قلت: لا أحب أن أظلم الطبائع الشرقية، ولا أود أن أفرد الطبائع الغربية دون سواها بتلك الفضيلة، فإن الموسيقى الغربية لم تكن من قديم الزمان على هذا الطراز الذي نسمعه من بيتهوفن وأمثاله، وإنما اتخذت منهجها الحديث حين نشأت في ظل القداسة الدينية، ثم عبرت عن مسائل الروح وأسرار الوجود التي تشتمل عليها الأديان، ثم استولت عليها المذاهب الكونية حين استولت في الغرب على تراث الدين كله، وعلى مسائل الروح بما رحبت، فلم ينعزل الموسيقيون عن الفلاسفة والشعراء، وباعثي النخوة في صدور الأمم يوم تعاقبت بينهم نهضات الإصلاح والحرية. وقديما كان في اليونان، وفي بلاد الجرمان منشدون وملحنون، فلم ينهجوا على هذا المنهج الحديث، ولم يرتفعوا بالموسيقى كثيرا عن منزلة الطرب، وتمليق الحواس وتمثيل الشعور المحدود.
ولعلنا نقترب إلى الإنصاف وندنو من التحقيق حين نقسم الموسيقى إلى نهجين يختلفان باختلاف الذوق والبديهة، ولا نقسمها إلى إقليمين «جغرافيين» بين أناس في الشرق وأناس في الغرب، أو أناس في الشمال وأناس في الجنوب.
فهناك موسيقى الحس المحدود، وهي التي تؤدي لنا وظيفة الجارية والنديم، وتسلينا بأنغام الفرح حين نفرح، وأنغام الشجن حين ننوح.
وهناك موسيقى الروح، وهي التي تخاطبنا من منبر الإلهام وشرفات الغيب، وتجلس لنا مجلس المفسرين والهداة، وتقول لنا ما يعجز عنه الكلام؛ لأن الألحان لا تقصر عن وصف الأسرار حين تقصر عنها المعاني والحروف.
ولدينا من جهة أخرى موسيقى الحس الحي التي تطربنا وتشجونا كما يختلج الطرب والشجو بالجسم القوي الصحيح.
ولدينا من جهة أخرى موسيقى الحس المريض، التي تطرب من تطرب وتشجو من تشجو كأنها السم المخدر، أو الشهوة السقيمة التي تترهل بها الأجسام في مخادع اللذات.
وقد تقترن الموسيقى بالسعة والضيق وبالسمو والهبوط، على حسب السامع المصغي إليها والمتعقب لأنغامها.
فمن الآذان الشعرية مثلا ما ليس يتسع لغير القافية الواحدة في القصيد الطويل.
ومنها ما يسمع القصيدة الواحدة وفيها عشر قواف تتكرر في أماكنها، فتحسن انتظارها حين تعود وتجري مع كل قافية منها في مدار.
وكذلك الأوزان الموسيقية في آذان السامعين، ربما أتعبت أناسا بتكرارها وأراحت أناسا بهذا التكرار، وإنما المعول في الحالتين على الأذن التي تتعقب، وتحسن التعقب والتعقيب.
Shafi da ba'a sani ba