وكذلك يكون الشعب العربي الذي استقر بها، منذ الدهر الأول موضوعا مشتركا. فيجب أن يدرس تلك الدراسة العلمية الدقيقة للشعوب من حيث خصائصه ومزاياه، وصلاته وقراباته وماضيه السحيق، في عصور الحياة الغابرة ... إلخ.
ثم كذلك الأمر البيئة المعنوية لهذه الجزيرة، من جوانبها المختلفة، في نظام الحياة بها، في الفرد والأسرة والجماعة، قبيلة أو شعبا أو أوسع من ذلك، في الناحية النظامية للحكم وما إليه، والاعتقادية في الدين وما يتصل به، والفنية في ألوانها المختلفة، من غير الفن القولي أو القولي، والعملية في أوضاعها المتعددة، من اقتصادية وما إليها. تدرس نواحي هذه البيئة المعنوية كافة كما يدرس الشعب، والبيئة المادية التي حل فيها.
ثم تدرس اللغة العربية في هذه الجزيرة على تباعد الأيام، وتطاول الأعصر، واختلاف الدولات، كما يدرس فنها الكلامي تدرس أصولها، وقوانينها، ولهجاتها، وعلاقاتها بغيرها، وعلومها اللغوية المختلفة ، على أن يتخذ لذلك كله من الأهمية كل ما تسلح به إنسان اليوم الناهض الطامح، فلا تقف تلك الدراسات المادية الطبيعية والجنسية البشرية، أو اللغوية الأدبية، عند المقررات المتداولة والمسلمات المتناقلة، ولا تكتفي بالخبر المنقول والحديث المردد. وإنما تتخذ الأهبة لذلك من الحفر والتنقيب، والبحث والتحليل، والجمع والتنضيد، وتجرد لذلك كله البعوث والجماعات والهيئات، وتزود بكل ما يلزم لذلك من عدة وعتاد في غير ضنانة ولا تقتير، ولا استعظام واستكثار. •••
وإذا كان ذلك الدرس المبتغى للجزيرة ومن فيها وما فيها
2
موضوعا مشتركا بين الأمم التي عرفت العروبة، بما دخل على وجودها منها، فسيكون تعاونها على هذا الدرس عاملا مهيئا لنجاحه، مقويا للأمل المبتغى منه. فهذه مصر، وذاك هو الشام والعراق، والمغرب والمشرق، كل أولئك يعنيهم لكي يفهموا أنفسهم أن يعرفوا هذه العروبة التي جاءتهم، معرفة عالمة طامحة، فليتعاونوا في ذلك كله، يجردون البعوث المشتركة، ويقدمون الدارسين المتساندين المتضافرين، ويؤلفون الجماعات العلمية الكبرى، ويبذلون النفقات المشتركة، ويعقدون لذلك المؤتمرات الدورية، في الجزيرة أو في غيرها من أقطارهم؛ ليعرفوا عملهم في هذا السبيل، ويسددوا خطاهم إلى غايته. وتلك أنواع للارتباط والاتصال فيما بينهم، ليست بالمفتعلة ولا بالمصطنعة، بل هم فيها كالإخوة يجتمعون حول سرير أبيهم أو مائدته، حين تفرق بينهم اتجاهات الحياة وواجبات العمل، وتنوع المشرب، وتعدد الأهداف.
وأحسب أن درس الجزيرة على هذا النحو ليس بالهين اليسير، ولا القصير القريب، تفرغ منه تلك الأمم في جيل واحد، أو بعض حياة الجيل، بل هو - بقدر ما نأمل له من كمال - عمل أجيال وطبقات، وفيه متسع ومنفسح لتآزر القوى وتساند الجهود.
وسيكون كل إقليم من هذه الأقاليم، بفضل ما تمتاز به بيئته الخاصة، عاملا ذا أثر معين في فهم جانب من جوانب هذه العروبة، هو بنفسه أقدر عليه وأبصر به.
وتلك هي الخطوة الأولى من الدراسة الأدبية والتاريخية للأدب الإقليمي، مصريا أو غير مصري، وكل ما يزاول منه، أو قل ما يكتفى به الآن، في مدارس مصر أو غيرها، من درس العصر الجاهلي ليس إلا شيئا مؤقتا، وقليلا وضئيلا، لن يغني عن كثير جليل، صحت النية على تحقيقه، وألزم به المنهج الصحيح.
وبهذا يعد درس العربية في جزيرتها أول ما ندرس من هذا الأدب المصري، وعمادا من أعمدة رواقه. •••
Shafi da ba'a sani ba