قلت: طبقها ولا حرج عليك.
قال: ... إنها لا تنطبق هنا بحال من الأحوال؛ لأن صاحبي كان يقول ويزهي بالعلم الذي أوحي إليه حين يقول: إن خطبت فتاة فلا تسأل عن أبيها ولا أمها ولا تسأل عن مالها ولا أدبها، وإنما تحتال حتى تلقي نظرة فاحصة على مطبخ بيتها، ثم تخطبها إذا أعجبك نظام المطبخ وأنت مغمض العينين.
قلت: لم يعد صاحبك الصواب، ولو شاء لعمم هذا الحكم المصيب على الأمم، فقال: إن أردت أن تخبر أمة من الأمم فلا تسأل عن نسبها ولا حسبها، ولا تسأل عن مالها ولا أدبها، وإنما تسأل عن «مطبخها» فيغنيك العلم به عن كل سؤال.
قال: وكأني بهذا الرأي - لو صح - يتيح لنا أن نقول: إننا نحن الشرقيين سادة العالم وقادة الشعوب؛ لأننا أساتذة الشعوب في المطبخ والمخدع باتفاق الآراء، وما ينازعنا القوم في الأستاذية إلا حين يذكرون المعمل والمدرسة، أو حين يذكرون العلوم والصناعات.
قلت: وهنا أراك قد أخطأت التطبيق يا صاحبي في حكمة صاحبك الأديب، فإن المطبخ «المثالي» هو المطبخ الذي يستخدم للغذاء، وليس بالمطبخ الذي يستخدم للذة الطعام أو لذة النوم، وقد يكون الطعام اللذيذ سما في باب الغذاء، ويكون الطعام وافر التغذية وهو قليل اللذة، أو لا لذة فيه.
ولا ينكر علينا أحد أننا برعنا في مطبخ اللذة، وورثنا في هذا الفن تركات روما وبيزنطة ومنف وبغداد وفارس والهند والصين ... وعرفنا كيف نطبخ الطبخة التي تمتع، والطبخة التي تكظ البطون، والطبخة التي تهيج الأكباد، والطبخة التي تعين على الشراب، وجرب ذلك الغربيون فشهدوا لنا بالسبق في المجال من النساء والرجال.
كتبت «إيزادورا دنكان» أجمل الراقصات في العصر الحديث تاريخا لرحلاتها في الغرب والشرق، فذكرت أكلة لها في قطر من أقطار أوروبا الشرقية، فلم تنس أن تقول: إنها أكلتها ونامت فاستيقظت وهي تعلم يومئذ كيف يستيقظ الرجال من النوم، ويخرجون من البيوت!
وهذه البراعة في المطبخ الشرقي الفاخر لا نزاع عليها، ولا تخلو من الدلالة مع هذا على نصيب الأمة من شواغل العيش ومطالب الحياة، ولكنها تقف بنا دون البغية المرموقة إذا طمحنا بها إلى مقام الأستاذية بين الشعوب، وإنما كتب «سوء التغذية» على أغنيائنا وفقرائنا على السواء بهذا المطبخ اللذيذ، وربما كان داء الغني المستمتع بهذا المطبخ أوبل من داء الفقير المحروم.
وأعرف من فتياننا الموسرين فتى تزوج فأراد أن يستعين على المخدع بالمطبخ، فأصيب بداء السكر في أقل من شهرين، وكان مصابه بالمطبخ المعين قبل مصابه بالمخدع المستعان عليه؛ لأنه أقبل على الدسم والتوابل والمشهيات فأرهق الكبد وأجحف بالبدن كله من حيث أراد له الصحة والمتاع، فبئس المطبخ مطبخ اللذة، ونعم مطبخ الغذاء، وأعني مطبخ الفرد والأمة على السواء.
قال صاحبي وهو يصطنع المزاح، ولعله أقرب إلى الجد منه إلى المزاح: إنك تخيفني الساعة بهذا التمهيد، أترانا مقبلين على مائدة لا تلذ الآكلين؟ أتحسبني أطيق أن نقلب صفحة من صفحات هذه الكتب الملعونة كلما أقبلنا على صفحة من الصحاف؟
Shafi da ba'a sani ba