A Lokutan Hutu
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
Nau'ikan
لكن هذه الحركة الجديدة كانت قاصرة على أن تمتد إلى جوف البلاد، بل كانت لا تزال متركزة في العاصمة ولا يصل منها إلى بعض المدن إلا صدى لا يؤديها بشكل مضبوط، ولا يترك منها في نفوس أهل تلك المدن إلا أثرا ضعيفا هو أشبه شيء بما يتركه الحلم في وهم الحالم بعد يقظته، كما أنها كانت لا تزال مترددة لم تختط لنفسها طريقا معينا، ولا هي تجددت بحدود خاصة إلا في نفوس بعض الرؤساء القائمين بها.
ولما كانت متركزة في العاصمة كانت كل ملاحظاتها وكل أطماعها وكل الأغراض التي ترمي إليها مأخوذة من نوع حياة العاصمة، وموجهة إلى إصلاح هذا النوع من الحياة. ومن شأن العواصم أن تعزو كل ما تراه بين جدرانها من الخير والشر، وما تتوهم في ربوع البلاد من بر وفقر إلى عمل الحكومة وإلى نظامها؛ لذلك كانت حركات العواصم متطلعة أغلب الأحيان إلى الناحية السياسية. وفي حركة العاصمة المصرية في سنة 1882 شيء من هذا المعنى، لكن ما قدمنا من صفات أوجدتها الظروف الطبيعية والسياسية في الشعب المصري كان من شأنه أن يضعف عزم كل مصلح يريد الدعوة للانقلاب السياسي، ويدعوه للتفكير في البدء بالإصلاح الاجتماعي . هذا فضلا عن أن قوى خارجة كانت تحول بين السياسي وبين نجاح الدعوة للانقلاب؛ لهذا كانت الحركة الحرة التي نشأت عند نشأة قاسم أمين مضطرة إلى أن تهتم بالإصلاح الاجتماعي قبل كل شيء.
ولما كانت هذه الحركات ترمي إلى شيء من التجديد في طرق العمل والتفكير والاعتقاد، كانت المعارضة القائمة في وجهها غاية في الشدة؛ فلم يكن قوامها إلا المركز الممتاز الذي كان للقائمين بها. ولولا مثابرة هؤلاء الرؤساء وما لقوا من التعضيد من بعض الجهات التي كانت تهتم بأن تبقى الحركات الإصلاحية اجتماعية كلها لماتت تلك الحركات في مهدها.
وكان من الحركات الإصلاحية الأخرى التي قامت إلى جانب هذه الأولى حركات ذات وجهة سياسية، اعتمدت في انتشارها على سغب الرأي العام لمثل المبادئ التي كانت تنادي بها، وقد لقيت هذه الحركات نجاحا وانتشارا كبيرا في العاصمة، لكنها اندفعت إلى مقاومة تيار حركة الإصلاح الاجتماعي في بعض ما كانت ترمي إليه مقاومة ذات قيمة.
ولقد ساعد تلك المقاومة أن هذه الأحزاب كانت تناصر المبادئ الجامدة التي توارثتها الأمة وتحبذها، على حين كان أهم ما ترمي إليه حركة الإصلاح الاجتماعي زحزحة الأمة عن مركزها الجامد، وإدخال نوع من التفكير الحر إلى نفسها كي تستعين به على التحلل من بعض العادات والأنظمة؛ أي إن هذه الحركة كانت احتجاجا ناطقا على هذا الجمود وصيحة عالية في وجهه. •••
وكان مما وجه إليه بعض المصلحين نظرهم بوجه خاص ما كانت عليه الأمة - ولا تزال - من الوقوف في الدين عند تفاسير قديمة رأى أولئك المصلحون أنها لا توافق روح العصر الذي يعيشون فيه من جهة، وليست ضربة لازب ولا ضرورة من ضرورات الدين من جهة أخرى؛ فرأوا من الواجب الأخذ بغير هذه الآراء والتحلل من قيودها، ونبذ ما ترتب عليها من المفاسد التي تراكمت بعضها فوق بعض مع الزمن، والتي أصبحت في اعتبارهم علة من العلل التي أصابت الدين وهو منها بريء. وكان على رأس هذه الحركة الشيخ محمد عبده.
ولا شك أن هذا الباب من أبواب الإصلاح كان يومئذ الأساس لكل ما سواه؛ لأن الفكرة الدينية كانت وحدها المتسلطة على عقائد الناس وأخلاقهم وأنظمتهم ومعاملاتهم تسلطا مطلقا لا يفكر أحد في أية وسيلة للتحلل منه ولو إلى أضعف الحدود. ومن أجل ذلك سمح المصلحون الدينيون لأنفسهم أن يجوسوا خلال كل أنواع الإصلاح؛ فكانوا يتقدمون بالرأي في الحال الاقتصادية وفي الحال الأخلاقية وفي الحال الاجتماعية، ولم تكن إلا الحال السياسية هي التي أغلق بابها دونهم؛ لأنها لم تكن في يد الأمة، كما أن أصحابها لم يكونوا ليتهاونوا في أمرها أو ليدعوا لغيرهم أن يبدي فيها رأيا.
ولقد وجه رئيس الحركة الإصلاحية المرحوم الشيخ محمد عبده همه الأول إلى تصفية الدين مما يعتقده الناس من الترهات التي ألصقت به، وكان مثله في ذلك مثل لوثر وكلفن وغيرهما من المصلحين الذين قاموا بالحركة الدينية في أوروبا في القرن السادس عشر؛ أي إنه جعل العقل مقياس الدين، فكل ما لم يتفق مع العقل من تفاسير السابقين هو يعتبره دخيلا لا يستحق البقاء، ويجب أن يقوم مجتهد يحل غيره محله. وكان أكبر همه من ذلك موجها لما يختص بالعقائد؛ لذلك تراه أصدق ما يكون حملة على مسائل الأولياء والنذور وأمثال هذه الطقوس مما هو دخيل على الإيمان بالإله في رأيه، أما ما كان متعلقا بالأنظمة الاجتماعية والاقتصادية، فلم يكن صاحب نشاط فيه وإن كان صاحب رأي. ورأيه إنما كان أغلب الأحيان أثرا من آثار مركزه؛ فقد كان يصدره كفتاوى فيما تطلب منه الحكومة الفتوى فيه، وفيما يعرض عليه من غير الحكومة.
ولقد كان لهذه الحركة التي قام بها الشيخ محمد عبده في وقته من القوة ما لم يكن سهل الاحتمال عند الأمة لولا الظروف الخاصة التي كان فيها الشيخ المفتي؛ فقد كان صاحب الإفتاء في البلاد، كما أنه كان باطلاعه الواسع وبحسن فهمه للظروف المحيطة به وبتوفيقه ما بين العلم الشرقي والعلم الغربي صاحب مكانة لم تتهيأ لغيره من المصلحين؛ مكانة سمحت له أن ينفث روحه في الصحافة ويؤثر بذلك في الرأي العام.
لكن المصريين كانوا مع ذلك أنصار القديم إلا الأقلين منهم؛ كانوا أنصار الطمأنينة للحياة والسكون للماضي والاستسلام للحاضر وعدم الميل لجديد، بل إن كثيرين من الأقلية لم يناصروا الشيخ محمد عبده ومدرسته إلا لغرض في نفوسهم؛ فقد كانوا يرون أن هذه المدرسة تتصل بالسلطة الحاكمة وتقدر بذلك على إفادتهم فائدة مادية؛ لهذا ما لبث الشيخ محمد عبده أن وافاه الأجل المحتوم حتى ابتدأ عقد مدرسته ينفرط، وإن بقيت آثاره في نفوس جماعة الذين لم ينقطعوا للعلم الديني. وبهذه الآثار استطاعوا أن يجعلوا الأمة تسيغ من مبادئهم الحديثة ما لم يكن في وسعها أن تسيغه من قبل.
Shafi da ba'a sani ba