ومعنى هذا أنه يجب أن يكون لكل منا مكتبة في منزله، وأن يعد الكتب من ضروب الأثاث الضروري للمنزل، بل هي أكثر ضرورة من بعض الأثاث الذي ترتكم به بعض المنازل في غير منفعة سوى الفخر الكاذب والأبهة السخيفة، فالكتب هي أثاث الذهن ينقلب فيها ويرتاح إليها ويستفيد منها ويستنير بمعارفها.
فيجب إذن أن تعمل عقولنا في انتقاء الكتب والمجلات والصحف، فلا نقتني إلا ما ينفعنا ولا نقرأ إلا ما هو ضروري لنا، مما يرفعنا فوق مستوانا وينير أذهاننا ويزيدنا قوة، وخير أنواع التربية حين يربي الإنسان نفسه، فيقيس كفاياته وقدر ما يحتاج إليه من التثقيف؛ لأنه عندئذ يحسن التقدير ويسير مع هواه في انتقاء المواد، والهوى من أعظم الوسائل في تسهيل الصعب وتمهيد الوعر، ومن الناس من لا يسعده الحظ بتربية مدرسية وافية ولكنه يجد من وقته الوسيلة لتربية نفسه بالكتب والمجلات إذا هو ثابر على القراءة وأحسن الاختيار في اقتناء الكتب، وليست المدرسة إلا البداية للتربية الحقيقية فهي تغرس في النفس (أو يجب أن تفعل ذلك) تلك النزعة التي تجعل كلا منا طول حياته طالبا للعلم ساعيا وراء الثقافة.
ولن يكون ذلك إلا بالكتب وتقليبها والنظر فيها واعتياد التنقيب والبحث. هذا إلى نزعة موفقة تحملنا على الجد والمنفعة لا التسلية وإضاعة الوقت، ولسنا نقول إن قراءة الصحف السياسية تخلو من الفائدة، وإنما نقول إن الإدمان عليها مع تكرار معانيها تضييع للوقت والمال معا، فلنقرأ من التاريخ والشعر وسائر فروع الأدب والعلم ما ننتفع به وتزكو به عقولنا ويعظم به إحساسنا للحياة، فقارئ التاريخ يضيف إلى عمره أعمار الأجيال الماضية وقارئ كتب السياحات يضيف إلى وطنه أوطانا أخرى، والتعمق في العلوم يزيد الإنسان بصيرة.
الفصل الرابع
الفتاة الحديثة
عندنا في مصر طبقة من الكتاب إذا أعورتهم مادة الكتابة عمدوا إلى موضوع المرأة فنعوا عليها تبرجها وفسادها وانحطاطها، وقد ألف القراء منهم هذه النغمة فلم يعد يبالي بها واحد منهم، وقلما يقرأ أحد هذه المقالات الكثيرة التي تملأ الصحف بها أعمدتها عن المرأة لأن موضوعها ومضمونها قد عرفا وسئما معا.
ومضمون هذه المقالات أن المرأة الحديثة أكثر تبرجا وأحط أخلاقا من والدتها أو جدتها، وليس ينكر أحد أن في مصر، وخاصة في القاهرة، نساء متبرجات يسرن في ضوء النهار قبل الظهر وبعده بلباس السهرات مكشوفات أعلى الصدر وأعلى الظهر، ومنهن أيضا من يضعن المساحيق على وجوههن ويصنعن الوشي المختلف والمضحك معا لملابسهن، وكثيرا ما يكون الجهل داعية ظهورهن بهذه المظاهر، فهن لا يتعمدن هذا المظهر وإنما يجهلن المظهر اللائق، ومقابلة المرأة القديمة بالمرأة الحديثة موضوع دائم الطلاوة يغري الكتاب بالكتابة حتى في أوروبا، فهناك ينعون على الفتاة الحديثة ترخصها في عادات كانت جدتها لا تجرؤ على اعتيادها، مثل التدخين والمجاهرة بالرأي وتقصير الثياب وتضييقها وقص الشعر ونحو ذلك.
ولكن للفتاة الحديثة من يدافع عنها ويقطع ألسنة السوء التي تعبث بشهرتها، فقد رد أحدهم على ما تتهم به، وقابلها بالجدات القديمات، فوجد أن الفتاة الحديثة على الرغم من انطلاقها في الحرية أكثر شعورا بالمسئولية من جدتها، وأكثر استعدادا لمواجهة الشدائد، وأكثر اعتمادا على نفسها، وأعرف بوسائل العيش الشريف منها، فقد كانت آداب الجدات محصورة في الصمت وتكلف الأدب أمام الرجال والاقتصار على أعمال البيت، وكانت تلبس من الثياب الضافية ما يكفي الواحد منها لأن يفصل منه ثلاثة أو أربعة مما تلبسه الفتاة الحديثة، ومن يقف في لندن عند فوهات أو محطات الأنبوبة (أي القطار الذي يجري تحت الأرض) ويرى آلاف الفتيات اللواتي يكدحن للمعاش وهن مقصوصات الشعر مقتضبات الملابس؛ لا يسعه إلا احترامهن وإكبار نفوسهن، ولو كانت جداتهن في مكانهن لقنعن بالقعود في البيت والرضا بالدون من العيش، ولكن هؤلاء الفتيات أطمع في مسرات الحياة وأشجع على مشقاتها وأنزع إلى الرجولة منهن، وأذكى عقلا وأخف يدا وقدما من أن يرضين بلزوم البيت مع الفقر والمسكنة في حين يمكنهن الاكتساب بالعمل والجد.
هذا في لندن، والحال ليست كذلك في القاهرة، ولكنها ليست من الخطر بالمقدار الذي يوهمنا به زعماء القديم من كل شيء، فقد سلمنا بأن في القاهرة طبقة من الفتيات تتبرج عن جهل لا عن قصد، والذي يدعونا إلى هذا الظن أن تبرجهن خلو من الذوق، ولو كان عندنا رأي عام مهذب يدري بالأذواق والأزياء لكانت لفتة واحدة من الرجال يزدرون بها هذه الأزياء تكفي لأن تمنع الفتيات من التبرج منعا باتا، ولكننا نقول إن الفتاة الحديثة في مصر لا تزال مع ذلك أصح نظرا للحياة من والدتها أو جدتها؛ فهي تمشي الآن وحدها في الأسواق معتدلة القوام مرتفعة الرأس، في حين كانت جدتها تمشي متعثرة مع الخدم، وهي تقرأ بينما كانت أمها جاهلة، وهي لا تبالي بالسمن في حين أمها كانت ترهق أمعاءها بأكل المسمنات، وهي ترى العالم بعينيها ولا تضع على وجهها سوى نقاب خفيف بينما كانت أمها تخفي عينيها عن العالم، فإذا قيل بعد ذلك إنها تداعب الفتيان في الطريق فإنه يجب على القارئ أن يذكر أن المداعبة تحتاج إلى اثنين فإذا لمنا الفتاة وجب أن نلوم الفتى، وهو باللوم أحق لأنه هو البادئ.
والناس يحبون مقابلة الحاضر بالماضي فيصغرون الأول ويكبرون الثاني، فتراهم يصفون القدماء بأنهم كانوا أحفظ للذمم منا، وكانوا أعف في الحرمات منا، وكانوا وكانوا، وكل هذا كذب لا أصل له؛ فإن جدودنا مثلا رضوا بحكم المماليك فكانوا أجبن منا، ورضوا بمظالم كثير من حكامهم حتى أشرفت البلاد على الخراب، وقد زار أندلسي قبل نحو 700 سنة بلادنا فذكر أن الفحش والزنا في القاهرة لا حد لهما، وأن قذارة مدننا لا تطاق، فالقول بأن المرأة القديمة تفضل المرأة الحديثة لغو لا يقول به إلا الجاهل.
Shafi da ba'a sani ba