعابة لم تكن من البراءة بحيث كانت تلك.
وأقلعت السفينة ومضت في سبيلها، وخرجت من الغرفة وصعدت إلى الجسر وأنا أتمثل في صدق وإخلاص وابتهاج قول ذلك الشاعر القديم:
عدس ما لعباد عليك إمارة
نجوت وهذا تحملين طليق
مم كنت أخاف؟ ومم نجوت؟ كنا يومئذ أشد ما نكون في مصر فرقة وانقساما، وكانت الخصومة السياسية عنيفة منكرة، وكانت الحكومة القائمة قد أمرت بالتحقيق مع «السياسة» وكتابها، وكانت النيابة قد دعتني وسألتني فأبيت أن أجيب واضطرت إلى وقف التحقيق، وكانت وزارة المعارف قد تسلمت الجامعة، وكانت قد ماطلت في الإذن بالسفر، ثم أذنت كارهة.
وكنت أنتظر من وقت لآخر أن تأمر النيابة بالقبض ثم السجن، وكنت أحرص ما أكون تلك السنة على السفر إلى فرنسا لأستريح وأريح زوجي وابني، فليس غريبا أن أتنسم الهواء الطلق بكل صدري منشدا:
نجوت وهذا تحملين طليق ... والآن تمضي السفينة بنا هادئة مطمئنة مسرعة بين مضيق صقلية ومضيق بونيفاسيو، والليل مظلم مدلهم، وكل شيء هادئ وادع إلا هذه النفس، فإنها ثائرة مضطربة مغيظة محنقة تستعرض هذه الحوادث التي مرت، وتستعرض آخرها الذي لم يفرغ بعد، وهي تنشد في غيظ وحنق لا في ابتهاج وسرور:
نجوت وهذا تحملين طليق
Shafi da ba'a sani ba