وستكون الفنون العربية الخاصة التي امتاز بها الذوق العربي الشرقي، وآثرها الوجدان العربي، ونمتها الطبيعة الشرقية، وحمتها أصول الحضارة الشرقية، وامتاز بهذا كله الشرق العربي، عن غيره من الغرب أو الشرق غير العربي، ستكون مثل هذه الفنون وموضوعاتها مادة درس، يتعاون فيه الأدباء وأصحاب هذه اللغة على اختلاف دورهم، ويتناقلون بينهم نتائجه وثمراته .
وسيكون أعلام الأدب الذين اتصلوا بأكثر من بيئة، وتجاوبوا مع أكثر من إقليم - وهم غير قليلين في رجال هذا الأدب - سيكونون موضوع درس مشترك إلى حد ما، يحسن فيه التآزر، وتتوزعه أقاليم. فأبو نواس عراقي اتصل بمصر، وأبو تمام ذو صلة بمصر، وقد اتصل بغيرها من البيئات، والمتنبي نزيل مصر قد أشأم وأعرق. ومن هنا يكون أولئك الرجال وأمثالهم موضوع درس بين أصحاب هذه البيئات، يستكملون بتوزيعه فهم هؤلاء الرجال، وتحليل فنهم، أولى من أن يتحدثوا جميعا عنهم حديثا معادا مكررا، يعيد فيه آخرهم ما أبداه الأول، وردده قبله غير واحد. •••
وعلى هذا تكون فكرة الإقليمية في الأدب عاملا منظما لتوزيع الدرس، وتقاسمه بين الدارسين، فتتحد بذلك الدراسة الأدبية للتراث العربي، وتعمق نظرات دارسيها، كما ستكون فكرة البيئة دافعة إلى تلمس النواحي المشتركة من قرب أو بعد، بين أولئك الأقربين الذين تمتهم قرابات قريبة، ووصلتهم بالدنيا وشائج عامة، فيتعاونون تعاونا مجديا، يخصص كل نشاط بعمل، لا تعاونا مكررا، يتواردون فيه على الغرض الواحد، ويرمون به الهدف الواحد، فيضيعون من القوى ما كان خليقا بأن يوجه إلى جانب آخر من الغاية، ويبتغي طرفا من الهدف، فيكون العمل أكمل، والمعرفة أمكن.
كما أن هذه الفكرة سترسخ الشعور بالشخصية في نفس أصحاب الإقليم، وتدفعهم إلى المشاهدة المتمعنة في أنفسهم، والفحص المتعمق لذواتهم، فيتناولون من درسها ما هم أقدر عليه وأبصر به، ويخرجون بنتائج تزيد معرفة هذه الوحدة بنفسها، ومعرفة الباحثين بحقيقتها وقوتها وطاقتها، فتتكون بذلك مجموعة من المعرفة الأدبية لهذا التراث الفني وغيره، تفصيلية كاملة، لا معرفة مجملة عامة، لمجموع مؤلف من قوى عدة، تستحق كل واحدة منها الدرس المتخصص، الذي تتطلبه الحياة العلمية الجادة الطامحة. فإذا ما اكتملت هذه المعرفة بوحدات هذه الكثرة، وحدة وحدة، فقد تهيأ سبيل المعرفة المكتملة المجموع المؤتلف منها، وعاد التقسيم والتفصيل كما قلنا، عاملا من عوامل الاتحاد المؤسس، والتماسك القائم على دعائم. •••
وهنا نسمع الحريصين على التقوي بالوحدة العربية يخافون خطر التمزق إذا ما احترمنا هذا الواقع ، وقدرنا أثر البيئة، يخافون أن يذهب كل قوم بعصبيتهم التاريخية ، فيذهبون معها باتجاههم الأدبي غير العربي؛ فتنبت بذلك الأواصر التي تربط هذه الأقاليم ذات الصلة بالعروبة، والتي تعمل - من أجل الحياة - على توثيق صلاتها، وتقوية روابطها.
وهذا الذي يخشونه ويقولونه يحوجنا إلى الوقوف ثانية عنده هنا في شيء من الأناة، أكثر من الوقفة القصيرة التي أشرنا فيها قبل الآن إلى جملة الرأي عند حديثنا في رد دعاوى أصحاب الوحدة التامة، التي تنكر تميز إقليم عن آخر قد استعمل العربية، واتصل بها (انظر [الأدب المصري - إقليمية الأدب - حول الإقليمية]).
نقف هنا لنقول لهم: أما ما تخشونه من ذهاب كل إقليم مع عصبيته التاريخية؛ فيذهب أهل مصر مع الفرعونية ودعاتها، ويذهب أهل الشام مع الفينيقية ودعاتها، وأهل العراق مع الآشورية مثلا، وأهل المغرب مع البربرية، وتلك أمنية المستعمر الغاصب؛ فهذا ما نخشاه أشد من خشيتكم له، ونؤثر أن نبرأ من كل دراسة لأدب، أو فن، أو علم، إن كانت منتهية بنا يوما ما، بل لحظة ما، إلى شيء من ذلك؛ يمكن للمستعمر، ويهيئ للغاصب!
نقف هنا ونحن نحدث عن معالم المنهج الصحيح لدراسة الأدب وتاريخه، على توزيع إقليمي، يقدر البيئة وأثرها؛ نقف لنقول لهم إن هذا التصحيح الذي أسلفناه للمنهج كاف وحده كل الكفاية لإفساد هذه الفكرة ودحضها وتسفيه الدعاة إليها، فهذا الذي ندعو إليه ونؤيده من فكرة الإقليمية، وأساس البيئة، خليق بأن يلقم هؤلاء الفراعنة أو الفينيقية أو الآشورية أحجارا! ألم تروا كيف وصفنا البيئة بأنها بوتقة الدهر ومختبر الزمن، وأنه يجري فيها مزج العناصر وتأليف الأجزاء، وأننا من أجل هذه المشاهد من فعل القدر، لا يد لنا بإنكار البيئة الطبيعية المادية، ولا بالتخلص من آثار البيئة المعنوية؛ فهل ترون الذين يصفون البيئة هذا الوصف، يستطيعون أن يفهموا، بل أن يقبلوا كيف بقي عنصر فذ مستعص خارج عن الناموس، لا ينفعل، ولا يتأثر، ولا يمازج العناصر التي أذابتها وإياه قوة الوجود في بوتقة الدهر؟!
وهل تروننا حين ننكر عليكم أن تكون العربية يوم طرأت على إقليم من الأقاليم كمصر، قد خلصت من التأثر بما لقيته في هذا الإقليم مما قرره الزمن، ورسبته السنون، وركزته الأجيال؛ هل تروننا حين ننكر عليكم ذلك إنكارا علميا، ونذودكم عنه، بل نذود عنه أنفسنا نحن، وما ينازعها إليه من وراثة وثقافة، وميول قريبة قوية، نعود فنسلم لأصحاب الفرعونية أن هذه الفرعونية قد قامت في مختبر الزمن حجر عثرة، بل معدن عثرة عصي على قوى الحياة فلم ينفعل بشيء مما طرأ عليه قبل العربية، ولا تأثر بشيء مما جاءته هذه العربية، به من مزاجها ودمها ودينها و...، و... إلخ؟!
أحسب أن تصحيحنا للمنهج على هذا الوجه كاف أوفى الكفاية لأن يدفع في صدور أصحاب الفرعونية، ويردعهم ردعا علميا نزيها، لا يتحدث عن الهوى، ولا يشير إلى التعصب، ولا يندد بالشهوات والرغبات والمنافع، بل ينطق في ذلك بلسان العالم المجرب دون غيره. فإنا نذكرهم بأن وجود غيره مبطل لدعوى توحده.
Shafi da ba'a sani ba