وأما الجزء الأخير من السؤال، وهو الجزء الذي يسأل عن الدين والفلسفة، أين يتفقان وأين يختلفان؟ فجوابه في إيجاز هو ما يلي: إنما يتفقان، أو يتلاقيان، عندما تبحث الفلسفة فيما وراء الطبيعة. فعندئذ تكون مسألة الألوهية واردة بالنسبة إلى الدين والفلسفة كليهما، ويختلفان أو قل يستقلان أحدهما عن الآخر، أو لا، حينما ينصب البحث الفلسفي على ميادين أخرى، كالذي تؤديه فلسفة العلم، وفلسفة الجمال، وفلسفة اللغة ... إلخ.
وثانيا هما يختلفان في أن المبادئ التي تبنى عليها البناءات الفلسفية بشرية وتختلف من فيلسوف إلى فيلسوف، ومن عصر إلى عصر، وأما الوحي الذي ينزل بالدين فهو - عند المؤمنين بذلك الدين - ثابت لا يتغير من فقيه إلى فقيه، ولا من عصر إلى عصر آخر.
السؤال الثاني: ما هي القيمة التي تمثلها الفلسفة في حياتنا العلمية؟ وهل مصر - من حيث هي دولة نامية - في حاجة إلى تدريس الفلسفة لأبنائها، كحاجتها إلى تدريس الطب، مثلا، أو العلوم العسكرية؟
الجواب: راجع إجابتنا عن السؤال الأول؛ لتزداد تبيانا للفلسفة ماذا تعمل، فقد أوضحنا أن الفلسفة تحفر تحت الأساس الذي يقام عليه بنيان العلم، التماسا للجذور التي منها انبثقت شجرة العلم، وذلك الأساس الذي تحفر تحته الفلسفة بحثا عن الجذور الأولية، يؤخذ في المجال العلمي مأخذ التسليم، فمثلا يقوم علم الرياضة على أساس «العدد»، أي إن علم الحساب مثلا يأخذ فكرة العدد مأخذ التسليم، ثم يبني فوقها عملياته من جمع وطرح وضرب وقسمة وغير ذلك من العمليات الرياضية، فتأتي الفلسفة لتسأل: وكيف جاء العدد إلى عقل الإنسان بادئ ذي بدء؟ ثم تأخذ الفلسفة في تحليلاتها إلى أن تصل بنا إلى الأوليات العقلية الأولى التي أنبتت آخر الأمر فكرة العدد، وهنا قد تسأل: وما فائدة ذلك؟ ويكفيني في الإجابة أن أذكرك بما يسمونه اليوم بالرياضيات الحديثة، فبعد أن مضى ما مضى من قرون، وكان تعليم الرياضة على نحو ما ألفناه، أنت وأنا، تنبه علماء الرياضة إلى أن تعليم الرياضة لا يجدي في عقل المتعلم كل جدواه، إلا إذا تعلمه عن طريق الأوليات المنطقية الأولى، التي كانت هي الجذور العقلية التي أخرجت فكرة العدد وغيرها من الأفكار الرياضية الأساسية؛ لأننا لو بدأنا تعليم الرياضة من وسط الطريق لم يستطع الدارس أن يعرف الحقيقة كاملة ليفهمها؛ إن الأمر عنده يكون شبيها بمن يدخل المسرح والرواية قد انقضى نصفها. ومن الذي نبه علماء الرياضة إلى أم الأسس التي كانوا يجعلونها نقط ابتداء في خطوط السير، ليست في حقيقتها نقط ابتداء، بل هي محطة في وسط الطريق. كانت فلسفة الرياضة على أيدي أعلامها في القرن الماضي هي التي كشفت لهم عن المخبوء الذي لم تكن أعينهم تراه، أو قل إن أعينهم لم تكن بها يومئذ حاجة إلى أن تراه.
فالعمل الفلسفي يا أخي ليس لهوا تلهو به جماعة الصبيان، ولكنه تبيين للأصول التي منها تفرعت ثقافة الناس التي يحيون في مناخها. خذ - مثلا - الحياة الدينية في صدر الإسلام، فلم يلبث المسلمون - أعني رجال الفكر منهم - أن أخذهم حب المعرفة لتنكشف لهم مضمونات المفاهيم الدينية الأساسية، فالمسلم «موحد لله» والإنسان العادي «يشهد ألا إله إلا الله »، لكن الفيلسوف المسلم هو الذي يأخذه القلق العقلي حتى يتبين حقيقة المعنى في مفهوم «التوحيد»، فيمضي في تحليلات فكرية، يلتمس بها الجذور والأصول الدفينة في جوف الفكرة، ولك أن تجيب لنفسك عن سؤال يسأل: ما هو الفرق بين الدين الإسلامي حين يكتفى منه بأفكاره عند أسطحها، والدين الإسلامي بعد أن يكشف فلاسفته عن تلك الخصوبة الغنية، وذلك الثراء الغزير من الأبعاد الفكرية الكامنة في بطون كلماته، فيكون ذلك الفرق هو الفلسفة وجدواها، وهي جدوى تكون الدولة «النامية» أحوج إليها، لتسرع في خطوات نمائها العقلي، ثم تسألني: وهل حاجتنا إلى تدريس الفلسفة لأبنائنا هي كحاجتنا إلى تدريس الطب والعلوم العسكرية؟ وفي هذا السؤال (وأمثاله كثيرة الورود في حياة الناس) مغالطة شديدة الخطر على أصحابها؛ لأن «الحاجات» التي يحتاج إليها الإنسان في حياته ليست «طابورا» نأخذ من مفرداته الأول فالأول، وإلا سألتك: هل حاجتك إلى عينيك أولى أو حاجتك إلى أذنيك؟ هل ثمار الشجرة أحق بالعناية أو جذورها؟ يا أخي إذا كانت حياتنا العلمية شبيهة بشجرة ذات جذور وجذع وغصون وأوراق وثمر، فليس في وسعك، ولا هو من حقك، كلا ولا هو في صالحك، أن تبحث عن الأجدى من هذه الأجزاء والأجدر بالعناية، فالجذور في باطن الأرض والأوراق والثمر فوق الفروع، كلها أجزاء، لولاها لما كانت الشجرة، وكلها حقيق بالعناية والرعاية في وقت واحد، وهل تدهش إذا زعمت لك أن مصر إنما تخلفت عن مكانها في مواضع الزعامة الحضارية للعالم، «ولقد استمر لها هذا الامتياز إلى القرن الخامس عشر»، أقول إن مصر تخلفت عن مكانها ومكانتها، بحيث أصبحت - كما تقول في سؤالك - دولة «نامية» (أو «نايمة» أو «متخلفة») حين ضاعت منها تلك الروح الفاحصة التي تشمل شجرة الحياة بأسرها، جذورا وفروعا وثمارا.
السؤال الثالث: اللغة العربية - لغة القرآن الكريم - تمر بمحنة خطيرة، تتمثل في تدهور مستواها بين المتكلمين بها من الشعوب العربية، فالعامية تتفشى بصورة خطيرة، حتى بين أساتذة المعاهد والجامعات. فماذا ترى من سبل للنهوض بها؟
الجواب: ليس عندي ما أجيب به أكثر مما عند أي عابر سبيل من أبناء اللغة العربية، فماذا تكون سبل النهوض باللغة غير التعلم ثم الاستعمال كلاما وقراءة وكتابة ؟ لكن الذي قد أضيفه، هو «طريقة» تعليم اللغة العربية؛ إذ لا بد أن تدخل في ذلك ثلاثة عوامل لا أراها اليوم قائمة بالقدر الكافي: أولها أن يكون كل درس، في أية مادة من مواد الدراسة، بغير استثناء، درسا في اللغة العربية كذلك، فدرس التاريخ - مثلا - درس في التاريخ ولغته، ودرس الكيمياء هو درس في الكيمياء ولغتها، وهلم جرا، فيخرج الدارس في نهاية الشوط، ولا فرق عنده بين أية فكرة علمية أو أدبية ولغتها الصحيحة التي يجب أن تجري فيها، والعامل الثاني هو «تذوق» اللغة، وتلك مهمة تقع على دروس اللغة العربية أكثر مما تقع على سواها، فليس اللغة هي مجرد مجموعة من رموز صماء جرداء تقضي للناس شئونهم في دنيا التبادل والتعامل، بل هي كذلك، وفي الوقت نفسه، «فن» فيه تعبير، والتعبير هو «عبور» ما هو في نفس المتكلم لكي يظهر للآخرين نطقا مسموعا، أو لفظا مكتوبا، بعبارة أخرى، فإن المتكلم أو الكاتب، إنما ينقل روحه من حالة الخفاء إلى حالة العلن، فيما يقوله أو يكتبه، وذلك هو المقصود حين يقال إن الإنسان هو أسلوبه: فبمقدار ما يوحي مدرس اللغة العربية إلى تلاميذه بهذا التوحد الذاتي بين الإنسان ولغته، يكون حرص هؤلاء التلاميذ في حياتهم المقبلة على أن يصونوا لغتهم من التفاهة والركاكة والضعف. وأما العامل الثالث، فهو مكانة اللغة في انتماء المواطن إلى وطنه، فالعجيب الذي يلفت النظر أن الإنسان العادي، الذي لا يرتفع إلى قراءة الأدب الرفيع وتذوقه، يأخذه الغضب إذا قيل له مثلا إن المتنبي أو أبا العلاء المعري ليس من أسلافنا الذين نعتز بالانتساب إليهم، فذلك الإنسان العادي يشعر بالعزة كلما قوي السلف الذي ينتمي إليه، وعلى رأس ذلك السلف هم سادة الكلمة. ومرة أخرى أقول إن مدرس اللغة العربية إذا استطاع أن يبث هذه الروح في تلاميذه، فإن هؤلاء التلاميذ سيكونون بعد ذلك ومن تلقاء أنفسهم، حريصين على ما بين أيديهم من كنوز.
السؤال الرابع: لماذا لا تكتب في قضايا الوطن، ومشاكله السياسية والاقتصادية والاجتماعية ؟
الجواب: لو جاز لي أن أكون ذا رأي فيما أكتبه، لقلت إنني بذلت جهدا لا يعرف قدره ومقداره إلا ربي وأنا، وكان ذلك الجهد متجها نحو خلق إنسان جديد، وأحسب أن لو تحقق لنا شيء من صورة ذلك الإنسان العصري الذي يحتفظ مع عصريته بهويته، تحقق لنا بالتالي من يحسنون معالجة القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعلى هذا الأساس أعتذر عن عدم الإجابة عن السؤالين الخامس والسادس؛ لأنهما يتناولان قضايا من تلك التي يجب أن يترك الحديث فيها لأربابها العالمين بشئونها.
السؤال السابع: كتبت في مقالك المعنون «سؤال عن الثقافة وجوابه» تقول: إن الثقافة هي مجموعة من القيم السلوكية والفنية والذوقية، وهي التي توجه الإنسان في اتجاه سيره، وفي ردود أفعاله، فليست الثقافة محصولا معينا من المعارف والمعلومات، بدليل أن ما يعرفه مثقف هنا قد لا يعرفه مثقف هناك، بل هي الزهرة التي تخرجها تلك المعلومات والمعارف، ثم ذكرت أن للثقافة مصادر ثلاثة، هي الدين والأدب والفن.
Shafi da ba'a sani ba