قلت: يا لهول المأساة، هل لك أن توجزي فلسفتك في عبارات قليلة، لأوازن بين الجريمة والعقاب؟
قالت: أتقول «جريمة» عن فكر فاحص باحث دءوب؟ لا، لا، إنه لا جريمة هناك، وما كانت فلسفتي إلا صدى للفلسفة التي سادت الإسكندرية منذ نحو قرنين! فلقد كانت الإسكندرية - ولا بد أن تكون على علم بذلك - نقطة التقاء الشرق والغرب في كل شيء، من تبادل السلع في دنيا التجارة، إلى تبادل المذاهب الفكرية في دنيا الفلسفة، وكانت الإسكندرية كذلك، هي التي رفعت لواء الفكر، بعد أن وهنت دون حمله مدينة أثينا، وكان قد جاءنا فيما جاءنا من اليونان فلسفة أفلاطون، فأخذناها، لكننا طبعناها بطابع مصري أصيل، كشأن مصر دائما في عصور قوتها، وماذا يكون الطابع المصري الأصيل، إن لم يكن هو التدين والتصوف؟ وهكذا مزجنا الأفلاطونية اليونانية، بجرعة قوية من الدين والحس الصوفي، فكان لنا بذلك ما يسمونه بالأفلاطونية المحدثة، وكان حقها أن تسمى بالأفلاطونية المصرية، والفضل في إبداعها هو لذلك الأسيوطي «أفلوطين» الذي كان قد جاء إلى الإسكندرية من موطنه أسيوط في صعيد مصر، جاء يطلب العلم واكتساب الحكمة، ولست أنا إلا تابعة من أتباعه.
قلت: الحق أني لا أجد في تلك الرؤية الفكرية ما يستحق العقاب.
قالت: أبدا، أبدا ليس فيها ما يعاب، فهي رؤية تؤكد وحدانية الله ودوامه ومشيئته، بالنسبة إلى مخلوقاته المتعددة المتغيرة الفانية، ثم هي تقدم تفسيرا معقولا لخلق الله للعالم، إذ تشبه ذلك بالشمس يفيض عنها الضوء.
قلت: لا تحزني يا فتاتي، فالذين - واللائي - اغتالهم الجهل والتعصب كثيرون في التاريخ، وتحضرني الآن قصة ذلك المتصوف التقي الورع عبد الله بن حباب، الذي جاءت حياته بعد حياتك بمائة عام أو يقرب منها إذ فاجأته جماعة من الخوارج بمثل ما فاجأتك الجماعة المتهوسة التي رويت لي حكايتها.
قالت: ومن هم الخوارج، ومن هو عبد الله بن حباب؟
قلت: لقد نزل على العالمين بعد عهدك بأقل من قرن واحد، دين الإسلام، وكان محمد - عليه الصلاة والسلام - هو في ذلك نبي الله ورسوله، وبين أصحابه كان عبد الله بن حباب، الذي بلغ من حبه للإسلام أن علق كتاب الله حول عنقه بخيط ليظل الكتاب على صدره، وأما الخوارج فهم جماعة اجتمعت فيها متناقضات، فبينما هم يوصلون في عبادة الله ليلهم بنهارهم، حتى لقد كانت جباههم تتقرح من كثرة السجود على الرمل والحصى، كانوا من غلظة القلب على من يخالفهم في الرأي، بحيث لا يترددون في قتل المخالف، والنقطة الأساسية عندهم في اختبار من يصادفونه من المسلمين، هي رأيه في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهو الذي «خرجوا» على طاعته، حين اعتقدوا أنه لم يلتزم كتاب الله في نزاع قام حول الخلافة، فمن وجدوه من المسلمين مواليا لعلي، قتلوه، فاسمعي ما جرى من حوار قصير بين نفر من هؤلاء الخوارج، وعبد الله بن حباب، وقد كان عبد الله هذا مع زوجته في داره، حين سمع صوتا آتيا من الطريق، عرف منه أن رجالا من الخوارج، يجوبون الحي ليفتكوا بمن وجدوهم مخالفين لهم في الرأي، فخرج عبد الله بن حباب ومعه امرأته، ليلوذا بالفرار حتى لا يصيبهما السوء، لكنهما ما كادا يخرجان من دارهما، حتى أمسك بهما هؤلاء الرجال، ودار الحوار الآتي:
الخوارج لابن حباب :
إن هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتلك.
ابن حباب :
Shafi da ba'a sani ba