وضعف إيمان المصري بالعمل الذي يؤديه، فبعد أن كان الشعور السائد أثناء العمل هو إشباع العامل ل «مزاجه الفني»، أصبح السائد شعورا بالملل. كان العامل أثناء أدائه لما يؤديه يحس بكبرياء السيادة على المادة التي يخضعها لصنعته، فأصبح العامل أثناء أدائه للعمل الذي يؤديه يحس بذلة من أكره على عمل يمقته. وأما صفة الانتماء الأسري فربما يكون ما أصابها هو شيء من ضيق مجالها حتى كادت أن تنحصر بصاحبها في حدود «الأسرة النواة». وفي مقابل القيم التي نزل قدرها على سلم الدرجات هنالك جوانب صعد قدرها واتسع مداها، منها ذلك الجانب الذي قلنا عنه إنه قد يتبع الشعور الديني وهو يتبعه بصورة سوية أحيانا وبصورة فيها انحراف أحيانا أخرى، وأعني به التعامل مع الغيب في شئون الحياة الجارية، وعندما يتخذ ذلك التعامل صورته المنحرفة يجيء مشوبا بالخرافة، فتعلل الأمور بغير أسبابها وتبث قوة فيما ليس بذي قوة، أو تنزع القوة مما هو قوي الفعل والأثر؛ ومثل هذه الوقفة الشعورية المنحرفة قد ارتفعت في حياتنا عدة درجات لتأخذ لها مكانا في الصدارة.
كذلك طرأ تحول في صلة الشعب بالحكومة، فلم تعد العلاقة بينهما علاقة الحذر المشوب بالخوف، وهي العلاقة التي كانت فيما مضى تنتج في الناس رياء ونفاقا ومراوغة، فقد زال كثير جدا من دواعي الحذر الخائف لا ليزول تبعا لذلك الرياء والنفاق والمراوغة تجاه الحكومة، بل بقيت هذه الصفات كلها مع تغير في هدفها؛ إذ أصبحت وسيلة ناجحة في كسب المنافع بعد أن كانت فيما مضى وسيلة لدرء الخطر.
وبهذه التغيرات في ترتيب القيم داخل إطارها طرأ على المصري ما طرأ من اختلاف. وهنا ينشأ سؤال جديد ذو أهمية بالغة ولم أسمع به مثارا في حلقات البحث بين طائفة المثقفين، وهو: أيكون علاجنا للتغير الذي طرأ على «الذات» المصرية هو بالضرورة «إعادة» لتلك الذات إلى ما كانت عليه من قبل؟ بعبارة أخرى: أهو حتم محتوم أن يبقى الفرد الواحد أو الأمة الواحدة على «الذات» بعينها وبعناصرها ومقوماتها مهما اختلفت الظروف فذهبت عن الناس حال وجاءت إليهم حال جديدة؟ ألا يجوز أن نرى عند النظر الفاحص أن المصري إذ هو بحاجة يقينا إلى أن تبث فيه روح غير الروح التي تسوده الآن، والتي لخصها لي أحسن تلخيص الأستاذ الدكتور أنور عبد الملك ونحن نسمر بالحديث معا ذات يوم، إذ قال: إن مجمل ما طرأ على المصري من تغير هو أنه بعد أن كانت تحركه عوامل من داخل بلده، أصبحت تحركه عوامل تمسك بخيوطها قوى من خارج بلده. أقول إن المصري اليوم إذ هو بحاجة إلى روح جديدة تبث فيه، فلا أظنها ضرورة محتومة أن يجيء ذلك عن طريق العودة به إلى ما قد كان لأن بعض ما قد كان ربما لم يعد صالحا للحياة الجديدة التي نبتغيها.
مفتاح الشخصية المصرية
كثيرا ما ألمح الفكرة بسرعة اللمح بالبصر، ألمحها وكأنها لمعة من الضوء، ثم أمعن النظر في تلك الفكرة التي كنت لمحتها بتلك السرعة الخاطفة، أمعن فيها النظر لأستوثق من صدقها، ومن عناصرها وأبعادها، وإذا بها تفلت من قبضتي كلما ازددت فيها إمعانا، فذلك الوضوح الناصع الذي رأيته فيها عند اللمحة الأولى، يغشاه غموض الضباب شيئا فشيئا، بنسبة مطردة مع إمعان النظر، فقد يكون هنالك من الحقائق ما خلق للبداهة وحدها، تدركه بلمعة من البصيرة، حتى إذا ما أردت بعد ذلك تحليله وتوضيحه وتعليله، راوغك واختفى، فأمثال تلك الحقائق ترفع عن وجهها الحجاب لمن أراد رؤيتها بوجدان قلبه، لكنها تتمرد وتعصي وتحتجب لمن يصر على تشريحها لتوضيحها، فكأنما هي الرقائق التي توضع على القنوات لعبورها، فهي تسمح بالمرور لمن يخفف عليها وطء قدميه، ويسير عليها وكأنه ريشة طائرة في الهواء، وأما إذا ما دب عليها عابر بثقله الثقيل كله، انكسرت، فلا هو أتم عبوره، ولا هي احتفظت بوجودها وكيانها.
فلقد سألني سائل منذ عدة أشهر هل تستطيع أن تحدد لي مفتاحا للشخصية المصرية؟ فما كدت أقرأ السؤال في خطاب السائل، حتى لمع الجواب في ذهني بسرعة الضوء، وهمست به لنفسي قائلا: المصري صانع مؤمن بالغيب، أو قل إنه صانع عابد. ثم أكملت قراءة الرسالة التي بها ذلك السؤال، ونويت أن أجيب على السؤال ذات يوم، ولست أدعي بأنني خلال الشهور الأربعة أو الخمسة التي انقضت، كنت لا أنقطع عن التفكير في الإجابة، بل هي لحظات كانت تطفو بالفكرة على السطح، ثم تذهب اللحظة وتختفي الفكرة في زحمة الحياة، لكنني مع تلك الوقفات المتقطعة كنت أحاول تركيز النظر على الإجابة الأولى، التي كانت قد لمعت في ذهني فور قراءتي للسؤال، وهي أن مفتاح شخصية المصري، هو أن المصري صانع عابد، فكنت كلما أمعنت في تركيز النظر في تلك الإجابة، أرى فكرتها تفقد نصوعها الأول، عندما أدركتها بالبديهة الفطرية إدراكا مباشرا.
وأردت هذا الصباح ألا أترك الأمر للخواطر الخاطفة في اللحظات العابرة، فألقيت السؤال على نفسي من جديد، وكأنه ورد إلي في بريد الأمس، وإذا بالجواب ذاته تعيده بديهتي: المصري في صميمه هو صانع عابد، لكنني هذه المرة ألححت على الفكرة بالنظرة والتحليل، فماذا تريد بقولك هذا عن شخصية المصري؟ وكانت الخطوة القصيرة الأولى على طريق التحليل هي أن أستخرج ما هو مكنون في وصف للمصري بأنه «صانع» ووصفي له بأنه «عابد»، فالصفتان مختلفتان إحداهما عن الأخرى، اختلاف رجلين يتجه أحدهما نحو الشمال، ويتجه الآخر نحو الجنوب، وذلك لأن الصانع هو بحكم الضرورة يتعامل مع «الأشياء»، إذ ماذا هو صانع بصناعته إذا لم يكن بين يديه «شيء» يصب عليه الفعل؟ كالأرض يزرعها، وقطعة الحديد يطرقها ويشكلها مفتاحا للباب، أو رمحا للقتال، والحجر ينحته ويسويه ليقيم به بناء داره أو معبده، فلكي يكون الصانع صانعا، لا مندوحة له عن الاتصال الحسي بشيء مادي يجعل منه موضوعا لصناعته.
ولا كذلك «العابد» لأن جوهر العبادة - كالصلاة مثلا - هو تركيز الذهن في باطن النفس؛ تركيزه في الحضرة الإلهية التي للعابد أن يستغرق انتباهه كله فيها، فبينما «الصانع» ينظر إلى خارج نفسه، ينظر العابد إلى دخيلة نفسه، وبعبارة أخرى نتناول بها المعنى نفسه من زاوية ثانية، نقول إن الصانع يمارس صناعته في عالم الشهادة، وأما العابد فيتأمل في عبادته عالم الغيب، والإنسان في حالته الأولى - حالة كونه صانعا - يستخدم حواسه من بصر وسمع ولمس وغير ذلك، كما يستخدم أجزاء بدنه كالذراعين والرجلين، بينما هو في حالته الثانية - حالة كونه عابدا - يستحب منه أن يطمس على حواسه ما استطاع حتى لا ينشغل بالأشياء المرئية بالعين والأصوات المسموعة بالأذن، كما يستحب منه كذلك ألا يحرك من بدنه إلا الحد الأدنى الذي تتطلبه ضرورة الأداء، ولم يكن مصادفة أن يراعى في أماكن العبادة خفوت الضوء والهمس بالصوت، والمشي على أطراف الأصابع من القدمين (ونحن هنا لا نتفق مع من حرموا الذوق المرهف، فأخذوا يضيئون المساجد بمصابيح «النيون» بدلا من إضاءتها بالشموع الحالمة).
فإذا قلنا عن المصري إن مفتاح شخصيته هو أنه «صانع عابد» كنا بمثابة من يقول عنه «بلغة التحليل النفسي الحديث» إنه منبسط الشخصية ومنطويها في حياة واحدة، وفي اتزان يعادل بين الكفتين، فمن حيث هو صانع يتعامل مع الأشياء، لا بد بالضرورة أن يكون من الطراز البشري المنبسط الذي يخرج عن حدود ذاته، ليصل إلى الأشياء التي هي موضوع صناعته، ومن حيث هو مؤمن بالغيب، متعبد لله، لا بد له بالضرورة كذلك، أن ينسحب من دنيا الأشياء وصناعاتها، إلى حيث تقوم الصلة بينه وبين ربه؛ والتاريخ المصري الطويل، يمكن تلخيصه في كلمتين: عبادة وصناعة، وفي كثير جدا من الأحيان، كانت الصناعة من أجل العبادة. فبناء المعابد مثلا وما يلحق بها من صناعات وفنون إنما هي صناعة من أجل العبادة، ولما كانت مصر، من ناحية الأديان، قد مارست عبادتها في العهد الفرعوني، وفي العصر المسيحي، وفي عصرها الإسلامي، فقد اختلفت فيها صورة الشعائر الدينية من مرحلة إلى مرحلة، لكن الذي بقي معها عميقا وراسخا، منذ أول تاريخها إلى اليوم، هو الإيمان الديني بجوهر معناه، وأعني الإيمان بالله والغيب واليوم الآخر، وفي خدمة ذلك الإيمان قامت صناعات وفنون. على أن الذي أعنيه بصفة خاصة من التقاء الصناعة بالعبادة في شخصية المصري، هو مجموعة الصفات الخلقية التي تسري من عقيدته الدينية لتتحكم فيه وهو صانع. إننا لم نخطئ كثيرا في دعوتنا الأخيرة إلى وجوب العمل على «إعادة» المصري إلى مصريته التي غاب عنها اليوم شيء من جوهرها الأصيل، لا، لم نخطئ كثيرا في تلك الدعوة؛ لأن مصر اليوم بما قد أصابها من شروخ في جدرانها، لم تعد مصر التي كانت، كلا، ولا هي مصر التي نرجو لها أن تكون بعد حين، مصر اليوم هي مصر بين مصرين: إحداهما كانت وكانت أمجادها وأخلاقها، ومصر التي سوف تكون بإذن الله، بأمجادها وأخلاقها، وأما مرحلتها الراهنة ، فهي تشارك فيها الزعزعة الانتقالية التي تسود العالم كله في انتقاله من حضارة ذهبت، وأسدلت عليها الستار حربان عالميتان «1914-1918م» و«1939-1945م»، وفي مصر التي كانت، كان المصري وهو في دنيا الصناعة - أعني دنيا العمل بشتى صوره - يتخلق بالصفات التي تمليها عليه عبادته لربه، وليس هو من القليل النادر، حتى في يومنا هذا بكل ما أصابنا فيه، أن تسمع المصري يقول للمصري إنه إنما يتعامل مع ربه أولا، قبل أن يتعامل مع المصري المخلوق، وربما يكون هذا القول على لسان المصري اليوم مجرد ألفاظ أفرغت من معانيها، لكنها كانت مليئة بمعانيها عندما كان المصري فيما مضى يقولها لمواطنيه وغير مواطنيه، إنه حقا وصدقا كان يتعامل مع ربه بما يرضي ربه عنه، وبهذه الصلة الوثيقة بين العمل والعبادة كان المصري يحيا حياته.
لقد شهدت طرفا من ذلك العهد الذي انقضى، والذي كان فيه العمل والعبادة في حياة المصري يرتبطان بعروة وثقى، فكان المصري العامل - أيا ما كان نوع العمل - يجيد العمل لوجه الله، وليكن ما يكون بعد ذلك مقدار أجره، وكلنا يعرف تلك العلاقة الصوفية بين الفلاح وأرضه، إنه «يحب» أرضه كما يحب والديه وإخوته وأبناءه، إنه حين يحاول بجهده كله وفنه كله أن يهيئ لأرضه أن تنتج كذا إردبا من القمح، أو كذا قنطارا من القطن، فالروح التي تسري في كيانه عندئذ، ليست روح من «يبتز» من خصمه أكبر كسب مستطاع، بل هي روح الوالد الذي تزداد فرحته بنجاح ولده في الدراسة بدرجات التفوق.
Shafi da ba'a sani ba