ضع هذه الفكرة الأفلاطونية نصب عينيك وانظر إلى عالم الفن الحديث؛ ألست تري شبها شديدا بينها وبين ما تذهب إليه مدرسة التجريد؟ إن الفنان التجريدي لا يهمه أن يثبت الشجرة التي يراها بكل ما يراه فيها من تفصيلات؛ لأن هذه التفصيلات زائلة عابرة، وإنما يهمه أن يستبقي منها ما يكون لها بمثابة الجوهر الثابت؛ وبهذا يضع الطبيعة على لوحته، لا كما تراها العين، بل كما يفهمها العقل.
والحق أن الفن قد سار في تاريخه من التعين إلى التجريد على نحو قد يؤيد لنا وجهة نظر التجريديين المعاصرين؛ ألم يبدأ الفن صورا على جدران الكهوف تصور الحيوان المراد اصطياده تصويرا مباشرا؟ وإذا نحن أدخلنا الكتابة في أنواع التصوير - ولا شك أنها كذلك - قلنا إن الإنسان قد استعاض عن الصور المباشرة بكتابة مصورة يكتفي فيها بالرمز إلى الموضوع دون رسمه رسما مباشرا، ثم أخذت الصورة الكتابية تبعد عن الرمز التصويري شيئا فشيئا - مارة خلال المرحلة الهيروغليفية - حتى انتهت أخيرا إلى هذه الأحرف الهجائية التي نستخدمها في كلماتنا، والتي إن هي إلا تصوير بلغ غاية في التجريد، وانظر - إذا شئت - إلى كلمة «شجرة»، فهل ترى أية رابطة بين صورتها وبين الشجرة ذاتها التي أريد تصويرها بتلك الكلمة؟ ليس بين الطرفين أدنى شبه، ومع ذلك فطرف منهما يصور طرفا على سبيل التجريد لا على سبيل التعين الجزئي.
ونعود إلى الفن التجريدي الحديث، أو إن شئت فسمه الفن اللاموضوعي؛ أي الذي هو بغير موضوع مما تراه الأعين رؤية مباشرة، فنقول إن من هؤلاء التجريديين من يتصل بالمدرسة التكعيبية صلة قريبة، وهم أولئك الذين يقصدون بالتجريد إلى تكوينات هندسية مقصودة لذاتها، لكني أترك الحديث عن هذا الفريق لأعود إليه حين أتحدث عن الفن الذي تستقل فيه اللوحة عن كل ما عداها. وأما الفريق الثاني فهو أولئك الذين يجردون من الطبيعة ألوانها ليتناولوا هذه الألوان وحدها دون موضوعاتها، فيركبونها على أي نحو تهديهم إليه أذواقهم، وزعيم هذه الجماعة هو كاندنسكي الذي جعل اللوحة الفنية موسيقى لونية لا أكثر ولا أقل.
ونعود إلى عالم الفلسفة مرة ثالثة وأخيرة، إلى أرسطو الذي اتفق هو وأستاذه أفلاطون في جانب واختلف عنه في جانب؛ فهو كأستاذه يرى أن الفورم في أي كائن ليس هو التفصيلات الجزئية التي نراها عالقة بهذا الكائن، بل هو جوهره الذي يحدد حقيقته، لكنه يختلف عن أستاذه في أن هذا الفورم لا يقوم وحده في عالم عقلي، بل هو دائما كائن في الشيء ذاته، وهو الذي يطبع الشيء بالطابع الذي يجعله منتسبا إلى هذا النوع أو ذلك من أنواع الكائنات. الفورم في الشيء هو الوظيفة التي يقوم بها ذلك الشيء؛ فالفورم في الفرد من أفراد الإنسان هو الوظيفة التي تجعل من الإنسان إنسانا، والفورم في الشجرة هو الوظيفة التي تجعل من الشجرة شجرة وهكذا؛ ومعنى ذلك أن الفورم هو مصدر الحركة والنشاط والفاعلية في الشيء؛ أي إن الفورم في الشيء هو «طبيعته» أو «حقيقته».
إن لكل شيء في الطبيعة - عند أرسطو - غاية يريد تحقيقها، هذه الغاية تكون موجودة فيه بالقوة قبل تحقيقها، ثم توجد فيه بالفعل بعد تحقيقها ، وهذه السيرة، أو هذا الانتقال من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، هو الفورم الذي يحدد طبيعة الشيء؛ فالحبة تلقيها في التربة إنما تنزع أن تصبح شجرة من صنف معين، وهي لا تني تكد حتى تحقق هذه الغاية، وهذا الكد منها لتحقيق طبيعتها هو الفورم.
وهكذا ترى معنى الفورم في الطبيعة قد اختلف اختلافا جوهريا عند أرسطو عنه عند فيثاغورس وأفلاطون؛ فهو عند أرسطو فاعلية ونشاط، وأما عند فيثاغورس وأفلاطون فهو صورة ساكنة؛ هو عند أرسطو حقيقة تطورية بيولوجية، وأما عند فيثاغورس وأفلاطون فهو حقيقة رياضية.
الفورم عند أرسطو هو فكرة النوع انطبعت بها المادة فأصبحت بها فردا ينتمي إلى ذلك النوع، وأفراد النوع الواحد تتفاوت في درجة تحقيقها لفكرة نوعها.
فكيف يكون الفن على هذا الأساس الأرسطي؟ يكون الفنان فنانا بمقدار ما يستطيع أن يصور لنا فردا واحدا تصويرا يعبر فيه عن حقيقة النوع كلها، كأن يبرز الشجاعة في شجاع، والطموح في طامح، والبلاهة في أبله، والحكمة في حكيم، وهكذا.
وأحسب أن الفن بمعناه الكلاسيكي تطبيق يقوم على هذا الأساس.
2
Shafi da ba'a sani ba