خرجت من مسكني ذات يوم منذ سنين، ففوجئت برجل يقف على بعد خطوتين من بابي، متكئا بمرفقيه على حاجز السلم، ومتجها ببصره نحو الباب، فسألته ما الخبر؟ قال: إنني أنا الذي دهنت هذا الباب بطلائه، وكأنني أنظر نحو صناعتي نظرة عاشق لمن يحب، مثل هذه العلاقة الروحية بين الصانع وصناعته كانت مألوفة في الصانع المصري (ومرة أخرى أقول إنني قصدت ب «الصانع» كل عامل أيا ما كانت صورة عمله) كان العامل يتقن العمل لذات الإتقان، كثر أجره أو قل؛ وذلك لأن الإتقان من واجبات الدين، إنني أعلم عن بعض الكتب القديمة التي قامت بطبعها مطبعة بولاق منذ أكثر من مائة وخمسين عاما، أعلم عنها خلوها من الأخطاء المطبعية خلوا يكاد يكون تاما، فلما أن أعيد طباعة بعضها في أيامنا الراهنة هذه، جاء فيها من الأخطاء المطبعية ما استوجب أن يلحق بها ملحق بقوائم التصحيح، ولا تسلني كم كان يتقاضى مصحح التجارب الذي لم يخطئ في عمله. منذ ما يزيد على مائة وخمسين عاما، لا، لا تسلني هذا السؤال، لأن الذي أعلمه عنه هو أنه كان «مصريا» ومعنى المصرية هو أن يعمل وأن يتقن العمل، بغض النظر عن العائد؛ لأنه مصري مؤمن بالله، والإتقان لذات الإتقان هو جزء من العبادة.
المصري صانع عابد، وعبادته تسري في صناعته - ذلك وهو في حالته السوية - وبالصناعة ترتبط الأواصر بينه وبين دنياه، وبالعبادة تقوم الصلة بينه وبين السماء، إنه أقدم إنسان على وجه الأرض أدرك أن يوم الحساب آت، ولقد رسم على جدران مقابره «ميزان» يوم القيامة، ومن وعيه هذا بالرابطة بين العمل في هذه الدنيا، وبين التبعات التي تترتب عليه أمام الله، ارتبط العمل عنده بأخلاقياته، إن المصري وهو على سجيته وفطرته، يخجله أن تعطيه أجر عمله بطريقة مكشوفة، ولذلك ترى المعطي يضع الأجر في غلاف أو يضمه في قبضة يده ليخفيه، وترى المتلقي يأخذ ما يأخذه مسرعا به إلى حيث يخفيه، مرجئا عملية العد والمراجعة إلى مكان يتوارى فيه، والسر وراء ذلك كله هو أن أخلاقيات العمل في ضمير المصري هي أن يكون العمل لذاته، وإتقان العمل من فروض الدين، وأن الأجر الحقيقي هو عند الله، ولا دخل للجنيهات والقروش في هذا كله، وليس حديثي هذا عن مصر كما نحياها اليوم، والتي هي - كما قلت - مصر بين مصرين، مصر كانت، ومصر سوف تكون بعون الله.
إن من رجال الفكر من يفرق في الناس بين نوعين: فنوع منهما يكون ذا عقل صلب، ونوع آخر في عقله لين، بمعنى أن أصحاب العقل الصلب هم أولئك الذين يتقيدون بالواقع كما هو واقع، بكل خشونته وغلظته وقسوته وصرامته، ومن هؤلاء يكون أصحاب المزاج العلمي، لأن العلم يأخذ الواقع على علاته - كما نقول - فلا هو يحط من شأنه، قائلا عنه إنه «مادة» ملعونة خسيسة، ولا هو يزخرفه ويزينه من أوهام الخيال؛ وأما أصحاب العقل «اللين»، فهم أولئك الذين يرفضون الواقع كما يقع، ولذلك تراهم - مثلا - يجعلونه غير جدير بالعناية كلها؛ إذ هو في حقيقته ليس أكثر من جسر نعبره لنصل به إلى الشاطئ الآخر، أو هو مجرد مجموعة من رموز وعلينا أن نقرأ تلك الرموز على هوانا نحن، لا على هواه، وإلى هذا الفريق ينتمي المتصوفة والشعراء، على أن هذين الضربين من «العقل»: ما هو «صلب» منها وما هو «لين» لا ينفصلان أحدهما عن الآخر انفصالا تاما، بمعنى أن يكون هنالك فريق من الناس لا يملك إلا «صلابة» العقل، وفريق آخر لا يملك إلا ليونة العقل، بل الصفتان تجتمعان في كل فرد من الناس، بنسب متفاوتة، فلكل إنسان لحظاته الواقعية بكل ما في الواقعية من صلابة وعناد، ولحظاته العاطفية، بكل ما في العاطفة من تلوينات وتحسينات أو تعديلات للواقع، حتى يكون في صورة جديرة بأن تعاش، والأمر بعد ذلك هو أمر «نسبة» فأصحاب العقول الصلبة «العلمية» هم من ترجح عندهم كفة الواقعية، وأصحاب العقول اللينة هم كذلك من ترجح عندهم كفة الرؤية العاطفية.
وإذ نقول عن المصري إنه صانع عابد، فإنما نريد بذلك أنه - في مراحله التي يكون فيها مصريا سويا غير منحرف عن تاريخه - ذو وقفة تتوازن فيها الصلابة واللين عند النظر إلى الواقع، فآنا هو «الصانع» الذي لا بد أن يعالج الأشياء على واقعيتها، فللأرض عند الزراعة طبيعتها، وللنحاس عند سبكه طبيعته، وهكذا، وآنا آخر هو المتدين العابد، الذي يستقبل الدنيا بقلبه وعاطفته، لا بلسمة أصابعه.
المصري صانع عابد، يتعامل مع هذه الدنيا وكائناتها بحواسه وجوارحه، ويتعامل مع الغيب بقلبه وإيمانه، هو واقعي في الحالة الأولى، صوفي في الحالة الثانية، هو مادي في أحد جانبيه، روحاني في الجانب الآخر، ولقد ساعده على الجمع بين الجانبين في شخصية واحدة متكاملة أنه نموذج بشري فريد، يجمع في صيغة حضارية واحدة خصائص فلاحة الأرض، وبداوة الصحراء، ومجتمع المدينة، ولذلك جاءت تركيبة القيم الأخلاقية والجمالية في حياته، أبعد ما تكون عن بساطة التكوين، فلو كان زارعا للأرض وكفى لكانت له خصائص الريف وحدها، ولو كان يحيا حياة البدو وحدها لكانت له خصائص أهل الصحراء بلا شريك، ولو كان ساكن مدينة فقط لكانت له في حياته قيم الحضر، ولكنه تلك الجوانب مجتمعة، وهي جوانب يمكن اختصارها في اثنين؛ لأن الفلاحة والبداوة معا تلتقيان في الرؤية الرومانسية في بساطتها وعاطفيتها، وأما حياة الحضر في المدينة فتغلب عليها النظرة الكلاسيكية بعقلانيتها وترفها، والمصري صوفي عابد بالجانب الريفي البدوي من تكوينه، وهو عامل صانع فنان بناء، بالجانب المدني من ذلك التكوين. وإذا استعرضت معظم شعوب الأرض، لما رأيت بينها هذا الطراز الذي يضم بين جنبيه في آن واحد، التعامل مع الغيب وكأن الغيب هو وجوده كله، ثم يتعامل مع أشياء الدنيا وكأنه ليس في وجوده إلا الدنيا وأشياؤها، فشعوب الغرب بصفة عامة، يلهيها عالم الشهادة عن عالم الغيب، وفي شعوب الصحراء والسهول والمراعي والجبال، ترجح عندها نظرة الشاعر على نظرة الصانع، وقليلة هي الشعوب التي تميزت - بحكم تكوينها الحضاري نفسه - برومانسية الريف وكلاسيكية الحضر؛ إنه ليصعب علينا أن نباعد بين العناصر المكونة للرؤية المصرية، بحيث نتصور المصري متميزا بعنصر منها فقط دون سائر العناصر، فالفلاح وهو على أرضه يحرثها ويبذر لها البذور، ويرعاها ويرتقب حصادها، يتصف بكل ما يتصف به الريفي من صفاء وصبر وأمل، حتى إذا ما أمسى عليه المساء، وجدته في القرية مستمعا إلى حكايات عنترة وأبي زيد الهلالي، التي هي حكايات تصور المثل العليا في حياة البداوة، وهو بين هذه وتلك يطوي بين جوانحه نظرة المتحضر في انخراطه مع سائر مواطنيه، تحت حكومة مركزية موحدة، تظل بأجنحتها شعبا موحدا، له صناعته وعمارته وسياسته وحروبه.
وأين تجد ذلك المصري الذي هو صانع وعابد معا؟ إنك تراه فيما صنعت يداه، تراه في كل مسلة قدت من الصخر العتي بإزميل قوي عبقري جبار، وارتفعت برأسها نحو السماء وكأنها كلمة دعاء في صلاة، إنك تراه في إخناتون يشهد أن الله واحد وراء كثرة الظواهر على الأرض وفي السماء، إنك تراه في راهب الدير يزرع ويعبد الله في حياة واحدة، إنك تراه في المساجد ومآذنها، التي لا تدري وأنت تشخص ببصرك إليها في روعة بنائها، أهي صلاة تجسدت في عمارة، أم هي عمارة ذابت في صلاة، إنك تراه في ذلك الشيخ الذي قرأت عنه، من شيوخ القاهرة منذ ثلاثة قرون، كان يؤذن للصلاة في مسجد ببولاق، ويقرأ القرآن بصوته الخاشع الجميل، ويؤم المصلين، ويقضي بعض نهاره وليله في العبادة، وبعضها الآخر في خدمة العاجزين من أهل الحي، وخصوصا المكفوفين منهم، يحمل عنهم العجين إلى المخبز، ثم يعود إليهم بالخبز، ويشتري لهم حوائجهم من السوق، إنك ترى ذلك المصري الصانع العابد في كل فلاح، في كل نجار وحداد وبناء، إنك تراه في نفسك أنت إذا استبطنتها وعرفت حقيقتها، لكن إذا تلفت حولك اليوم فلم تجده، فلا تقل إن المصري ليس كما وصفت، بل قل إننا لا بد أن نكون اليوم في مصر المؤقتة التي جاءت حلقة وصل بين مصرين: مصر التي كانت، ومصر التي سوف تكون بإذن الله.
ولقد تعلم المصري من تركيبة كيانه بجانبيها الصانع والعابد، تعلم منها الشيء الكثير، وحسبي أن يكون قد تعلم الدأب والصبر ورهافة الحس وروح السخرية ممن يتعلقون بالعابر الزائل؛ لأن المصري بأعمق أعماقه متعلق بالخلود.
لرسول الله - عليه الصلاة والسلام - حديث شريف، خلاصة معناه أن الناس أربعة أصناف في موقفهم من الغضب وسرعة إثارته وسرعة زواله، فهنالك نوع سريع الغضب سريع الفيء (أي زوال الغضب)، ونوع ثان سريع الغضب بطيء الفيء، ونوع ثالث بطيء الغضب سريع الفيء، ونوع رابع بطيء الغضب بطيء الفيء، وخير هؤلاء جميعا هو النوع الثالث، الذي هو بطيء الغضب سريع الفيء. انتهى معنى الحديث الشريف. ولقد نظرت إلى المصري على ضوء هذا التقييم، فوجدت أنه قد تعلم من حياته الصانعة المبدعة العابدة الطامحة إلى الخلود، تعلم من هذا كله أن يملك زمام نفسه فيبطئ في الغضب، ثم تدفعه روح التسامح أن يسرع في الخروج من ثورة غضبه، فهو - إذن - إنما يندرج في الفئة التي قال عنها رسول الله إنهم من خيرة البشر.
Shafi da ba'a sani ba