إذا كنت قد صبرت معي خلال الفقرة السالفة، واستوعبت الأنواع الثلاثة ل «المعاني»، فتعال ندقق النظر في «الروحانية» التي ننعت أنفسنا بها، ونتخذها تعلة نتعلل بها، كلما تحركت ضمائرنا لتحاسبنا على حياة التخلف التي نحياها في طمأنينة ورضا؛ يقينا إن معنى «الروحانية» ليس من النوع الأول الذي ضربنا له مثلا عبارة «تمثال نهضة مصر»، فليس هنالك شيء قائم على الأرض، نشير إليه قائلين: تلك هي الروحانية، كما نشير إلى الهرم الأكبر وجبل المقطم ونهر النيل، والأغلب كذلك أنها ليست من النوع الثالث، الذي يشمل الأشياء التي تسمى كائنات من خلق الخيال، وردت في رواية أو قصيدة شعر، إنها ليست من قبيل واق الواق، أو العنقاء، أو مصباح علاء الدين، وبقي لنا النوع الثاني من أنواع المعنى، الذي قلنا عنه إن المعنى فيه يكون تصورا عقليا يمكننا شرحه للسائلين، وإما أن يكون لذلك التصور تجسيد في عالم الواقع - كما يحدث أحيانا - وإما ألا يكون له مثل ذلك التجسيد - كما يحدث أحيانا أخرى - وقد ضربنا مثلا لهذا النوع من المعاني كلمة «حرية» ومثلها في ذلك كلمات كثيرة، وأحسب أن «الروحانية» هي من هذا القبيل، فهي تصور ذهني لنمط معين من السلوك ومن وجهة النظر إلى الكون والإنسان، على أن ذلك التصور الذهني قد يجد في عالم الواقع ما يجسده أو لا يجد.
فما هي العناصر الأساسية، التي نتوقع لها أن تكون مكونة لمفهوم «الروحانية» في أذهاننا؟ لا بد أن يكون واضحا أمامنا - بادئ ذي بدء - أن اسم الروحانية منسوب إلى الروح، وأن الإنسان في تصوره العقلي، إذا ما ذكر الروح، قابله بالجسد، فالإنسان يتصور نفسه ذا جانبين: أحدهما مشتق من عالم المادة، والآخر آت إليه من حيث لا يدري أحد من أمره شيئا، سوى الخالق سبحانه وتعالى، فالزاعمون بأنهم «روحانيون» في طريقة حياتهم، لا بد أن يكون بعض ما يقصدون إليه هو دورانهم في حياتهم حول محور ذلك العنصر المجهول من كيانهم البشري، أي «الروح»، وأما البدن وحاجاته فيكتفي في شئونه بالحد الأدنى الذي يضمن للإنسان استمرار الحياة، من طعام وشراب وسائر ما هو خاص بالوجود البدني.
وأما عن حياة الروح، فأهم ما يرد عنها إلى الخاطر هو عبادة الله جل شأنه، وعلى الرغم من أن العبادة في معظم أركانها تعتمد على الجسد، فالشهادة ينطق بها اللسان ومعه سائر أجزاء الجهاز الصوتي، والصلاة وقوف وركوع وسجود ونطق، والصيام امتناع الجسد عن الطعام وغير الطعام مما يتصل بحاجات الجسد، والحج طواف ووقفة على عرفات وعبارات تقال ورمي للجمرات ... إلخ، وكلها يؤديها الجسد، أقول إنه على الرغم من أن الجسد أداة ضرورية لأداء العبادات، إلا أنه في ذلك مجرد أداة، وأما الغاية فهي من شأن الروح التي لا يعرف أمرها وسرها إلا ربها.
إلى هنا والتقسيم بسيط وواضح، وخلاصته أن من يزعم عن نفسه أنه روحاني، فإنما يعني أنه لا يعنى بحياة بدنه إلا من حيث هو أداة، وأن عنايته تنصب على العبادات، وهو تقسيم، إذا وسعناه، استطعنا أن نجعل شطريه - بدل قولنا جسد وروح - دنيا وآخرة، فالحياة الدنيا لا بد منها، لكنها ليست مقصودة لذاتها، وإنما قصد بها أن تكون معبرا لما هو غاية في ذاته، وأعني الحياة الآخرة، ومن هنا كان وصف الإنسان لنفسه بأنه «روحاني» يتضمن اكتفاءه من شئون الدنيا بالحد الأدنى الضروري للبقاء ، فهي - كما قيل عنها - دار مفر لا دار مقر.
لكن تعال معي نمعن النظر أكثر فأكثر، فيما تتضمنه «العبادة» ومفهومها، إنها وإن تكن في معظمها تتجلى في صورة حركات بالجسد، بما في ذلك ما ينطق به اللسان من كلمات وعبارات، فإن هذا كله لا يكون شيئا إذا لم نجاوزه إلى دلالاته، وليس هنا الموضع الذي نتناول فيه تلك الدلالات بالتفصيل، لكن الذي يهمنا منها في سياق حديثنا هذا هو ما تنطوي عليه العبادات من «قيم» مطلوب لها أن تنتقل من مجرد كونها كلمات ينطق بها العابد، لكي تصبح ضوابط للسلوك الفعلي الذي يمارسه ذلك العابد في حياته العملية اليومية، وقارئ كتاب الله الكريم إنما يقرأ في كل آية من آياته عن قيمة من القيم العليا، التي من شأنها أن تجعل من الإنسان الفرد إنسانا كاملا، وأن تجعل من ذلك الإنسان الفرد حين يواطن آخرين ويشاركهم في وطن واحد وفي أمة واحدة، مواطنا كاملا، و«الروحاني» هو ذلك الذي يحيا حياته وفق المعايير التي تفرضها تلك القيم.
فكم مرة يقرن الكتاب الكريم إيمان المؤمن بما يعمله من صالحات؟ وكم مرة يحض الكتاب على الصدق والإخلاص والأمانة؟ كم مرة يدعو الكتاب إلى فك الرقاب وإطعام المسكين ورعاية ذوي القربى؟ كم مرة يدعو الكتاب إلى الجهاد في سبيل الله؟ كم مرة ينادي بوجوب الرحمة والعدل؟ كم مرة يشجع المؤمن على النظر في خلق الله والتعقل والحكمة والتدبر؟ فحياة «الروحاني» هي حياة تجمع من هذا كله ما استطاعت قدرة البشر، لقد شاء لي الله في لحظة مباركة أن ألحظ فارقا عظيما في مغزاه، بين تصور الإسلام للقيم الأخلاقية وتصور غيره من عقائد ومذاهب، وهو أنه بينما «المثل العليا» عند تلك العقائد والمذاهب إنما هي «نماذج» يتصورها الإنسان ليجعلها غاية يسير نحوها، مع استحالة أن يحققها هنا في هذه الدنيا، أي إنه يتحتم بحكم الضرورة أن تكون هنالك فجوة بين المثل الأعلى من جهة وسلوك الإنسان الفعلي من جهة أخرى، مهما بلغ ذلك السلوك من درجات الكمال ، ترى التصور الإسلامي يدمج الطرفين معا فيما هو ممكن للإنسان أن يحققه، بمعنى أن سلوك المسلم الحق، هنا على هذه الأرض، يمكن أن يتطابق مع ما هو مثل أعلى، ذلك لو أخلص المسلم لعقيدته، وصدق فيها، وآمن بها على النحو الذي يصور به الكتاب الكريم جماعة المؤمنين، مفرقا بين من أسلم مجرد إسلام، وبين من أسلم وآمن، وهذا هو «الروحاني» في حياته وفي رؤيته، وفي تعامله مع الناس، إن الكتاب الكريم يشير إلى فرق بين من يقنع في حياته بمجرد «حياة» (بغير أداة التعريف) وبين من يحيون «الحياة» (بأداة التعريف) كما ينبغي لها أن تكون.
وبعد أن رسمنا هذه الصورة الموجزة ل «الروحاني» فإنه من حقنا أن ننظر إلى صور من الحياة الفعلية التي يحياها أولئك الذي يرفضون علوم العصر، وفنون العصر، وأدب العصر، ونظم العصر لأنهم «روحانيون». أما أبناء العصر فماديون حقت عليهم اللعنات، وهنا أترك لكل قارئ أن يراجع خبراته بمسالك الناس من حوله وفي دواوين الحكومة وفي الأسواق وفي أي ميدان آخر يختاره للمراجعة والنظر، ليرى إن كان فيما يراه ويراجعه من «الروحانية» ما يساوي أن نتخلف على طريق الحضارة، تاركين لغيرنا أن يكونوا هم العلماء، وهم المبدعون.
أهو «مادي» من يفني حياته منقبا في الأرض، وغائصا في البحر، وطائرا في الهواء وما يجاوز الهواء، ليزداد علما بخلق الله؟ وهل هي «الروحانية» أن نتربع على الأرض جلوسا، في انتظار «الخواجة» ليخرج لنا من أرضنا بترولها وحديدها ونحاسها؟ أهو «مادي» ذلك الذي صنع لنا «القمر الصناعي العربي» الذي ينتظر استخدامه بعد قليل، والذي إذا سمعت ما سوف ينجزه للأمة العربية ذلك القمر الصناعي فكأنك سمعت المذهلات من سحر الساحرين؟ وهل «الروحانية» هي أن نجمد كالمقعد الأشل، انتظارا لما يصنعه لنا ذلك «المادي» الملعون، فننعم نحن بما صنع؟ أحقا تكون أجهزة كأجهزة الحاسبات الإلكترونية «مادية» وهي تؤدي ما يؤديه «العقل» في دقة لا تستطيعها عقول البشر في حالتها الفطرية؟ إن جهازا من تلك الأجهزة إنما هو عقل مجسد، فكر مجسد، علم مجسد، وليس هو قطعة من حجر الأرض ملقاة في فلاة، أهي «مادية» تلك الأجهزة الدقيقة التي تصور للطبيب حنايا القلب في مريضه، وثنايا أمعائه، ليقوم بالعلاج على بصيرة وهدى؟ متى، وأين، منذ كان على الأرض إنسان خلت حياة الإنسان من استخدمه للآلات في زراعة أرضه وإقامة بيوته ونسج ثيابه؟ فهل تكون روحانية إذا ظلت تلك الآلات على سذاجتها الأولى، وتنقلب «مادية» إذا زادها الإنسان لنفسه دقة وتهذيبا؟
أم يريد أولئك الذين يضربون الطبول وينفخون في الأبواق تنفيرا للناس من عصرهم وحضارته، إني أسأل: أم يريد هؤلاء بالمادية تلك الفنون والآداب، من موسيقى وشعر، وتصوير، وعمارة، التي قصارى جهودنا حتى الآن أن نحاكيها فنزداد بالمحاكاة غزارة وثراء ونورا، فكيف بنا إذ كنا نحن الأصلاء المبدعين؟ كنت أتمنى للدعاة الذين يملئون علينا الهواء صياحا، في محاربة العصر وعلوم العصر وفنون العصر، ويصدقهم الناس، كنت أتمنى لهم ألا يجدوا أنفسهم مضطرين اضطرارا أن يستخدموا في صياحهم تلك الأجهزة والآلات والوسائل التي هي «مادية» صنعها «الماديون» الأشرار، لكنهم يصيحون صياحهم في مذياع هو من صنع الماديين، وفي تلفاز هو من صنع الماديين، أو هم ينشرون صياحهم مطبوعا بمطابع هي من صنع الماديين، ويكتبون ما يكتبونه بأقلام هي من صنع الماديين، ويلبسون ثيابا نسجت بمكنات من صنع الماديين، ويسكنون عمارات بنيت على طراز معماري هو من فن أولئك الماديين، أحلال لنا أن نستخدم كل هذه الوسائل، وحرام على أصحابها أن يبدعوعها؟ اللهم سبحانك.
لا، لا، يا رجل - هكذا قد يصرخ في وجهي من يصرخ - ليست هذه الأمور المادية التي نعنيها، وإنما نعني «الأخلاق»، ففي حياة تلك الشعوب المتحضرة بحضارة العصر - والعياذ بالله - فوضى بين الرجال والنساء تأباها الأخلاق، وفي حياتهم خمر، وقنابل ذرية تفتك بالبشر ... إلى آخر ما يقولون، فمن ذا يصدق أن حياة فيها من الفوضى الخلقية ما يزعمون تستطيع أن تبلغ من العلم ما بلغوه، ومن الفكر والفن ما بلغوه، ومن النظام في شئون الحياة اليومية ما بلغوه؟ ومع ذلك فليس الأمر بيننا هجوما ودفاعا، فعصرنا مثقل بمشكلاته، فلماذا لا ننظر النظرة الصادقة ونعد العصر عصرنا ومشكلاته مشكلاتنا؟
Shafi da ba'a sani ba