ولنعد إلى القصة وإلى هذه الخرافة -خرافة العقلية السامية والعقلية الآرية- فالقصة الفنية لم تعرف في الأدب العربي إلى سنة 1740م؛ حيث ألف "رتشردسن" قصته "باملا"6، وعدها النقاد قصة فنية, بل عدوها القصة الأولى، واشترطوا في القصة الجديرة بهذا الاسم شروطا أهمها أن تكون واقعية، وفرقوا بين القصة وبين الشعر في هذا الباب بقوله: "الشعر صوت ينطق بما هو خارق للمألوف، وبما هو أسمى من مجرى الحياة المعهودة, وبالإحساس النادر الذي لا يلم بالإنسان إلا قبسات متباعدة، فهو على الجملة يتحرك في مجال أعلى من مجال الحياة الواقعية، أما النثر فهو -على نقيض ذلك- أداة تعبر عن كل هذه الأشياء تعبيرا أدق وأوفى مما يستطيع الشعر.. من هنا كان النثر أداة ملائمة للتعبير عن حوادث الحياة اليومية التي تجري على المألوف، ولا تكون عظيمة # المغزى, ولما كانت القصة حكاية تروي بالنثر وجها من أوجه النشاط والحركة في حياة الإنسان، فخير لها إذا أن تقص قصة عادية عن الإنسان العادي الحقيقي, كما تجري حياته في عالم الواقع المتكرر كل يوم".
"الحكاية النثرية المثلى" -أي القصيدة- هي التي تشتمل كل ما للنثر من قدرة على التعبير، وقد علمت أن النثر من شأنه أن يعالج الواقعي المألوف، وإذا فروعة القصة وبراعتها أن تروي حكاية الحوادث المألوفة الواقعية الجارية.. ولا يمكن لقصة بمعناها الصحيح أن تنشأ إلا إذا اهتم الناس أولا بأجزاء الحياة وتفصيلاتها اهتماما يحول التافه إلى شيء ذي وزن وشأن، وإلا إذا أخذوا يستمتعون بمطالعة أوجه الحياة المألوفة كما تقع كل يوم".
"على أن القصة الفنية الصحيحة تختار بطلها رجلا عاديا ممن أهملتهم صحائف التاريخ ووقائعه، إذا ليست القصة بحاجة إلى الرجوع إلى الماضي لانتقاء أبطالها من أعلام التاريخ, وأولى لها أن تقصد إلى تصوير هؤلاء الناس الذين نعيش بينهم. أضف إلى ذلك أن معرفة الدقائق التي أحاطت بحياة البطل التاريخي متعذرة أو مستحيلة"1 هذه هي القصة في عرف النقاد الغربيين تعنى بالوقائع وبالجزئيات وبالتفاصيل, وتبعد عن الخيال كل البعد، وإذا كان الأمر يحتاج إلى خيال وإلى مثل أعلى, فالشعر هو وسيلة التعبير، وهذا الرأي الذي قررنا هو رأي المدرسة الواقعية في الأدب, والتي ابتدأت تتجه نحو واقع الحياة منذ القرن الثامن عشر، ولها اليوم السيطرة على الأدب الغربي كله، وقد فصلنا الكلام عن المذهب الواقعي في كتابنا "المسرحية" وأظنك أدركت الغرض الذي من أجله سقنا لك رأي نقاد الغرب في القصة؛ لأن العرب إذا لم يبرزوا في هذه القصة بمعناها الفني عند الغربيين فذلك لسببين:
Shafi 395