وهنا نسائله: ألا يحتاج البحث وراء تلك الموضوعات التي يشتغل بها علم الأخلاق، وهي كائنة في تضاعيف النفس الإنسانية، إلى ملكات ومشاعر ومؤهلات تجعل فهم هذه الأشياء على حقيقتها غير ميسور إلا لفئة قليلة من الطبقة المنتقاة من الناس، شأن العلوم الطبيعية والرياضيات؟ ثم نسائله: هل وجود «قلب شريف عدل يعرف أن يخرس الأثرة والشهوة» كاف وحده لأن يكون ميزانا لقياس نظريات علم الأخلاق، ومعرفة أصولها؟ وما هو القلب الشريف العدل؟ وهل يمكننا قبل أن نحدد هذه المعقولات أن نقول إن علم الأخلاق أثبت أركانا من العلوم الطبيعية والرياضيات؟ ثم نسائله: إذا كان من الممكن أن تختلف أجوبة القلب «الشريف العدل» باختلاف الشعوب وباختلاف الأزمان، أفلا يكون من الألزم لمن يقول هذا القول بأن يعتقد بأن قواعد علم الأخلاق نسبية غير مطلقة؟ وعلى الأخص إذا تذكرنا أنه إنما يتخذ أجوبة أهل المدنية الحاضرة مقياسا لأقصى ما يصل إليه علم الأخلاق من رقي في المعقول والتطبيق، وماذا تكون قيمة قواعده هذه عند شعوب أرقى نفوسا وأكرم طبيعة من شعوب المدنية الحديثة؟
إن الإنسانية لا تزال كما كانت منذ أقدم العصور، لا فرق بين متمدينها ومنحطها، من حيث التواضع الأخلاقي، وعلى الأخص في الاتباع العملي للفضائل. وما المدنية الحديثة لدى الواقع إلا مدنية علوم لا مدنية أخلاق. والمثل القديمة تكاد تكون بعينها المثل الحديثة بلا فرق بينها على وجه التقريب، وما عدم لحاق الفضائل بالعقل من حيث الابتكار والتطبيق إلا دليل على ما نذهب إليه.
ثم نسائله: هل حدد معقول الفضيلة لنعرف ما هي النفوس الفاضلة؟ ونسائله: هل وقوع «الجدال في النظريات» غير كاف لأن يستتبعه وقوع الجدال في العمليات؟ وأين هم «الأخيار» الذين اتبعوا في الحياة طريقا بعينها؟ فإن توحيد سلوك الناس الأخيار يقتضي أن يتناول ذلك حتى خطرات نفوسهم وجرائمهم الفكرية، فهل معرفة هذا الأمر مستطاعة في الحقيقة، وإن دل الظاهر على وحدة السلوك عند الأخيار كما يقول سانتهيلير، ما دام يعتقد أن علم الأخلاق كائن في تضاعيف الفطرة؛ أي أنه عبارة عن درس الطبيعة الكامنة للنفس، وأن هذا الدرس لن يتيسر إلا بدرس ظواهر السلوك؟
اللهم إن كان علم الأخلاق هو أثبت العلوم الإنسانية وأشدها وضوحا، وهو بعد على ما يصفه هذا الكتاب، فإنا ولا شك نقول على العلوم الإنسانية السلام.
القرآن وحكومة الإسلام
يحاول أحد أساتذة الجامعة المصرية، وهو أستاذ اللغة العربية والآداب، أن يقول، بل هو يعتقد بأن القرآن ليس بكتاب منزل، وأنه من وضع محمد بن عبد الله، بز به العرب بلاغة تعبير وقوة بيان وحسن سبك وفصاحة أسلوب، فغلبت عليهم فكرة أنه معجز وصحت لديهم من هذا الطريق نبوته، فكان واضع الدين الإسلامي الذي لا يكمل الإسلام من غير أن يذكر اسمه بجانب اسم الله، فيقول المسلم: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
يعتقد الشيخ طه حسين، هذا الاعتقاد، ويحاول أن يبلغ إلى بث فكرته، بمحاولات عديدة، منها محاضراته، التي يلقيها في القرآن يوري فيه تورية، ومنها أحاديثه الخاصة يبوح فيها بما يعتقد. غير أنه لا يجرؤ على أن يجهر برأيه هذا بين الناس ويذيعه على رءوس الأشهاد، فيدور في محاضراته تلك الدورات الغريبة، ويلف تلك اللفات البعيدة التي لا تنتهي إلى غاية ولا تصل إلى قصد معين.
ولست أدري لماذا لا يجاهر الأستاذ برأيه؟ أظن أن السبب في هذا قلة إيمانه، بصحة ما يرى وضعف عقيدته بصلاحية النظرية التي يعتقد بها، وإلا لكان من الواجب عليه أن يذيع رأيه بشجاعة ويدافع عنه بصلابة، إذا كان تام الاعتقاد بصحته.
تقوم في ناحية أخرى فكرة مشابهة لفكرة الأستاذ؛ هي فكرة الشيخ علي عبد الرازق في أصول الحكم في الإسلام، هو في الواقع يريد أن يقول إن حكومة الإسلام لم تقم على قواعد اجتماعية صحيحة، وإنها كانت حكومة مستبدة اجتمعت فيها السلطة الدينية والزمانية في شخص واحد، وإن هذه القاعدة لا يصح أن تكون أساسا لقيام حكومة فيها من النظام الديمقراطي قسط يضمن صلاحية الحكم وقيام العدل بين الناس.
يريد هذا فيلف ذلك اللف البعيد، ويدخل بنا في مناقشات شبيهة بالمناقشات التي دارت في مجمع أفسوس وخلقيدونية ونيقية، ويقذف بنا في بحث مسألة الحكم في الإسلام من ناحية التوكيل الإلهي لشخص محمد عليه السلام، ولماذا لا يقول بأن أصول الحكم في الإسلام بائرة، وأن القاعدة الديمقراطية أصح منها؟ السبب في هذا أن الشجاعة في إبداء الرأي تنقصه، والإيمان بصحة نظريته ناقص غير كامل. قال الأستاذ بيكر بعد بحث طويل في مدلول لفظة «الإسلام» ما يلي:
Shafi da ba'a sani ba