ثم كلما ألمت بنا مصيبة من طاغية يطغى أو رئيس يتنطع في السياسة أو الدين عدنا إلى فولتير فنجد فيه العزاء والدواء، فقد أمضى حياة طويلة بلغت 83 سنة وهو يحارب الجور والاضطهاد، ويزرع في الناس بذور الحرية، ويداور الحكام الطغاة ويمكر بهم، ويطبع كتبه بغير اسمه لأنه لم يكن يبغي منها الشهرة بل كان يبغي نشر الأفكار والآراء، ولكن الشهرة جاءته حتى إنه عندما زار باريس في آخر حياته كانت رحلته من سويسرا إليها في رأي أحد الأدباء الإنجليز «من أكبر حوادث القرن الثامن عشر» لكثرة من وفد عليه من الأهلين لرؤيته. حتى كانت سفرته أشبه بالموكب منها بالسفر المألوف.
وحبس فولتير مرتين في الباستيل، شيخ السجون ورمز الاضطهاد، ونفي مرة إلى إنجلترا، وكل ذلك في سبيل رفعة الإنسان وتحريره من الخرافات وهدم السلطات الجائرة، ولكنه عاد من إنجلترا وقد ازداد قلبه قوة وتقديرا للحرية.
وإذا ذكرنا فولتير ذكرنا ابتسامته التي لا تفتأ تلعب بل ترقص على شفتيه. ابتسامة الحنان والشفقة للمنكوبين والمظلومين، وابتسامة التهكم والتقريع للطغاة والظلمة، فقد حكي أنه عندما خرج من الباستيل بعث بخطاب لملك فرنسا يقول فيه: «أرجوك يا مولاي ألا تكلف نفسك في المستقبل نفقات مسكني.»
ولما أعياه المرض وانطرح على فراشه وأخذ في نزع الموت حاول الذين حوله أن يستخلصوا منه اعترافا فقال لهم: «أموت في حب الله وحب الأصدقاء، لا أكره أعدائي، وإنما أمقت الخرافات.» فوضع بهذه الكلمات ناموسا جديدا للإنسان.
وفي سنة 1771 أي بعد أن مضى على موته ودفنه 13 سنة أخرج أهل باريس رفاته وحملوها في موكب على نعش كأنه عرش يحفه الزهور ويتعالى حوله الهتاف، ويسير الناس وراءه بالآلاف هذا يصفق وهذا يهتف وهذا يبكي من الفرح، وهذا ينشد له مقطوعة من الشعر وهذا يحمل في يده حكمة مما فاه به في حياته. حتى بلغوا الباستيل الذي حبس فيه مرتين، وكان الباريسيون قد هدموه، فوضعوه على أنقاضه وقد كتبوا فوق نعشه: «في هذه البقعة حيث قيدك الاستبداد تقبل طاعة الأمة الحرة».
ولكن يجب ألا ننسي شيئا قاسيا مفجعا حدث في هذه المظاهرة الحرة التي أعلن فيها انتصار الحرية على الاستبداد، فبينما كان أهل باريس يحتفلون بملك الأدب، ويسيرون وراءه ورءوسهم عارية، والناس في بيوتهم يشرفون من النوافذ ويهتفون عند مرور النعش بهم ويدعون بالحياة لهذا الميت، كان في باريس شخصان اثنان يسمعان الهتاف ولا يطلان من النوافذ، وهذان الشخصان هما الملك لويس السادس عشر والملكة ماري أنطوانيت زوجته.
والآن كلنا يحب فولتير، وكلنا يقرأ حياته كما يسمع دورا من الأدوار الموسيقية المطربة، وكلنا يقرأ مؤلفاته التي تبلغ نحو التسعين، وكلنا ينتفع بهذا الحكيم الذي بذر البذرة الصالحة فأثمرت في العقول وكسرت شوكة الظلم والاضطهاد، وكلنا أيضا يشعر بشرف هذه الحياة التي أمضيت في خدمة الإنسان.
ولكن ثم شيء سافل يجب أن نذكره بجانب هذا الشرف، وهو أنه في سنة 1814 عندما عادت الملوكية إلى فرنسا أمر «الملك» فأخرجت جثة فولتير من مدفن العظماء فأحرقت بالجير وبعثرت. مع ذلك نذكر الآن فولتير ولا نذكر اسم هذا الملك النكرة، ونعجب بشهامة الأول ونشمئز من سفالة هذا الثاني.
الفصل التاسع والعشرون
الحق والقوة
Shafi da ba'a sani ba