توهم مزعوم، فماذا يكون وراء الوهم الملفق والزعم المكذوب؟
لن يكون إلا هذه البقع والخطوط والأصباغ، ولن تكون فنا يتولاه فنان؛ لأنها في مقدور كل يد تصبغ الألوان.
انظر إلى هذا الكلب الذي صوره رجل من المستقبليين! أرأيت كلبا قط له اثنتا عشرة قدما وذيلان أو ثلاثة ذيول؟ إن هذا «المستقبلي» يصوره كذلك؛ لأنه يزعم أن الكلب وهو يجري قد يرى له هذا العدد من الأقدام والذيول! فمن الذي أنبأه أن فن التصوير قد خلق لتصوير الكلاب وهي واقفة لا تنقل قدما في قصارى شوطها، فلم يجهل أحد رآها أنها تعدو غاية العدو، وأن الحركة شيء داخل في صناعة المصورين، ولو جرى المصورون على هذا المذهب لما جاز أن يرسم إنسان بعينين اثنتين، لأنه يقلب عينيه ذات اليمين وذات الشمال، ويرفعهما إلى أعلى ويصوبهما إلى أسفل، فلا تستقران في لمحتين!
وانظر إلى هذا المنكود من غلاة الواقعيين كيف يصور الفتاة؟ أفهذه فتاة أم جثة غريقة وارمة؟ أم جلد آدمي محشو كما تحشى جلود الحيوان؟
ولكنه يقول لك: إنه يصور ما يراه الوعي الباطن ولا يصور ما تراه العينان، فمن قال له: إن الوعي الباطن مخلوق في هذه السنوات التي سميناه فيها باسمه؟ ومن قال له: إن الأساتذة الأقدمين كانوا يعيشون في هذه الدنيا بغير وعي باطن، وبغير أوهام وأحلام؟ إنه سمع اسما جديدا فظنه خلقا جديدا يرينا الدنيا على صورة لم تكن لها في الزمن القديم. ثم جاء المتجرون بالغرائب فسخروه وشجعوه، ووقع في الفخ من يدعون غير ما يعلمون، ومن يخافون أن يقال عنهم: إنهم قوم متخلفون، لا يفقهون الجديد ولا يجرون مع العصر الذي يعيشون فيه.
قال صاحبي: ترى لو تمثل صاحبنا في وعيه الباطن صورة السيارة، كأنها الفتاة الحسناء اللعوب - أيؤمن بوعيه الباطن هذا فيلقي بنفسه تحت قدمها ، أو يقف في طريقها ليغازلها ويسعد بقربها.
قال صاحبي: ليتهم يصدقون الوعي الباطن هذا التصديق، فيلحقوا بالوعي الباطن في عالم الخفاء وتسلم القرائح والأذواق؛ لكنهم عند الجد قوم عقلاء، ينظرون بالعين التي ينظر بها الناس، ولا يرون السيارة إلا سيارة، ولا الرجل إلا رجلا ولا الفتاة إلا فتاة!
وألقى من يده تلك المجاميع ليتناول مجموعة من صور التماثيل التي صنعها الأقدمون والمحدثون، وحفظت أصولها في دور الفنون والآثار، بعضها في متحفنا المصري، وبعضها في العواصم الأوروبية، فبدرت منه هتفة إعجاب بنخبة من تماثيل الملوك والملكات والكهان في عصور الفراعنة، وأدهشه ما يمثله الحجر - ثم تمثله الصورة المأخوذة عن الحجر - من قوة الخلق ودقة الملامح، وبروز السمات على خلاف ما توسم في تماثيل الإغريق.
قال: ما كنت أحسب أن المصريين برعوا الإغريق في هذه الفنون، ولا سيما في النحت والتصوير.
قلت: كان ينبغي أن تحسب ذلك بداهة قبل أن تلمحه بالعيان، فالمصري القديم كان يعنيه التخليد قبل أن يعنى بالنقل عن نماذج الطبيعة، ومن عني بنقل النماذج العامة أغناه الوصف المشترك بينها عن السمات الخاصة والملامح الشخصية، ولكن المصري الذي كان يصنع التمثال كما يحنط المومياء لتخليد صاحبها، ودوام جسده ومقومات شخصه لم يكن له معدى عن تمييز معارفه، والتدقيق في تمثيل صفاته، فمن ثم كان المصريون الأقدمون أبرع من الإغريق الأقدمين في نقل الملامح والقسمات، ولولا أن الإغريق أطلقوا الدنيا، وأن المصريين قيدوا دنياهم بآخرتهم لجاء فن الإغريق بعد فن الفراعنة الأقدمين بأشواط فساح.
Shafi da ba'a sani ba