لقد مررت فيما مضى بخبرتين متشابهتين، كان لهما عندي أثر مفيد فيما نحن الآن بصدد الحديث فيه. كانت الخبرة الأولى حين طلبت إلي هيئة رسمية أن أكتب بيانا مطولا عن الفكر الفلسفي في بلادنا خلال هذا القرن؛ لينشر ضمن موضوعات أخرى، تصور بمجموعها حياتنا في مختلف ضروب نشاطها. وكانت الخبرة الثانية حين طلب إلي أن أعد بحثا وافيا عن حياتنا الفكرية والأدبية الحاضرة بصفة عامة؛ لينشر في موسوعة «لا روس» الفرنسية. والذي أريد قوله عن تلك الخبرتين، هو أنني كنت قد انتهجت فيهما منهجا راعيت فيه ألا أتعرض لخطر الحذف والنسيان، فقسمت موضوع البحث قسمين؛ ليكون كل قسم منهما صمام أمن للقسم الثاني، وذلك بأن نظرت إلى الأمر مرة من زاوية المضمون، ثم نظرت إليه مرة أخرى من زاوية الأشخاص؛ بمعنى أن أقول - مثلا - ماذا كتبه الكاتبون في النقد الأدبي؟ ثم أعود فأراجع قائمة الأسماء التي لمعت في هذا الميدان؛ لأستوثق من أن كل اسم منها قد وجد مكانه الصحيح، فراعني - في كلتا الحالتين - أني وجدت بين يدي أسماء تعذر علي أن أجد لها مواضع في السياق، فكيف إذن تأتى لهذه الأسماء أن يكون لها دوي في الأسماع، إذا لم يكن لأصحابها نتاج يذكر؟ الجواب هو أن هؤلاء لا بد أن يكونوا قد بلغوا ما بلغوه، لا عن طريق الدرس أو الإبداع، بل عن الطريق السلوكي الذي أسلفت لك لمحة منه.
والذي نخشاه هو أن ينصرف نفر من أصحاب المواهب، الراغبين في النجاح، نحو هذا الطريق السهل، فيرتفع ذكرهم على خواء؛ ولذلك ندعو إلى إعادة النظر ومراجعة الموازين ليهتدي أبناء الجيل الجديد بمعايير الحق، فلا يضللهم بهرج رخيص.
الكاتب المصباح والكاتب الصدى
الأرجح عندي أن يكون القارئ على علم كثير أو قليل بمحاورة «الجمهورية» التي كتبها أفلاطون فيلسوف اليونان الأقدمين، بل إن شئت الحق كما يراه فيه هوايتهد - من أئمة المفكرين في عصرنا - فقل عنه إنه الفيلسوف الذي جاءت الفلسفة كلها بعد ذلك هوامش بالنسبة إليه تؤيده أو تعارضه أو تعدله.
فلقد تصور أفلاطون نظاما للدولة في «جمهوريته» تلك، أقامه على مبدأ التوازن بين ما قد نسميه نحن اليوم «قوى الشعب»، غير أنه جعل تلك القوى التي تتوازن معا في بناء الدولة ثلاثا، لو قارناها بالقوى الخمس التي نجعلها نحن في بلادنا أساسا لبناء الدولة، لجاز لنا أن نقول إنه دمج العمال والفلاحين وأصحاب الرأسمالية الوطنية في مجموعة واحدة، ثم أضاف إليها فئتين، هما فئة الجنود وفئة المثقفين. أقول هذا تيسيرا للفهم عند عامة القراء، لكنني لا أعلم أن بين الصورة الأصلية لما قاله أفلاطون في قوام الدولة وبين هذه الصورة الميسرة فارقا بعيدا إلى الحد الذي قد اتهم فيه بجناية التشويه؛ فأقل ما يقال في هذه الصورة الميسرة هو أن ذلك الفيلسوف القديم لم يشأ أن ينظر إلى تلك الفئات على أنها متساوية في أقدارها، وإن اختلفت في مهامها، بل رتبها ليجعل منها ما هو أعلى وما هو أدنى، وشاء أن يجعل الصدارة لرجال الفكر، يتلوهم الجنود، ثم يأتي بعد ذلك بقية العاملين.
لا علينا من ذلك كله، فليس هو مرادنا، وإنما يساق هنا تمهيدا لما نود أن نقوله؛ فلقد حرص أفلاطون أشد الحرص في «جمهوريته» المثلى ألا يكون بين أبنائها مكان لرجال الأدب والفن، مفرقا في ذلك بين رجل الفكر الذي يرى الحق مجردا في سمائه العليا، وبين الكاتب الأديب الذي يغمس نفسه في الأحداث مصورا لها، فلماذا كان جزاء الأديب والفنان الحرمان من ذلك الفردوس؟
كان ذلك لأنه لم يتصور قط - وهو في هذا على صواب - أن يجيء الكاتب أو الفنان إلا ناقدا، إنه لم يتصور أن تطلق على رجل صفة الكاتب أو صفة الفنان حين يقف ذلك الرجل مما حوله موافقا ومؤيدا بغير رأي يبديه. ولما كان أفلاطون - كما قد يعلم القارئ - فيلسوفا مثاليا، فقد ظن أن نظام الدولة كما تصوره ثم صوره، ليس هو من قبيل التجارب التي تصيب وتخطئ، بل هو أقرب إلى حقائق الوجود؛ فهو نظام إلهي، أو هو حق أزلي أبدي تراه البصيرة النافذة كالإلهي، لا يتغير ولا يتبدل؛ لأنه معصوم من النقص والخطأ، وإذا كان أمره كذلك فماذا عساهم يصنعون هؤلاء الرجال، رجال الأدب والفن؟
نعم، ماذا يراد لرجال الأدب والفن أن يصنعوا في إطار الدولة التي يعيشون في كنفها؟ إحدى اثنتين؛ فإما أن نتوقع منهم ألا يزيدوا على النظام القائم شيئا وألا ينقصوا منه شيئا، وأن يجعلوا قصارى جهدهم شرحا وتحليلا للموجود مع التأييد المطلق له، وإما أننا نريد منهم شيئا آخر، هو أن يراجعوا الموجود لينقدوه بغية تقويمه وإصلاحه. هذان فرضان لا ثالث لهما، فإذا نحن بدأنا مع أنفسنا البداية التي تسلم للموجود بالكمال، فلا بد عندئذ من أن يقتصر رجال الأدب والفن - لو سمحنا لهم بالبقاء بين ظهرانينا - على مجرد الشرح والتحليل؛ إذ ماذا ينقدون وماذا يصححون في بناء مضمون الصواب معصوم من الزلل؟ إن البناء في حالة كهذه يكون أقرب إلى الحقائق الرياضية، خذ جدول الضرب مثلا؛ أيجوز لكاتب أو فنان أن يتناول جدول الضرب بالنقد والتصحيح، فبدل أن تكون الخمسة مضروبة في ستة مساوية لثلاثين، يجيء الأديب الناقد فيقول لا، لنجعلها مساوية لخمسين لتكون أجمل وأكمل؟
الحقيقة إنه إذا بدأ البادئ من افتراض الكمال الرياضي لما هو قائم من بناء الدولة وبناء المجتمع، لما بقي أمام الكاتب إلا أن يكون كرجع الصدى، ليس من حقه أن يبدأ هو بالنطق، بل الناطق دائما سواه، ثم يجيء دوره بعد ذلك محاكيا، أو قل إن الكاتب في هذه الحالة يكون كالمرآة، ليس من طبيعتها أن تخلق الصور، بل هي تعكس على سطحها ما يحدث حولها.
أما إذا بدأنا بافتراض آخر، لا يفترض في النظم الإنسانية كمالا، وإنما يراها كائنات تتعرض للصواب والخطأ، بحيث يكون الخطأ نفسه مدعاة تصحيح لتزداد تلك النظم صوابا، فعندئذ فقط يكون للكاتب دوره الأصيل؛ إذ من ذا الذي يلحظ الخطأ ويطلب التصحيح؟ الجواب عندي هو أن ذلك حق لكل مواطن ذي ضمير حي مسئول، لكنه بالنسبة للكاتب واجب محتوم، إذا لم يضطلع به فقد ألغى وجوده بيديه.
Shafi da ba'a sani ba