A Duniyar Gani
في عالم الرؤيا: مقالات مختارة لجبران خليل جبران
Nau'ikan
ولما أزاحوا كوفيته ومسحوا غبار المعمعة عن وجهه المصفر، ذعر الزعيم وصرح متوجعا: «هذا ابن الصعبي، فيا للخسارة ...!»
فردد القوم هذا الاسم متأوهين ثم جمدوا في أماكنهم. إن قلوبهم السكرى بخمرة النصر قد فاجأها الصحو، فرأت أن خسارة هذا البطل هي أجسم من مجد التغلب وعز الانتصار. ومثل تماثيل قد أوقفهم هول المشهد وأيبس ألسنتهم فسكتوا، وهذا كل ما يفعله الموت في نفوس الأبطال؛ فالبكاء والنحيب حري بالنساء، والصراخ والعويل خليق بالأطفال، ولا يجمل برجال السيف غير السكوت هيبة ووقارا، ذلك السكوت الذي يقبض على القلوب القوية مثلما تقبض مخالب النسر على عنق الفريسة، ذلك السكوت الذي يترفع عن الدموع فيزيد بترفعه البلية هولا وقساوة، ذلك السكوت الذي يهبط بالنفوس الكبيرة من قمم الجبال إلى أعماق اللجة، ذلك السكوت الذي يعلن مجيء العاصفة، وإن لم تجئ كان هو نفسه أشد فعلا منها.
خلعوا أثواب الفتى المصروع ليروا أين وضع الموت يده، فبانت كلوم الشفار في صدره كأنها أفواه مزبدة تتكلم في هدوء ذلك الليل عن همم الرجال. فاقترب الزعيم وجثا مستفحصا، فوجد دون سواه منديلا مطرزا بخيوط الذهب مربوطا حول زنده، فتأمله سرا، وعرف اليد التي غزلت حريره والأصابع التي حاكت خيوطه، فستره بالأثواب وتراجع قليلا إلى الوراء، حاجبا وجهه المنقبض بيده المرتعشة، تلك اليد التي كانت تزيح بعزمها رءوس الأعداء قد ضعفت وارتجفت وصارت تمسح الدموع؛ لأنها لامست حواشي منديل عقدت أطرافه أصابع محبوبة حول زند فتى جاء ليشهد يوم الكريهة مدفوعا ببسالته فصرع، وسوف يرجع إليها محمولا على أكف رفاقه.
وبينما نفس زعيم القوم تتراوح بين مظالم الموت وخفايا الحب، قال أحد الواقفين: «تعالوا نحفر له قبرا تحت تلك السنديانة، فتشرب أصولها من دمه وتتغذى فروعها من بقاياه، فتزيد قوة وتصير خالدة، وتكون له رمزا فتمثل لهذه الطلول بطشه وبأسه.»
فقال آخر: «لنحملنه إلى غابة الأرز ونقبره بقرب الكنيسة، فتظل عظامه مخفورة بظل الصليب إلى آخر الدهر.»
وقال آخر: «اقبروه ها هنا حيث جبل التراب بدمائه، واتركوا سيفه في يمينه واغرسوا رمحه بجانبه وانحروا حصانه على قبره، ودعوا أسلحته تؤنسه في هذه الوحدة.»
وقال آخر: «لا تلحدوا سيفا مضرجا بدم الأعداء، ولا تنحروا مهرا يخوض المنايا، ولا تتركوا في الوعر سلاحا تعود هز الأكف وعزم السواعد، بل احملوها إلى ذويه لأنها خير ميراث.»
وقال آخر: «تعالوا نجثوا حوله مصلين صلاة الناصري، فتغفر له السماء وتبارك انتصارنا.»
وقال آخر: «لنرفعه على الأكتاف جاعلين له نعشا من الرماح والتروس، فنطوف به في هذا الوادي ناشدين أهازيج النصر، فيشاهد أشلاء الأعداء وتبتسم شفاه جراحه قبل أن يخرسها تراب القبر.»
وقال آخر: «تعالوا نعليه سرج جواده ونسنده بجماجم القتلى ونقلده رمحه وندخله الأحياء ظافرا؛ فهو لم يستسلم إلى المنية إلا بعد أن حملها من أرواح الأعداء حملا ثقيلا.»
Shafi da ba'a sani ba