أقيمت بين الرجلين تلك المناظرة التي أشرنا إليها، والتي حضرها عدد كبير من العلماء وأصحاب الشأن. وساد شعور بين الحاضرين بأن الأمر ليس مجرد مقابلة بين نحو ومنطق، بل الأمر في حقيقته مقابلة بين ثقافتين، ولأيهما تكون السيادة على الأخرى. والظاهر أن حكم الجمهور كان قد أبرم قبل أن يبدأ المتناظران في الكلام، وكان ذلك الحكم المسبق في صالح أبي سعيد السيرافي اللغوي، وضد متى بن يونس المنطقي، لماذا؟ لأن شخصية الأول تلقى القبول منذ اللحظة الأولى، بقدر ما تثير شخصية الثاني نفورا، فالأول في الأربعين من عمره، وأما الثاني فكان قد جاوز الخامسة والسبعين من عمره - وكان مخمورا دائما - وأحيانا كان لا يعي ما يقول، فضلا عن الخسة التي كانت تبدو في سلوكه مع تلاميذه، إذ كان لا يعطي ورقة إلى أحدهم إلا إذا دفع درهما، ولم يكن فوق ذلك كله حسن الهندام ولا نظيف الثياب.
أما وجه الحق بينهما فهو - في رأي كاتب هذه السطور - مع أبي بشر متى بن يونس بلا ريب، في أن نحو اللغة شيء، ومنطق العقل شيء آخر، وأقل ما يقال في هذا أن النحو خاص بلغة بعينها، وأما المنطق فللفكر، للناس جميعا؛ ويستطيع المنطق أن يستغني عن ألفاظ اللغة كلها - عربية وغير عربية - وأن يستخدم الرموز الخالية من المعاني، كما هو الشأن فيما يسمونه اليوم بالمنطق الرمزي، أو بالمنطق الرياضي.
ومع ذلك فقد وقع الرجلان معا في خلط - كما يرى كاتب هذه السطور أيضا - ولو كانا معا قد تنبها إلى موضع ذلك الخلط لما دارت بينهما المناظرة أساسا، وذلك أنهما لم يفرقا بين المستوى «العلمي» والمستوى «الفلسفي» في الموضوع الواحد، فإذا كان موضوع البحث هو «اللغة» كما هو الشأن في هذه الحالة التي بين أيدينا، كانت القواعد - نحوية وغير نحوية - هي عند المستوى «العلمي»؛ لأنها بمثابة القوانين المستخلصة من الظاهرة المبحوثة (والظاهرة المبحوثة هنا هي «اللغة»)، وذلك هو شأن «العلم» في أي ميدان من ميادينه. وأما إذا جاوزنا تلك القواعد ذاتها للنظر فيما تنطوي عليه من «مبادئ» أي ما تنطوي عليه من «صور أولية» وجدنا أنفسنا عندئذ في مجال «المنطق». فلو فرضنا - مثلا - أن هنالك عند مختلف الشعوب مائة لغة. كان هنالك بالتالي مائة مجموعة من قواعد النحو؛ لأن لكل لغة نحوها الخاص، ولكننا إذ نجاوز تلك المائة من مجموعات القواعد النحوية إلى ما يكمن وراءها من أصول، أو مبادئ أو صور أولية، وجدناها جميعا تلتقي عند جذور مشتركة واحدة من مبادئ الفكر، وتلك المبادئ المشتركة بينها هي بعينها علم المنطق.
فلو تنبه الرجلان - أبو سعيد السيرافي اللغوي وأبو بشر متى بن يونس المنطقي - إلى هذه التفرقة بين ما هو «علم» للغة يختلف بين عرب ويونان، وما هو «فلسفة» - أي ما هو مبادئ أولية - لما وجد الرجلان وجها للتناظر، فأبو سعيد يقف بنحوه عند «قواعد» اللغة العربية، وأبو بشر يتحرك في المجال الأعمق، وهو المنطق الذي يضم قواعد اللغة العربية وقواعد اللغة اليونانية وقواعد أي لغة في الدنيا، وإذا كان هذا هكذا، ففيم يتناظر الرجلان، وكل منهما يتحرك في مجال غير الذي يتحرك فيه زميله؟
أما بعد، فهاتان صورتان من الحياة الثقافية كما كانت بين العرب الأقدمين في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وأود لو سأل القارئ نفسه: أين من تلك الحياة، في عمقها، وجديتها، حياتنا نحن الثقافية في اكتفائها بخلاصات مخطوفة، لا هي تغني من فقر، ولا تسمن من هزال؟
والنقط كذلك تحت الحروف
في الأبجدية الإنجليزية حرفان فقط هما المنقوطان، والنقطة في كلتا الحالتين توضع فوق الحرف، وهي تختفي كلما جاء ذلك الحرف «رأسا» (كما يصفونه) ويكون ذلك إما وحرف الرأس قد جاء موضعه أول الكلام، وإما أن يكون هو الحرف الأول في أسماء الأعلام، والمهم عندي الآن، في سياق هذا الحديث، هو أن حرفين اثنين فقط هما المنقوطان في تلك الأبجدية، وأن النقطة في جميع حالاتها فوق حرفها، ومن هنا دأب أصحاب اللغة الإنجليزية على استخدام العبارة التي ابتكروها لأنفسهم ولحروفهم وهي عبارة «وضع النقط فوق الحروف» إشارة منهم إلى وجوب أن يكون الكلام واضحا وخاليا من اللبس، كما يكون الحرف المنقوط منقوطا، خشية أن يلتبس أمره على القارئ إذا غابت عنه نقطته.
وجئنا نحن فنقلنا عبارتهم المجازية تلك، نقل مسطرة، حتى شاعت العبارة بين المتحدثين والكتاب؛ فيقولون لك إنهم يضعون النقط فوق الحروف، ولكن ماذا لو كانت أبجديتنا العربية تشتمل على ثلاثة حروف منقوطة تحتها لا فوقها، وهي الباء والجيم والياء؟ (واعلم أيضا أن في أبجديتنا اثني عشر حرفا تجيء النقط فوقها) فلو أن الكاتب أو المتكلم الذي نقل تلك العبارة المجازية عن الإنجليز، قد تنبه إلى أن موقف الحروف عندهم يختلف بعض الشيء عن موقفها عندنا، لتحوط للأمر، والتمس طريقا يتيح له أن ينتفع بما عند الآخرين، وذلك بأن يعدله تعديلا يتناسب مع ما عندنا، فبدل أن يقول أضع النقط فوق الحروف، يكتفي بالقول أضع نقط الحروف؛ لتشمل ما فوقها وما تحتها جميعا.
قد ترى - وربما رأيت معك - أن المسألة هنا أتفه من أن تثير الاهتمام، لكنني لم أردها لذاتها؛ بل أردت أن أتخذ منها رمزا أشير به إلى مواقف حضارية وثقافية لها أهميتها وخطورتها، ومع تلك الأهمية وهذه الخطورة ترانا قد فعلنا بها ما فعلناه في نقط الحروف، وأعني أننا نقلنا ما عند الآخرين إلى حياتنا نقل مسطرة وتجاهلنا ما كانت تقتضيه ظروف حياتنا من وجوب التعديل، بمعنى أن ننتفع بما عندهم بعد أن نعيد صياغته قليلا أو كثيرا بحيث يصبح شاملا لما هو عندنا أيضا.
ففي المناخ الفكري القائم في عصرنا هذا، سؤال مضمر كثيرا ما يحفز على التفكير، وقد تختلف عنه الإجابات، وإن يكن معظم من تعرضوا للإجابة متفقين على رأي، هو نقيض الرأي الذي كانت له السيادة المطلقة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، والسؤال المضمر الذي أشرت إليه خاص بالثقافة، ومعاييرها؛ فهل لكل عصر معين ثقافة «رفيعة » واحدة، وهي - عادة - ثقافة الأقوى؟ أو أن الثقافة ليست كالعلم، فبينما العلم واحد للجميع، فلا فرق بين علم الكيمياء أو الفيزياء عند الإنجليز وبينه عند الياباني أو المصري، ترى الثقافة تتعدد صورها ومعاييرها بتعدد الشعوب، فالموسيقى أو التصوير أو الشعر عند الإنجليز ليست كمقابلاتها عند الياباني أو المصري، وإذا كان ذلك كذلك فلا ينبغي بشعب أن ينقل «الثقافة» في أي صورة من صورها، عن شعب آخر؛ فلكل شعب حياته بما يملأ ذلك؛ الحياة من خبرات أسعدته أو أشقته؛ ولكل شعب رؤاه التي نظر بها إلى الكون وإلى الإنسان، وإلى عالم الغيب، وغير ذلك وما «الثقافة» عند أي شعب إلا التعبير عن تلك الخبرات وهذه الرؤى.
Shafi da ba'a sani ba