حاسب ضميرك دائما، واسأله في هوادة ولين: «هل صحيح أن يكون تصرفك الأخلاقي في مسألة من المسائل، قانونا، تجري عليه الإنسانية؟» هذا هو لب مذهب كانت في الأخلاق، ولا شبهة مطلقا في أن لهذا القانون علاقة كبيرة بمذهب إيزوقراط اليوناني إذ يقول: «اصنع بغيرك ما تريد أن يصنع غيرك بك.»
ومحكمة الضمير معقودة دائما، ليل نهار، سرا وعلانية، فهل تؤثر ظروف الحالات التي تقوم في الأفق الاجتماعي على هذه المحكمة، وهل تتبع هذه المحكمة شرعة من شرائع الآداب العليا، من غير أن يكون أمامها مبدأ تأتم به. كلا، إن المبدأ هو المهتدى الوحيد الذي تهتدي به هذه المحكمة في ظلمات ما يحف بها من مظاهر الأشياء الإنسانية.
سمعت بأن ستة آلاف من الجنيهات كانت كافية لأن يشترى بها «ضمير» جريدة من الجرائد الكبرى، وسمعت أن ابتسامة حلوة وقليلا من الذهب كان كافيا لأن ينقذ جيش الإسكندر الروسي من إحاطة عسكر الأتراك، وسمعت أيضا أن قليلا من أبهة الملك والسلطان كانت كافية لأن تغري ملوكا بالاستبداد، وأن تلقي بوزراء في أحضان العسف والجور، ينوءون به على كواهل الأمم.
ولا جرم أن كل هؤلاء شرع أمام محكمة «الضمير»، فلو سأل أحد من هؤلاء نفسه يوما: «هل يصح أن يكون تصرفه قاعدة للإنسانية تجري عليها؟» إذن لرجع عن غيه وانصرف عما أقدم عليه؛ ذلك لأنه إذا سأل نفسه على هذا النمط، أدرك لأول وهلة أن هذا القانون يجوز أن يطبق عليه من الغير كما يطبقه على نفسه، إذن يكون الجواب أن خيانة محكمة الضمير إضرار بالإنسانية وبالأفراد، وإذن نعتقد أن محكمة الضمير لا بد لها من قانون أو مبدأ يسير أحكامها في كل ظرف من الظروف.
إذا ساءل مستبد ضميره: «هل يصح أن يكون الاستبداد قانون الأخلاق الإنساني؟» وإذا ساءل مرتش نفسه: «هل تصح الرشوة أن تكون مبدأ المعاملة؟» وإذا ساءل سفاح ضميره: «هل يصح أن يكون القتل صبغة الحيوان الناطق؟» وإذا ساءل كل الأراذل أنفسهم: «هل يصح أن تكون رذائلهم قاعدة يجري عليها المجتمع؟» إذن لخلصت الإنسانية من الشرور والآثام، وإذن لعرف المستبد أن الاستبداد جائز أن ينقلب عليه في نفس الصورة التي يطبقه بها على بقية الناس، وإذن ينتفي أن يكون الظالم مظلوما إذا ظلمه غيره، وينتفي أن يكون السارق مسلوبا إذا سلبه غيره.
وهكذا دواليك، ضع نصب عينيك دائما فكرة أنك فرد من أفراد الإنسانية مهما علت رتبتك وكبر جاهك، اذكر في أعماق نفسك دائما قول إيزوقراط: «اصنع بغيرك ما تريد أن يصنع غيرك بك.»
الخصومة بين الشرق والغرب
بين الشرق والغرب خصومة قديمة، يرجع أصلها إلى الدم وإلى اختلاف النزعات التي يوجدها عادة تباين الناس في الميول والنزعات، فإذا رجعت إلى التاريخ القديم، ألفيت هذه الخصومة قائمة على قاعدة تختلف عن القاعدة التي تقوم عليها الخصومة في العصور الحديثة.
أينعت المدنيات الأولى في جنبات الشرق، وتحت ظلاله الوارفة، ففي غابات الهند القديمة، وفي الوديان الخصيبة كوادي النيل، نشأت أولى الجماعات الإنسانية التي أقامت المدنية، شيدت أسسها مع المدن المسورة الحصينة. ومن طريق المدنية تكونت فكرة القومية، ثم اتسعت فكانت الأمم التي يجمع بين أفرادها نظام المدنية أحد مظاهره.
لهذا كان الشرق أسبق من الغرب إلى تكوين فكرة الاستعمار وغزو الشعوب التي حفت بمراكز المدنية القديمة في وديانها الخصبة وغاباتها الملتفة. وهنالك سبب آخر للخصومة، تستبينه في قيام الروح الدينية في الشرق، فتحت سماء الشرق الصافية وفي براريه وصحراواته المتسعة نشأت الأديان الأولى، فنشأ في الهند بوذا وبراهما، وفي الصين كونفوشيوس العظيم، وفي برية فلسطين موسى، وعلى ضفاف الأردن عيسى، وفي جوف الصحراء محمد؛ هؤلاء هم المصابيح التي شع ضياؤها في سماء الجهالة الأولى، فأنارت السبيل على قدر ما احتملت عقلية الأنام في العصور التي نشئوا فيها. أما الغرب في ذلك الحين، فلم يكن ليسترشد بشيء من هذه الأقباس، بل كان لا يزال عاكفا على الصور الميثولوجية القديمة ، قانعا من الحياة بأن يكون أهله قبائل لا عمل لها إلا ما كان لأعراب البادية من عمل قبل الإسلام وبعده.
Shafi da ba'a sani ba