إن هذا العلم دين
نشرت في مصر سنة ١٩٤٧
أنا لم أتشرف بالانتساب إلى الأزهر ولا إلى غيره من المعاهد الشرعية، لأني تعلمت في المدارس الأميرية من دار الحضانة إلى كلية الحقوق، ولكني نشأت من صغري بين كتب العربية والدين، وربيت في مجالس العلم والأدب، لأن والدي ﵀ كان من كبار علماء دمشق، وكانت دارنا من الدور العريقة في العلم، فلم تكن تخلو يومًا من مراجعات أو مناقشات، ونظر في الكتب ومقارعات بالحجج، ومن عامة يستفتون وطلبة يقرؤون وعلماء يبحثون فلما توفي والدي (١) لزمت عالمًا أزهريًا متفننًا، فكنت أنصرف من المدرسة فأراجع دروسها على عجل، ثم أتعشى (وكان العشاء في تلك الأيام بعد العصر) وأصلي المغرب وأمضي إليه في مسجده، فأقعد مع الطلبة ننتظره حتى يفرغ من صلاته، وكنا نحو الخمسين طالبًا، منا تلميذ المدرسة ومنا التاجر ومنا الموظف ومنا الشاب ومنا الكهل. وما يبتغي أحد منا بالعلم دنيا، ما نبتغي إلا العلم وحده لنعرف به الحلال من الحرام، نرى طلبه علينا فرضًا، وتحصيله عبادة، فكنا نجد في المطالعة لذة، وفي الحفظ مسرة، وفي التعب راحة، فنطالع الدرس قبل أن نقرأه، ونطالعه بعد أن نقرأه، ونحقق مسائله ونحفظ شواهده ونفتش عن الشروح له والحواشي عليه ...
فإذا قضى الشيخ صلاته أقبل علينا فسلم فرددنا ﵇، لا نقوم له لأنه أدبنا بأدب الإسلام، وليس منه هذا القيام، ولكن تثب لمقدمه قلوبنا، وتخشع لمحضره جوارحنا، وتنبض بحبه وإجلاله كل ذرَة فينا، فيقعد ونحن من حوله، فيسمي الله ويحمده ويشرع في درس النحو، فيقرأ المعيد ويشرح هو، ويقيم أحدنا إلى لوح أسود كالذي يكون في المدارس، فيملي عليه الشاهد
_________
(١) في شعبان سنة ١٣٤٣هـ.
1 / 22