وإذا طلب منا أن نوضح الفرق في نظام الحكومة بين بريطانيا والولايات المتحدة فهل تكون الإجابة بأن نعين الأشخاص الذين يؤلفون الحكومة في كل من البلدين أو يكون بأن نشير إلى الفوارق في «الشكل»، كأن نقول: إن بريطانيا ملكية والولايات المتحدة الأمريكية جمهورية، ثم نأخذ في ذكر تفصيلات الشكل في الحكومة الملكية في الأولى وتفصيلات الشكل الجمهوري في الثانية؟ إننا إذا أجبنا على هذه الصورة الثانية كانت إجابتنا دالة على أن موضع السمة المميزة هو في الإطار لا في المضمون.
وإذا طلب منا أن نفرق بين الدولة الأموية من جهة والدولة العباسية من جهة أخرى، فقلنا إن أهم فارق بينهما هو أن الدولة الأموية جعلت مبدأها «العروبة» بمعنى أن يكون الحكم في أيدي عرب خلص، في حين جعلت الدولة العباسية مبدأها - ظاهريا على الأقل - هو الإسلام بمعنى أن يشرك في الحكومة مسلمون من غير العرب كالفرس وغيرهم. وإذا كان هذا الفارق أساسيا في التمييز بين الدولتين من حيث المبدأ كان المعول هو على «الشكل» أكثر منه على ما يملأ ذلك الشكل من أشخاص معينين أو من أحداث معينة.
وإذا طلب منا أن نفرق بين «التصوير» في الفن المعاصر والتصوير في الفن كما عرفته العصور السابقة، فقلنا إن المميز الأساسي هو أن الفنان المعاصر لا يلتزم بشيء بالنسبة إلى ما هو واقع في الطبيعة الخارجية، بينما الفنان في العصور السابقة برغم رؤيته الذاتية لما يصوره إلا أنه كان على درجة كبيرة من الالتزام بالأشكال كما هي في الواقع الخارجي. وإذا نحن أقمنا التفرقة على هذا الأساس كنا بمثابة من يعول على الإطار أكثر مما يعول على مضمونه؛ واختر لنفسك شخصين من أقربائك أو أصدقائك وحاول أن تلتمس الفوارق بين الشخصية في أحدهما والشخصية عند الآخر، تجد أنك قد انتهيت إلى اختلاف بينهما في الإطار أو في ترتيب الأولويات عند هذا وعند ذاك، كأن تقول - مثلا - إن أحدهما لا يهتم بكسب المال اهتمامه بالراحة والمتعة، بينما الآخر يهلك نفسه في سبيل كسب المال - مهما يصبه من عناء، وأنت في هذه الحالة تفرق بينهما على أساس الشكل لا على أساس الحوادث الجزئية الفعلية في حياة كل منهما.
وأظنه قد بات واضحا ما أردته حين قلت إننا إذ نبحث عن «الذات» المصرية فالذي نبحث عنه هو: كيف يكون ترتيب الأولويات بين مختلف القيم أكثر مما يكون القيم نفسها. لماذا؟ لأننا إذا عولنا على «القيم» في ذاتها فالأغلب أن تجد التشابه شديدا بين شعوب الأرض جميعا، وبهذا تضيع منا المعالم المميزة لشخصية هذا الشعب أو ذاك، فكل شعوب الأرض تعتز بعقائدها الدينية، وكل شعوب الأرض تلتزم الانتماء إلى الأسرة وإلى الوطن، وفضلا عن ذلك فإننا إذا أخذنا في اعتبارنا تاثير البيئة في أهلها وجدنا تشابها بين الشعوب التي تسكن بيئات متشابهة وبين الشعوب التي تؤدي عملا متشابها كالمزارع أينما كان والصانع أينما كان.
لكن الموقف يتغير إذا جعلنا البحث عن شخصية شعب معين منصبا على الإطار، كما قلت، لا على ما يملأ الإطار من تفصيلات الحياة الفعلية، بمعنى أن ننظر كيف يرتب الشعب الذي جعلناه موضع البحث، كيف يرتب أولوياته.
وهنا تبرز الفروق بين الشعوب واضحة، كما تبرز التطورات التي تطرأ على شخصية الشعب الواحد في مراحل تاريخه، والمثل الذي نسوقه لذلك هو مثل مصر في التغيرات التي طرأت على ملامحها في مرحلتها التاريخية الحاضرة، وهي نفسها التغيرات التي نعنيها حين نقول عن مصر إن رؤيتها لذاتها قد اكتنفها ضباب ولهذا فهي في حالة البحث عن ذاتها، ومن ثم فقد كثرت بيننا الأحاديث والمناقشات والدراسات حول ما أسميناه بإعادة بناء الإنسان المصري.
فما الذي حدث للمصري بحيث دارت حوله الأحاديث بيننا وكثرت المناقشات والدراسات وقلنا عنه إنه قد انبهمت أمامه معالم الطريق؟ الإجابة عندي بناء على التحليل الذي قدمته هي أن تغيرا حدث في ترتيب الأولويات بين مختلف القيم التي أقام عليها ولا يزال يقيم عليها المصري بنيان حياته، وأعني أن المصري لم يكفر اليوم بقيمة آمن بها بالأمس، بل القيم في نسيج حياته هي هي، وأما التغير الطارئ فهو في «الإطار» الذي رتبت فيه تلك القيم، فبعض القيم التي كانت لها المكانة العليا هبطت درجتها في سلم التقويم وبعضها التي كانت لها مكانة أقل من أخواتها ارتفعت منزلتها وصعدت في سلم التقويم.
فمن أهم الخصائص المميزة للذات المصرية - ولقد سبقت لي الكتابة عنها في مناسبات كثيرة - عمق الشعور الديني، وكان أن تبعه عند المصري اتساع النطاق الذي يتعامل فيه مع «الغيب» إما بالإيمان الرشيد أحيانا، وإما بتهاويم الخرافة أحيانا أخرى؛ ثم يجيء بعد ذلك في خصائص المصري قوة انتمائه الأسري وهو انتماء لا يقف معه عند حدود «الأسرة النواة» كما يصفها كثيرون من كتاب الغرب اليوم، بمعنى الوالدين والإخوة، بل يوسع المصري من حدود الأسرة التي يشتد به الانتماء إليها لتشمل كذلك أبناء العمومة والخئولة ومن يتصل بهم، ثم يتميز المصري بحبه لأرضه ليس فقط من حيث هي أرض يزرعها، بل من حيث هي كذلك أرض يتصل بها ولادة ونشأة وذوي قربى. ولقد تفرع عند المصري من عمق إيمانه الديني وقوة انتمائه لأرضه وأهله حب يشبه الحب الصوفي للعمل الذي يؤديه، زراعة كانت أو صناعة أو غير الزراعة والصناعة. وأعني بالحب الصوفي هنا حبا للشيء في ذاته ولذاته لا للأجر الذي يترتب عليه، اللهم إلا إذا أريد بالأجر أجر من الخالق جل وعلا يوم يكون الحساب؛ فلم يكن زارع الأرض في مصر يشقى وكل ما يملأ رأسه هو كسب الرزق آخر الأمر، بل كان يضاف إلى ذلك في نفسه شيء من «العشق» للأرض والفخر بها إذا كثرت خيراتها، ولا بد لنا ونحن نذكر خصائص المصري كما عرف بها من النظر إلى علاقته بالحاكم كيف كانت، فسواء استطاع المصري أو لم يستطع منذ انتهى به عهد الفراعنة حتى هذا القرن العشرين أن يترجم الحاكم الأجنبي ليصنع منه ابنا من أبناء مصر فهي حقيقة تاريخية تبقى قائمة، وهي أنه طوال تلك العصور تعاقبت على مصر حكومات لم يكن الحكام فيها من أصلاب مصرية خالصة، ولذلك كان من الطبيعي أن ينظر الشعب إلى حكامه أولئك مستخدمين العبارة الجميلة التي قالها في هذا الصدد سعد زغلول «نظرة الطير للصائد، لا نظرة الجند للقائد»، ومن ثم كان الشعور الغالب على المصري بإزاء حاكمه هو شعور الحذر المشوب بالخوف، ونتج عن ذلك الشعور انعدام المصارحة بين الطرفين ، فكل طرف منهما يحاور الآخر ويداوره ويراوغه ويمالئه، وإذا لزم الأمر وجاءت الفرصة غدر به.
تلك هي بعض السمات البارزة في «الذات» المصرية كما عرفت خلال تاريخها الذي تلا عهد الفراعنة، والذي حدث في عصرنا الحاضر وأسميناه انحرافا عن الذات المصرية الأصيلة ليس هو أن زالت تلك الخصائص أو زال بعضها وبقي بعضها الآخر، بل هو أن تغير ترتيب الأولويات بينها، فقلت أهمية ما كان له أهمية كبرى، وزادت أهمية ما لم يكن له في ترتيب الأهمية إلا قدر قليل، وإذا نحن وفقنا إلى تحليل صحيح لما قد حدث من ارتفاع وانخفاض في سلم القيم الذي عشنا على أساسه دهرا طويلا، كانت لنا بذلك صورة دقيقة للانحراف الذي وقع.
وفي هذا أقول على سبيل الاجتهاد الذي لا أضمن له الصواب: إن من القيم التي هبطت درجة أو درجات صفة حب المصري لأرضه، فقد زال جزء كبير من ذلك العشق الصوفي بين الزارع وأرضه، وهل كان يمكن فيما مضى أن يرضى صاحب أرض في مصر أن «تجرف» أرضه لتتحول تربتها إلى طوب للبناء؟ لقد كانت تلك التربة في إحساس المصري كأنها قطعة من جسده الحي. وهل كان يمكن كذلك لزارع أن يهمل أرضه؟ تلك كانت تعد من الغرائب التي يتندر بها الرواة إن حدثت، لكنها لم تكن تحدث لأن ما بين المصري وأرضه كان كالذي بين العاشق الصوفي وما يتعلق به.
Shafi da ba'a sani ba