لكن من يدري؟ ألا يجوز أن ينتهي إذلال العلم لضلال السياسة، بمثل ما انتهى به إذلال شمشون لبغي أعدائه؟
لقد نبت الشعر في رأس شمشون على مر الزمن، واستعاد قوته، ولو أنها أصبحت قوة عمياء؛ وحدث أن تجمع أهل المدينة من أعدائه في هيكلهم يسمرون ويلهون، ثم أرادوا أن يزيدوا من لهوهم لهوا، ومن نكايتهم بشمشون نكاية، فجاءوا به من سجنه ليلعب أمامهم بجسمه الغليظ فيضحكون، فلم يكن من شمشون إلا أن مد ذراعيه ليمسك بيديه العمودين الرئيسيين اللذين عليهما كان يقوم البناء، وانحنى بقوة، فسقط البيت على الأقطاب وعلى سائر الشعب اللاهي.
أفلا يجوز - إذن - أن تمضي السياسة في غوايتها إذلالا للعلم، فيجيء يوم يضغط العلم بكل قوته على الزناد، فيفني الأقطاب على أيدي العلم نفسه الذي استغلوه، ويفني البشر معهم ومعه؟
دمنة وكليلة
معذرة، فقد عكست الترتيب المألوف لهذين الاسمين عامدا؛ وذلك لسبين؛ أولهما: هو أن يتنبه القارئ، فيعلم أنهما اسمان لمخلوقين منفصلين؛ لأنه - فيما أقدر - قد نطق بهما على الترتيب المألوف، في عنوان «كليلة ودمنة» مئات المرات أو ألوفها، حتى تحول صوت العبارة عنده إلى عادة حركية لا يعي معها أين تبدأ الأجزاء وأين تنتهي، فانطمس - بالتالي - ما بين هذين المخلوقين من تميز واختلاف، مع أن هذا التميز والاختلاف بينهما هو ما قصدت إليه بهذا المقال. والسبب الثاني: هو أن الخصائص التي تميز «دمنة» من «كليلة» هي أن دمنة أكثر نجاحا في دنيا العمل والتعامل؛ فمن حقه أن يسبق زميله عند تلاوة الأسماء في المحافل، احتراما لقواعد البروتوكول التي تحرص على التمييز الدقيق بين من هو أعلى ومن هو أسفل.
وليس من شأني هنا أن أتعقب الرحلة التاريخية الثقافية التي انتقل بها «كليلة ودمنة» من أصله الهندي إلى الفارسية، ثم من الفارسية إلى العربية، بقلم «ابن المقفع» في أسلوبه النقي البليغ، وإنما شأني هنا هو أن أبرز الفرق بين «دمنة» و«كليلة»؛ لعله يضيء أمام القارئ - كما أضاء أمامي - طريق الفهم لجانب هام من جوانب حياتنا، أو قل من جوانب الحياة الإنسانية على إطلاقها.
فمن هما «دمنة» و«كليلة»؟ هما أخوان من أبناء آوى، أعني أنهما ثعلبان شقيقان، ورد ذكرهما في أول حكاية - وهي أطول حكاية - من مجموعة الحكايات التي قدمها كتاب «كليلة ودمنة»، وليس منا واحد - فيما أظن قد خلت حياته الدراسية في مراحلها الأولى من مطالعة هذا الكتاب، ولقد رأى صاحب الكتاب أن يطلق اسم هذين الأخوين عنوانا لكتابه.
لم يكن هذان الثعلبان الشقيقان من طبيعة واحدة، برغم كونهما فردين من نوع واحد، ومثل هذا - كما تعلم - يحدث كذلك في دنيا الناس، فلا يختلف في هذا التفاوت أبناء آدم عن أبناء آوى، أما أحد الأخوين - وهو كليلة - فقد كان قويم المبدأ، نزيه المقصد ، لا يفعل الفعل إلا إذا جاء على طريق خلقي مأمون من المزالق، وأما أخوه «دمنة» فهو على نقيضه، تهمه الغايات ولا تهمه المبادئ، معيار العمل الصالح عنده هو أن يكون نافعا له، محققا لأغراضه، سواء جاء بعد ذلك مقيما للحق والعدل أو هادما لهما، وإذا تكلم دمنة، فإنما يتكلم ليقنع السامع بما أراد له أن يقتنع به، لا يبالي أجاء كلامه هذا صادقا مع واقع الأمر أم كاذبا. إن دمنة، طموح يريد بلوغ الهدف بالشطارة و«الفهلوة»، فكان يسبق الآخرين على الطريق؛ لأن خطوات هؤلاء الآخرين مقيدة مكبلة بما يبذلونه من جهود.
كان «كليلة» الطيب المستقيم الصادق، يعرف عن أخيه «دمنة» تلك الخلال، فكان يسدي إليه من النصح ما يظن أنه يهديه، لكن «دمنة» قد أدار لنصح أخيه أذنا من طين، وأخرى من عجين، بل لعله كان يسخر من سذاجته؛ فلقد كان بطريقته هذه التي لم تعجب أخاه الطيب، أعلى شأنا - في حياة الغابة - من أخيه.
هذان الأخوان من أبناء آوى، هما في الحقيقة نمطان من أنماط البشر، فلم يكونا في الحكاية إلا رمزا لأمر عجيب، وهو أن بلوغ الغايات في شئون الحياة العملية قد لا يكون طريقه التزام المبادئ الخلقية المثلى، بل إن هذه المبادئ لم تكن لتصبح نماذج مثلى لو لم تكن «فوق» الواقع و«أعلى» منه، لكنها ليست جزءا من نسيجه، ولقد حق لابن المقفع في مقدمته التي قدم بها لترجمته العربية أن يحذر القارئ بقوله: إنه لا ينبغي أن يؤخذ الكتاب بظاهره، بل يجب على قارئه أن يستخرج ما قد خفي من معانيه وراء الرموز، كالرجل الذي لا ينتفع بالجوز إلا إذا أزاح قشرته الظاهرة عن لبه المستور.
Shafi da ba'a sani ba