قلت: كلا يا صاح، لا هان ذلك ولا جعله الله يهون على الفقراء ولا على الأغنياء، فليس من البر بالفقير أن يسلب الكرامة الإنسانية، أو يسلب الحرية الفردية كأنها حلية يزدان بها الغني وحده، ولا يحفل بها الفقير، وليس بالصحيح على كل فرض من الفروض، وكل ظن من الظنون أن الشيوعية تدبر الزاد للفقير بفضل ما تقوم عليه من الأسس، وما تشتمل عليه من الآراء ، فكل مذهب يدعو إليه الدعاة الاجتماعيون يستطيع أن يدبر الزاد للعاملين في سنوات معدودات إذا صرف النظر عن الغايات البعيدة، وانحصر همه فيما بين يديه، لقد دبرته النازية حين حصرت همها في صنع السلاح، وأدارت المصانع على العدد الحربية والمطالب العسكرية، وقد دبرته الفاشية في إيطاليا على قلة مواردها حين حصرت همها في هذا المطلب العاجل، وهذه السياسة الوبيلة، فلم يبق في إيطاليا ولا في ألمانيا عامل بغير عمل موقوت، ولم تبق فيها مشكلة للمتعطلين، وكان ثراثرة الاجتماع ينظرون إلى ذلك، فينعونه على الديمقراطية، ويؤكدون به ما يعيبونه عليها من بطء الوسائل وتردد العزائم وطول المطال، ولكن الديمقراطية أيضا قد سبقت النازية والفاشية معا في المضمار، فخلقت الأعمال لعشرات الملايين في بلادها وغير بلادها، حين أدارت مصانعها على الذخيرة والسلاح، وظهر أنها حيلة لا تعيي أحدا يقبلها على علاتها ويأخذها بتبعاتها، وما تبعاتها إلا الخراب والفساد، وغشيان الأرض كلها بطائف من الفزع والحسرة تهون معه مشكلة البطالة، وكل مشكلة مثلها من مشكلات الاجتماع، ويخطئ كل الخطأ من يحسب وعود الشيوعية في هذا المطلب بشارة جديدة من داع جديد، فليس أقدم من هذه البشارة، ولا أسبق من هذا الداعي في تاريخ الدعايات.
وشك صاحبي غير قليل ثم تمتم سائلا كأنه يسأل نفسه: أو ليست هي بشارة «علمية» كما يقول كارل ماركس وأتباعه حين يميزون بين دعوات الإصلاح، التي يسمونها بالدعوات العاطفية والخلقية وبين دعوتهم «الجديدة» التي يسمونها بالدعوة العلمية؟ إنهم يزعمون أنهم قدروا عواقبها، وقاسوا مراحلها كما يفعل الفلكي حين يرصد مدار السيارات، ويحسب مواعيد الشروق والغروب وساعات الكسوف والخسوف!
قلت: هذه هي الخرافة التي لا ينبغي أن نصدقها أيها الرفيق، فليس أقدم في هذا العالم الإنساني من الدعوة إلى إنصاف الضعفاء، ولا من الوعد بأمنية النعيم المقيم، ولا من إثارة النفوس على الشيطان الرجيم، ولا من تثبيت العقائد بالحماسة والكفاح، وهذه الدعوة التي يزعمونها «علمية» هي تبشير لا يعوزه شبح الشيطان، ولا الفردوس ولا العقيدة العمياء، وغاية الفرق بينها وبين سابقاتها أن الشيطان هنا هو «الرأسمالية» التي ترجع إليها جميع الخبائث والشرور، وأن الفردوس هو العصر الموعود الذي يسود فيه الصعاليك، وأن حماسة العقيدة هنا هي حماسة المعدات والأحقاد، وليس أكذب ممن يزعم أنه يخاطب العقل، وهو يخاطب المعدة ويخاطب الحسد والحفيظة، فلا إقناع هنا ولا إقناع في غير هذا من ضروب الحماسة والبغضاء، وليس الإقناع بالمعدة بعد الإقناع بالروح تقدما نغبط عليه.
إن صاحبهم كارل ماركس ليزعم أنه يتنبأ عن مصير الأحياء الإنسانية، وهو لم يحي في زمانه قط حياة إنسان، ولم يشعر قط إلا بشعور الجداول والأرقام حيثما كان يجمعها في المتحف البريطاني صباح مساء؛ ولهذا حسب أن الآدميين آلات تقاس حركاتها بالأرقام كما تقاس حركات السكك الحديدية والسيارات، فلا يزال أصحاب الأموال يزدادون ثروة، ولا يزال العمال يزدادون جوعا حتى يصبح العامل، وما في يديه غير القيود وما في جوفه غير الجوع، فيثور ويجازف بالحياة؛ لأن الموت أحب إليه من هذه الحال، ولكن ما القول إذا كان العامل إنسانا حيا ولم يكن آلة جامدة تدار بالحساب؟ ما القول إذا كان هذا العامل يحس بالظلم قبل أن يبلغ مداه، ويحس بالقدرة على دفع الظلم قبل أن يقتله الجوع؟ ما القول إذا كان العمال في الأمم الصناعية يزدادون أجرا، ولا ينقصون منذ مائة عام، وكان في البلاد الأميريكية اليوم عمال يطلبون العلاوة في اليوم الواحد ثلاثة ريالات؟ القول إذن أن النبوءات عن مصير اللحم والدم تحتاج إلى عامل آخر غير عامل الحساب، وتسبقنا إلى نتيجة أخرى غير نتيجة الجمع والطرح والقسمة على القرطاس، وهذا الذي قد حدث فانقطعت بحدوثه تلك السلسلة «العلمية» التي وصل صاحبنا كارل ماركس حلقاتها، فتراجع من أجر قليل إلى أجر أقل منه إلى حرمان ملازم إلى جوع كافر لا يعبأ بشيء، ولا يدفعه إلى الحركة غير اليأس والقنوط!
وهذه الحركة التي قيل: إنها لا تأتي من غير اليأس والقنوط من ذا الذي يقول: إنها حكمة العقل، وإنها مفتاح النعيم المقيم، وأنها خير ما تهتدي إليه الإنسانية، وتتجه إليه العقول؟
هب يا صاحبي أن النتيجة المزعومة - وهي الثورة الشيوعية - هي المصير المحتوم الذي يهدينا إليه الحساب العلمي الصحيح، فمن ذا الذي يقول: إنه إذن هو المصير السعيد الذي نسعى إليه؟ ألا يجوز أن أعرف خط القطار، وأن أحسب حركاته فإذا هي تنتهي إلى هاوية ليس لها قرار؟ أإذا جمعت المسافة، وقسمتها على تلك السرعة، وأرضيت «التقدير العلمي» بهذا فانتهى بنا إلى تلك الهاوية كان حتما لزاما علي أن أسوق القطار إليها، وأن أستعجل دواليبه للنزول بها قبل فوات الفرصة الغراء؟
فقال صاحبي: أليست الثورة الروسية بعد الحرب العالمية الماضية كانت على كل حال نبوءة من هذه النبوءات «العلمية»؟
فبادرته قائلا: بل حماك الله وحمانا أن نغتر بهذه اللجاجة التي أوضع فيها بعض الفارغين ممن لا يعقلون ما يقولون، فما كانت تلك الثورة الروسية إلا ثورة كسائر الثورات التي سبقتها منذ آلاف السنين! ظلم يثور عليه مظلومون وتمالئهم قوة عسكرية، فينتصرون على الظالمين، كذلك ثار الناس منذ عرفت الثورة في التاريخ، فإن كان للنبوءات الماركسية فضل بعد هذا في ثورة الروس، فذلك هو الفضل المعكوس؛ لأن المؤمنين بها حاولوا تطبيقها كما آمنوا بها، فضيعوا عشرين سنة في هذه التجارب المخيبة، وضاعت معها ملايين الأرواح التي فنيت بالسلاح أو فنيت بالقحط والوباء، ثم آل بهم الأمر إلى إقرار ما أنكروه وحاربوه وقتلوا الملايين من أجله، وهو اقتناء الملك وإيداع المال في المصارف وتوريث الأبناء وإباحة الفروق في المعاش، وإعلان العصبية الوطنية، ولو لم يؤمنوا ذلك الإيمان بالنبوءات الماركسية لبلغوا هذا المطلب في سنة واحدة، وعافوا أنفسهم وعافوا الناس معهم من شرور تلك «التجارب»، وخطوب تلك المحاولات.
قال صاحبي: وأنت على مقتك هذا للماركسية لا إخالك تبرئ نظام رأس المال، كما نراه من عيوب وآثام يمقتها كل من يحب الخير لبني الإنسان.
قلت: إن الماركسيين لا يستطيعون أن يمقتوا تلك العيوب كما أمقتها؛ لأنهم يؤمنون بالمادة ولا يؤمنون بغيرها، ومن آمن بالمادة هذا الإيمان لم يستطع أن يلوم عشاقها كل اللوم، أو يعذرهم في عشقها بعض المعذرة، غير أنني بعد هذا كله أقول: إن جشع المستغلين شر ولكن الشيوعية ليست بخير، وإن رأس المال محنة للأخلاق، ولكن الشيوعية محو للأخلاق لا تقوم لها فيه قائمة، وسيأتي يوم يزدري فيه الناس المستغلين في المجتمع الإنساني كما كانوا يزدرون قطاع الطريق، بعد أن كانوا في بعض الأزمان عنوان الشرف ومناط الحمد والثناء، فإذا بلغوا تلك المرتبة كان بلوغهم إياها نموا ورشدا يستحقان كل ثمن تفرضه عليهم سنة الارتقاء، ولم يكن ضرورة من ضرورات العجز والحرمان. أما الشيوعية فما سبيلها إلى إبطال السرقة، وإبطال القسوة في تجميع المال؟ إن بلغت ما تريده، وصح لها ما تزعم وامتنعت السرقة في ظلها على ما ترجوه؛ فإنما تمتنع لأن الناس لا ينتفعون بالمال إذا سرقوه، فلا يملكون به أرضا ولا يودعونه في مصرف، ولا يتركونه بعدهم لوريث، فهم يكفون عن سرقته؛ لأنهم عاجزون عن الانتفاع به؛ لا لأنهم عفوا عن الظلم أو تنزهت ضمائرهم عن العدوان أو ارتقوا قليلا أو كثيرا في سلم المروءة والأخلاق، وتلك فضيلة المسجون أو فضيلة المضطر إلى العفاف، وليست هي بخير من محنة الأخلاق التي تمحصها التجارب، ويتعفف عنها الناس وهم قادرون.
Shafi da ba'a sani ba