من أي حزب كانوا، وفي الخصومات يرفعونها إليه، فيزيلها بالصلح، أو يفصلها بالحق، وفي الأحداث كلها يبين فيها حكم الله. وكان كل نائب أو وزير يؤم داره خاشعًا متواضعًا كانه يمشي إلى حرم، فيريه عزة العلم، وجلال الحق، ولطف المؤمن، وتواضع العظيم، ويعظه ويأمره وينهاه، ولا يرزؤه شيئًا من دنياه. وكان أيام الثورات على الفرنسيين من الدعاة إلى الجهاد، أرهبه الفرنسيون فلم يخف، ورغَّبوه فلم يطمع، وأزعجوه فما لان، فتركوه لم يجرؤوا عليه ودونه أهل البلد يفدّونه بأنفسهم وأهليهم.
أما الدنيا فلم يكن يسأل عنها أقبلت أو أدبرت، ولم يكن يفكر فيها ضاقت أو اتسعت، فإن حضره الطعام حلالًا أكل، وإن دعاه محب أو فقير أجاب، وإن أهدى إليه قبل، فإن كانت الدعوة أو الهديّة من فاسق أو متكبر أبى. يلبس ما وجد فربما كانت عليه الجبة من الجوخ الثمين فمر به فقير مقرور فدفعها إليه، ولبس عباءة مرقعة، أو خرج بالإزار وحده. تدخل الدنيا داره فيكون كأنعم الناس، ويدخل المال كيسه فيكون كأغنى الناس، ثم يضيق ويفتقر، فيتنكر ويقصد القرى فيشتغل فيها بالطين واللبن، ويعود بما كسبه من كدّ يده، لا يطغى في الأولى ولا يقنط في الثانية، ولا يذيق قلبه حلاوة الدنيا، فيلين لأبنائها حرصًا عليها، وخوفًا من زوالها.
وكنا نخرج معه كل ثلاثاء (وهو يوم الراحة عند العلماء) إلى القرى والأرباض، فإذا جاوزنا رحبة دمشق، قال: قد وضعنا المشيخة هنا، ونحن من الآن إخوان. فنمازحه ويمازحنا ونغني أمامه ونثب ونلعب، ونسبح ونركب الخيل ونصطاد، وكان يرغبنا في السباحة والفروسية والرمي، وسائر أنواع الرياضة، لأن ذلك من سنة الإسلام، ويود أن يكون معنا فيه ولكن السن تمنعه والضعف والكبر، ثم نعود من الغد إلى الدرس، ونحن أصفى الناس ذهنًا، وأطيبهم نفسًا، وأشدهم نشاطًا.
...
ولازمت من بعده مشايخ كثيرين كانت حالهم كحال الشيخ أو قريبًا منها، وكانت حياتهم علمًا وعملًا، ومنطقًا وخلقًا، وكانوا كلهم يحدثوننا عن الأزهر
1 / 24