فالخير والشر متلازمان في الطبيعة البشرية، ولكن الخير أغلب، وليس الرياء أو النفاق إلا إقرارا بذلك؛ لأن المنافق يمارس الرذيلة ويتقنع بالفضيلة إذ هو يعرف أن العالم يرغب في الفضيلة، وليس من الحق أن نسلب الطبيعة البشرية فضائلها ولا نذكر سوى رذائلها، فإنك لا تجد بالوردة أشواكا فقط بل تشم عطرا ذكيا أيضا، والفراشة الزاهية التي تعلو العين بهجتها كانت يوما ما دودة قذرة.
والإنسان مجموعة من الصفات الحسنة والسيئة، ولكن الحسن يغلب فيه السيء، وإنما تحتاج الصفات إلى تنشئة وتربية، وكما أن كل إنسان تقريبا قد فكر في جريمة ما - إن لم يكن قد ارتكبها - فكل إنسان أيضا قد فكر في البر والخير ومارسهما، وفي نفس كل منا جذوة من ذلك الوحي السامي الذي ينبت في صدور الأنبياء والعلماء والمصلحين والأبرار والخيرين في كل أمة، ولكن هذه الجذوة تحتاج إلى الترويح وإلا بقيت هامدة.
فأنت أيها القارئ رجل بار أيضا لأنك تنتمي إلى تلك الإنسانية التي نبت منها العظماء في الدين والعلم والأدب والسياسة. بل أنت تمت إلى هؤلاء الرجال بعرق، ولو عدت إلى عشرين أو ثلاثين جيلا لوجدت أنك أنت وأبطاله تنتميان إلى جد واحد، وإنما يجب عليك أن تربي هذه الكفايات الحسنة في نفسك حتى تلتهب تلك الجذوة المقدسة في قلبك، فأنت عظيم ولا تدري أنك عظيم، وأنت رجل بار ولا تدري أنك بار، وأنت تحب الخير للعالم ولكنك تجهل ذلك.
الفصل الثالث عشر
سوط الاحتقار
يعمل الاحتقار في الناس أكثر مما يعمله الخوف، ومعنى هذا بكلام آخر أن الناس يحسبون للرأي العام ويستحيون من الناس أكثر مما يخافون من القوانين، بل نحن خاف القوانين لا لأننا نتألم من السجن بل لأننا نخشى احتقار الناس لنا إذا عرفوا أننا قد سجنا.
فإصلاح الأمة يرجع في الأكثر إلى قوة الرأي العام أكثر مما يرجع إلى القوانين؛ لأن للرأي العام سوطا شديد الوقع غائر الأثر، نستطيع به أن نؤدب الناس ونعلمهم ونوجه نشاطهم إلى وجهات نافعة.
ولكن إذا اختل الرأي العام وساءت أحكامه صارت القوانين كلها في حكم العدم أو ما يقارب ذلك، فشرائع بلادنا مثلا تعاقب المتجرين بالحشيش، ولكن الحشيش سيبقى والحشاشون سينعمون بهذا السم ما شاءوا لأن الرأي العام لا يحتقرهم، فلو أن حشاشا وجد رجلا يبصق في وجهه مرة، أو يطلب إليه ألا يعرفه، أو منعه من دخول منزله، لما تجاسر في القطر المصري كله حشاش واحد على اقتناء هذا السم الذي يزود مارستاناتنا بنصف مرضاها.
ولو أن ضابط الشرطة الذي يعتدي على الناخبين يرى من الناس عين الاحتقار والاشمئزاز من هذه السفالة لما استطاع مهما كانت المكافأة المالية التي ينتظرها أن يرتكب هذا الجرم؛ لأنه إنما يقصد من الترقي في المناصب ومن الحصول على المال تلك الوجاهة التي يتوخاها بين أهل بلاده، فإذا وجد منهم مقاطعة واشمئزازا واحتقارا لما تجرأ على ضرب ناخب.
وقل مثل ذلك في الجرائم التي ترتكب في الريف وتنفي الأمن منه، فإن المرتكبين الحقيقيين هم سكان الريف أنفسهم؛ لأنهم لا يحتقرون هؤلاء المجرمين، بل يروون حكايات سطوهم وانتهابهم بالإعجاب، كأنهم أبطال، حتى إن المجرم ليسجن وهو مرفوع الرأس كأنه بطل.
Shafi da ba'a sani ba