جاء الشيح محمد عبده إلى الشيخ دوريش هاربا2 من العلم, وكان في الخامسة عشرة من عمره فتيا قويا مغرما بركوب الخيل واللهو مع أمثاله من الشباب، ولكن الشيح دوريش تلقاه كما يتلقى الطبيب المريض, وعالج هذه العقدة التي كونتها "الآجرومية" في نفس الفتى، وأعطاه كتابا سهلا في المواعظ # والأخلاق, ولم يكن للفتى صبر على القراءة, وسرعان ما مل المجلس، ولكن الشيخ درويشا أخذه برفق وتؤدة, وكان يفسر له ما يقرأ, فوجد الفتى فيما قرأ لذة، وانصرف عن اللهو، وعكف على قراءة الكتب، ويقول في ذلك: "وطلبت منه يوما إبقاء الكتاب معي، فتركه، ومضيت أقراؤه، وكلما مررت بعبارة لم أفهمها وضعت علامة لأسأله عنها، إلى أن جاء وقت الظهر وعصيت في ذلك اليوم كل رغبة في اللعب، وهوى ينازعني إلى البطالة، وعصر ذلك اليوم سألته عما لم أفهمه, فأبان معناه على عادته، وظهر عليه الفرح بما تجدد عندي من الرغبة في المطالعة, والميل إلى الفهم, ولم يأت اليوم الخامس إلا وقد صار أبغض شيء إلي هو ما كنت أحبه من لهو وفخفخة وزهو، وعاد أحب شيء إلي ما كنت أبغضه من مطالعة وفهم"1.
وهكذا استطاع الشيخ درويشا أن يحل العقدة النفسية، ويعيد للفتى ثقته بنفسه وفي ذكائه، ويرغبه في العلم, وقد أفاد الفتى من ذلك درسا لم ينسه مدى حياته، وهو أن الأزهر بحاجة إلى الإصلاح الشامل في كتبه التي تدرس, وفي المعلمين الذين يقومون بالتدريس, وكان هذا أحد أهدافه في الحياة كما سترى.
وقد أفاد من الشيخ درويش درسا آخر وقر في نفسه, وبدل من قيم الأشخاص والناس عنده, فلم يعد يهتم بالتفوق المادي والغنى والجاه، بل علمه أن الإنسان الكامل في هذه الحياة هو من أمن وعمل صالحا سواء كان غنيا أو فقيرا، وعلمه كذلك أن الإسلام الصحيح يتنافى مع الأخلاق المنحلة والفساد؛ لأنه عقيدة وعمل، لا ألفاظ تقال، ثم علمه كذلك أن الإسلام دين سهل سمح، وأن مصدره الذي يجب أن يؤخذ منه هو القرآن وحده2.
ظلت هذه الدروس التي تلقاها في صباه تنمو وتترعرع في نفسه, حتى صارت مبدأ يسعى إليه وغاية يصبوا إلى تحقيقها.
Shafi 282